جمال الغيطاني - الدورية

نزل الصمت فجأة منذ أن أسال اللون الرمادي في الخارج وأغرق الدنيا حتي توغل الليل بظلمته وسكونه. أرهف أذنيه محاولا أن يعرف في أي مكان يوجد زميلاه. لا
يدري هل أخذوهما إلي المكتب أم لا.. خطر له أن يصيح ليناديهما لكن الصمت الليلي العميق سيفضح نداءه. هذه الجدران ت فوح منها رائحة التراب والجفاف وتفصله عنهما لكنه الآن يحس بقربها منه. ظلوا بجواره عدة ساعات متصلة وكلها فكر فيما حدث هذا الصباح يشك في ودوعه. لكنه ينظر إلي الجدران الصفراء المالية. هذا الباب الأسود الضيق المنحني كعجوز كريه مقوس الأكتاف. هذا الرف الخشبي الصغير البارز من الجدار يحمل طبقا مقشورا من الصاج يحوي كمية ماء قليلة. ويقفز إلي ذهنه خاطر مفاجئ كأنه يدرك الحالة التي أصبح فيها لأول مرة. ها أنت وراء خطوط العدو. في إحدي معسكراته بل في سجونه.. ضرب الجدار بقبضته. ربما أجابه أحد من ورائه لكن الصوت رن في الصمت وكأن الضربة أحدثت موجات متتابعة توقفت في أذنيه. لم يجد أحد. ولمدة لحظة قصيرة جاءه هذا الإحساس القائم. أنه بمفرده في هذا المكان كله لكن زميليه كانا معه في الصباح.. لم يتركهما إلا في هذا المكتب الخشبي الصغير ولابد أنهما في مكان قريب منه بالتأكيد. في أي شيء يفكران.
وجه الجاويش محمود كان يبتسم والعربة تنطلق بمحاذاة خطوط العدو.. العجلات تندفع بلا صوت وحولهم كان الفجر رماديا يحمل برودة الصحراء التي تنزل منذ أن يولي النصف الأول من الليل. زحفت العربة فوق مرتفع من الأرض.. نظر إلي الخريطة وقال.. لم نتوغل كثيرا يجب أن نتقدم.. أومأ الجاويش برأسه وأشار إلي المنطقة الفسيحة الجرداء. وراء هذه الكثبان سنجد بالتأكيد تجمعات لهم.
أدار إبراهيم محرك العربة. نزلت المنحدر الرملي ثم استوت فوق الرمال الفسيحة وأحس بالفجر في عروقه. تري في أي مكان مرت به مثل هذه اللحظات.. أول مرة يخرج في داورية تستكشف خطوط العدو. لكن هذه اللحظات مر به قبل الآن.. ربما في ضاحية من ضواحي المدينة الكبرية. في صباح باكر يخرج من بيته. الحركة تستيقظ في الطريق. بنات يرتدين زيا مدرسيا يحملن حقائبهن ويسرعن إلي محطة المترو. أطفال صغار يضعون أيديهم فوق كثاف بعضهم. رجل عجوز يدفع عربة محملة بأوعية اللبن ويصيح بصوت يذكره الآن.. اللبن الحليب.. كأنه يري المدينة والناس في هذه الصحراء وهذه المنطقة التي يستكشف ما بها مع جنوده. نظر إلي الجاويش إبراهيم وضم قبضة يده وأومأ برأسه. اعتدل الجاويش في مقعده وهمس.. أقول لسيادتك صباح الخير. هز رأسه يمرح. إبراهيم هذا قريب جدا إلي قلبه. ما يدور بعقله الآن هو نفس ما يفكر فيه. في حياته كلها لم يشعر بقرب إنسان إلي قلبه كما شعر بالنسبة لإبراهيم ومحمود في هذه اللحظة التي رسمت فيها العربة خطين متعرجين وراءها علي الرمال. يعرف جيدا ما يشعران به، بل إنه أحس بالرمال والصحراء. كل هذا تغلغل في نفسه. وتظلمت نظراته إلي الأمام. فوثب قلبه بين ضلوعه لأن اللعاب في فمه بين ضلوعه لأن اللعاب في فمه. استنشق الهواء البارد في فمه. استنشق الهواء البارد بقوة وضم مدفعه إلي صدره وأحس كأن علاقة بعيدة عميقة إلي صدره وأحس كأن علاقة بعيدة عميقة في القدم ربطته بهذا المدفع. تحرك محمود في مقعده واندفع إبراهيم بالعربة إلي الأمام.
في هذه اللحظة خيل له أنه سمع صوتا بعيدا. نحيل كخيط رفيع ينقطع ليعود فيلتحم من جديد. ربما واحد منهم يصبح في فراغ فسيح. ربما صوت نفير يدعو جنودهم المتناثرين. سمع صياحا قريبا ثم انقطع فجأة. يستطيع أن يفهم كل ما يقولونه فهو يعرف هذه اللغة جيدا.. عاد الصوت النحيل الضعيف وأحس أنه بعيد.. بعيد عن خندقه. عن جنوده. عن مدينته الكبيرة ا لتي يحبها ويعرف شوارعها كلها. عن زحام الناس حول أجهزة الراديو يستمعون في شوق إلي صوت المذيع.. عن الضجيج فوق الأرصفة.. عن مدفعه وشريط ذخيرته. تذكر المسافة ا لطويلة التي قطعتها عربات اللوري الضخمة لتعبر الصحراء. الليل وحرارة يونيو ونظرات التحفظ والسرور في عيون الجنود والضباط. همسأتهم في جوف العربات الضخمة. هذا ما ننتظره من سنوات. اندفع جندي يركب موتوسيكلا بجوار القافلة الطويلة. لوح جندي بيده لرجال وقفوا ينظرون إلي العربات. رأي الطريق ممتدا في جوف الليل مشحونا بالرجال والرغبة في الوصول بسرعة ثم السير بلا توقف بلا نهاية. دارت العجلات واستغرق الطريق ساعات ابتعد فيها عن بلدته. عن مدينته.
الآن يري أمامه هذه المدينة الكبيرة وكأنها خلف هذا الجدار. يحس نبضها. يسمع وشوشتها. وهسيسها الذي تعود سماعه إذا ما مضت الساعات الأولي من الليل. صوت عربة. صياح طفلة. ضحكة مرحة. ابتسامات الشبان السائرين في شوارعها العريضة. دعوات أم لابنها الذاهب إلي الامتحان. قبلة أب لابنته القادمة من سفر بعيد. انتهاء رجل من صلاته وتمتمة شفتيه. صفير راديو في الصباح الباكر. كل شيء يراه الآن. إنها قريبة منه. شديدة الالتصاق به. وهذه الطرق والبلدان التي مر عليها والنساء والرجال والأطفال الذين لوحوا لهم بأيديهم وألقوا إليهم بالآمال والأماني. حتي هذه المساحات الواسعة من الأراضي ا لخضراء والزرع التي يحدها الأفق والعربات تمشي علي مهل. أنه يحس كل شيء عاشه وراه. شيء خفي يمتد من هنا إلي كل بيت في مدينته وإلي كل سنبلة قمح يكاد الأصفرار أن يكسوها راها أثناء رحيله. أنه مسئول عن هذا كله. قوي ا لصلة به. في هذه الزنزانة الصغيرة الخانقة يحمي كل شيء في الناحية المقابلة حيث دمه وقائده وكليته وجنوده وقلبه كما أنهم يحمونه ويحسونه الآن.
عندما نظر إليه الضابط القصير كريه الوجه. سأله:
- اسمك. رتبتك. وحدتك. كتيبتك.
ضيق عينه. زم شفتيه. ليس هذا ضابط. أنه كراهينة. أيد ملوث بدماء أطفال لم يجف غربان سوداء تنقض لتنتزع شيوخا وعجائز من بيوتهم وتلقيهم إلي الضياع.. وطاويط سوداء تحيل النهار ظلاما وتنفث الحقد والسم فتجثث كل عامر وغامر.
قال الضابط اليهودي..
لا تتكلم.. يبدو أنك متعب
من الجاويش محمود رأسه ــ إبراهيم لم يتكلم أبدا ــ شعر براحة ونظر إلي الخلف. كانوا يبتعدون بإبراهيم ومحمود ومرة أخري أحس براحة. لم تمض نصف ساعة حتي فتح باب الزنزانة. كان رجل ضخم أفطس ا لأنف.. قال بالعربية. معك منديل.
أحاط عينيه ولم ير ما حوله. سمع صوت غليظ. أجري.. أجري.. أسرعت خطواته. تطاير بخار الغضب من عينيه. نزل سلما. واحد. اثنان. ثلاث درجات. قف. سمع خطوات خفيه تقترب منه. شم رائحة صفراء لسجائر قوية. ثم صوتا خفيفا كان شيئا رفيعا يسحب. هز كتفيه وفي هذه اللحظة ا نتابه شعور بأنه يريد أن يضحك في صوت عال. قال الصوت:
- ياه.. هل أنت مرهق.. هز رأسه. أحس بالخطوات تقترب منه.
علي العموم نحن ضباط.. لقد سكنت في شبرا زمنا طويلا. عشت شبابي في مصر.
أومأ برأسه إيماءة خفيفة.
وطبعا أنت تعرف معلومات معينة.. أي شيء رما تأفه. ربما لا قيمة له في نظرك لكننا لابد أن نحيط بكل الأمور.. أه.. أتفهمني.. أنني أعاملك كضابط.
عاوده هذا الشعور القوي بالرغبة في السخرية. فلتنته أيها اللعين من اللف والدوران. يعرف جيدا ما يريده. لكنه لو فعل كل ما يستطيعه وما لا يستطيعه فلن يجد عنده ما يساوي ذرة تراب.
ومهما استعملوا من وسائل فلن يتألم ولن يحدث لسانه صوتا يشبه اختراق دبوس لورقة أو سقوط إبرة فوق كومة قش أو اصطدام قطرة ماء بسطح بحر.
عاد الصوت اللزج الخافت يهمس بالقرب منه.
طبعا نحن نعرف كل شيء. لكن ما يضرنا لو عرفنا ما عندك. لا. لا.. انتظر يا إسحق لا تستعمل هذا الآن.. ألا تري أنه سيتكلم.
عيناه توثبتا تحت المنديل. اقتربت رائحة التبغ الكريهة اللزجة ودغدغت أنفه.
رجل كريه الوجه قاتم البشرة مشوه ا لملامح يقذف فمه كتلة عفن صفراء. لامست الأنفاس المقيتة وجهه.. تصلبت عروق رقبته. تزايد الحفيف القريب. عاوده الضيق من هذا المنديل اللعين. اختلطت أشكال براقة أمام عينيه. تميمت الأرض الصلبة لمدة لحظات. ضغط أسنانه. صاح الضابط اليهودي وضرب الأرض بقدمه مغتاظا ثم وضع يده فوق كتفه يا حبيب تكلم. تكلم. أنت تجازف بنفسك.
ساد صمت سمع فيه الحفيف المستمر.. قال ببطء.
لن أتكلم ألا أمام لجنة من الهدنة تعيدني فورا.
صاح الضابط من بين أسنانه وتزايدت رائحته التبغ العفن.
أنت تقامر بنفسك.. لقد تكلم زملاؤك.
اهتزت رأسه يمينا وشمالا. عندما عاد يقطع الفناء جريا غمرته راحة. ما الذي يمكن أن يحدث أكثر من هذا.. كتلة التبغ تصرخ في الداخل وتتميز غيظا. لفحت وجهه نسمة هواء باردة جففت حبات عرق كانت قد انبثقت من جبهته وتدخرجت إلي عنقه.. ورأي مساحات واسعة من الرمال تتدفق فوقها عربات محملة برجال سمر يتطلعون إليه. في السماء حامت أسراب طيور رمادية اللون قطعت المسافة بينه وبينهم. هفهفت بأجنحتها وعلت ثم انخفضت كأنها تقول.. ابتعوني.. أنصت جندي إلي نداء رقيق يبثه الراديو من أشقاء في المدينة الكبيرة. في خيمة صغيرة أسند صاحبه رأسه إلي البطأنية واحتضن مدفعه وتذكر الرسالة القصيرة التي لابد وأن يكتبها غدا وخيل له أنه يسمع نداء طفلة صغيرة.. أين أنت يا أبي. أين أنت.
وأحس برغبة في أن يسمع لحنا ما يثير في نفسه مشاعر شتي. كان ينظر إليه كعصافير حائرة رقيقة عطي تحط علي حافة جدول صاف يسبح في ضوء فجر رقيق. في هذه اللحظة امتدت نحوه يد هائلة من الناحية الأخري. حيث الرجال والجنود وفوهات المدافع. كنت يد هشيمة برائحة المدينة البعيدة والبلاد الصغيرة والقري والناس والأطفال الصغار.. خفق قلبه. أنه يحوي هذا كله.. يلتصق به. يذوب فيه.
إزداد الليل من حوله عمقا. ليل الصحراء الحار في بداية الليل ثم يبرد شيئا فشيئا.
وعندما يقترب الفجر يكون الهواء البارد قد زحف وتغلغل في ظلمة الليل. تري ماذا يفعلون الآن.. لابد أنهم نائمون والبعض صاح وآخرون يجوبون الرمال بحثا عنه وعن محمود وإبراهيم. إن صيحاتهم تصل إليه. عيونهم تزيد من خفقان قلبه. كلهم يعرفون أين هو الآن حتي مدينته الخالية شوارعها الآن بعد أن تجمع أهلها حول أجهزة الراديو واستمعوا إلي نشرة الأخبار الأخيرة ثم مضوا إلي بيوتهم رافعين أيديهم بالدعاء.. مدينته تشعر به الآن. نبضاتها تحسه كما يراها هو بداخله.
أردف أذنيه.
هل سمع صوتا. ربما شعر به لكن ثمة صيحة أطلقت فوق مرتفع بعيد. عالية قوية متموجة قطعت كل هذه المسافة لتصل إلي أذنيه. أصغي. عاد السكون ألا أصوات ليلهم المحموم.. صياح جندي بين فترة وأخري. استند إلي الجدار وأغمض عينيه.. أحس بضوء النار يسال بطيئا في الخارج طاردا العتمة والظلمة.


جمال الغيطاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى