عبد الرزّاق بوتمزّار - الرّحلة الأخيرة.. قصة قصيرة

ألقى بجسده فوق المقعد وأشعل اللّمبة الصّغيرةَ، مادّاً يده اليمنى لجمع الصّرْف. إلى يمينه صديقان نقَداه دراهمه قبل أن يركبا وينخرطا في حديث ودّي تتخلّله ضحكات. الرّاكبُ الثالث شابّ يقف وحيدا، بملامحَ مُخيفة نوعاً ما، منتظراً، بتأفّف ظاهر، اكتمال العدد. وقفتُ قربَه وشرعتُ أفتّش في جيوبي الكثيرة الفارغة، عدَا أحدِها، عن الصّرْف. سبعة دراهمَ هي "الطريفة" المعمول بها في هذا الخط بمُجرّد ما تبدأ الفترة الليلية.
صار ينقصُ راكبان فقط وتنطلق الرحلة. بدأ التعب يتمكّن من جسدي، فاتكأتُ على الجانب الأيمن للنّاقلة. فكّرتُ في إشعال سيجارةٍ إضافية ونفثِ سُمومها في وجه المدينة الخائنة. تخيّلتُني أنفث دخاناً بكثافةِ النّيران التي تخرج من أفواهِ وأنوف التنانين الشّريرة في القصص الآسيوية العجيبة. أَحرقُ المارّة الذين لا أحبّ في شوارع المدينة وفي المحطات والمتنزّهات العامّة. أَحرِق -في خيالي- البشر غيرَ اللائقين في سماء المدينةِ. أتفادى، ما أمكنَني، إلحاقَ الأذى بالشوارع والمحطات والمتنزّهات. غايتي إحراق البشر الذين يرفضهم تصوّري وإبادتهم من المدينة الفُضلى، وليس غيرهم من البشر والعمارة والأشجار. أنخرط في عملية الإبادة بحماس. أصير قاتلاً من مكان آخَر في زمنٍ آخَر.
فجأةً، لاح مقبلاً، بعزيمة وتصميم باديّيْن، مُصرّاً على المواجَهة والحسم، وسلاحُه الأسود يروح ويجيء في يده اليمنى. عدّلتُ وقفتي وتحفّزتُ لإحراقه حالَما يأتي حركة غريبة. لا يهمّني أن يحترق معه هؤلاء الأشخاص الثلاثة، الذين لا أتبيّن ملامحهم، المُحيطين بي. عندما اقترب أكثر وهممتُ بإبادته بنيراني، سمعتُ صوت شخصٍ آخَر يقول: "إيّهْ، لمْحاميدْ، أَرَى أخُويا، عْندك شي صْريّف تمّ؟"..
كان ذلك الرّاكبَ الخامس. مدّ اليد الأخرى، التي لا تحمل سلاحَه.. وعاءه البلاستيكيّ الأسودَ، نحو السائق. انتبهتُ إلى أنّني لم أُشعلْ في جوفي نيراناً حتى أقذفها في وجوه كلّ هؤلاء الأعداء المُتربّصين عبثاً بحدائق حقولي، التي لا تريد أن تُزهرَ، والأزمنةُ ربيع! لم أشعِل السّيجارة الإضافية، إذن؛ لم أحرقْ أحداً، لم أحرقْني.
الرّاكبُ السادس لم يتأخّر كثيراً. جاء مُلصقاً سلاحَه.. هاتفَه بأذنه اليسرى، خائضا في حديث لمْ يقطعه حتى وهو يسحب الصّرف من جيب سرواله الطّـْويلْ.
-غادي ننزْل غيرْ فدار الضّو..
-صافي، خْلّيك، أَوْستادْ، حْتّى يْطلعُو.
وطلَعوا. في رحلاتِ الليل لا داعيّ إلى كثيرِ مناقشات مع السّائقين. يعرف الرّكاب ذلك؛ يصعدون صامتين إلى جوف الدّابةِ قبل أن "يتقلّق" السائق، فجأةً ودون سبب واضح، ويرفض انطلاق الرّحلة. جلستُ قرب الباب؛ سأكون أولَ النازلين في الرّحلة 419.
ألقى جسده فوق المقعد وأشعل اللّمبة الصّغيرةَ فوق رأسه مجدّدا، مادّاً يده اليمنى لجمع الصّرْف ممّن لم يدفعوا بعدُ من مستوطني جوف السّيارة الألمانية، في آخِر رحلاتها. لا يشغل تفكيرَه غيرُ سيارته التي أمضتْ معه رحلة امتدّت خمساً وعشرين سنَة وستة شهور وأحدَ عشر يوماً. لا يهمّه مَن يركب معه ولا مَن تركب. صار، في الأيام الأخيرة، يعيش في الماضي. ما إن تنطلق به حبيبته في رحلة حتى ينفصل عن جغرافيا المدينة. كيف يرضى لناقلته هذا المصيرَ المحتوم؟!..
"لا مناص من ذلك، لماذا تحاول، دائماً، اعتراضَ أقدارٍ لا يُمْكن اعتراضها؟ الجميعُ استغنوا عن سياراتهم القديمة، افعل مثلَهم واستفدْ مِن المساعَدة واشترِ أخرى جديدة، مثلما اشترَوا، وانتهِ من الأمر!".. يصلُه آخِر ما قالت له وهو يغادر البيت، لكنه يرفض حتى تصورَ الأمر. "لا بدّ أن يكون هناك حلّ آخَر، يجب أن أجدَه، وفي أقرب وقت. أنتِ لا تفهمين العلاقةَ بيني وبينها، أبدا لن تفهميها!"..
تحرّكتِ الناقلةُ وأنا أعُـدّ الدقائق، أعُـدّ الثواني. تنتظرُني مهمّة مُستعجلة يجب أن أؤديها اللّيلةَ وإلاّ عليّ نسيانُ أمرها إلى الأبد؛ مهمّة لا تحتمل تأجيلا ولو لدقائق. فاتَني ذلك في الليلةِ السّابقة بسبب احتياج الآلة الغبيّة /الذكيّة إلى الطاقة. بدأ صوتُ الرّاكب السادس يعلو على صوتِ الصّديقَين في الكرسيين الأماميين ويُغطي على كلامهما الهادئ، الذي تتخلّله ضحكات: "ألُـو أنا تنسمعكْ.. راه غيرْ فالتّاكسي دابَا.. گْلت ليكْ شُوف لخُوك شي شاري، راه ميّة مترُو هيّ، وْالله ما ناوي نْبيعها كونْ ما كنتْ مزيّرْ فشي فلوس.. وْنزيدْك: وْالله لا لْقى ميّة مِترُو بستّة تالمليونْ واخّا يقلّب سْعادة كلّهـا.. وْالله إلى هْمزة ما كرهتهاشّ لرأسي، أنا البايْع.. واهْ! لمزاحْ هادا؟.. شْكون هاداكْ اللّي حْداك، رشيد، ياكْ؟.. دُوّزُو، دوّزُو ليّ نسُوّلو أش باقي دارْ مْع دوكْ النّاسْ.. ألو، بّا رشيدْ، هانْية؟ بيتْ غير نسُوّلك كي بْقات الأختْ ديالكْ، شْويّة؟ الحمدُ لله، أش باقِي دْرتِ ليّ فديكْ البِيعة وْالشّرية، تيسّراتْ الأمور، ياكْ!؟"...
لمْ يتوقّف، للحظة، عن الحديث في البيع والشّرا في كافّة جهات وضواحي المدينة إلا وقد قطعتِ السّيارة نصف المسافة. بداياتُ "بوعْكّاز"؛ وحش عقاريّ كامن في هدأة الليل، ببناياته المتناثرة هنا وهناك وبينها مسافاتٌ مديدة من الأرضِ الخلاء وأميالٌ من الأضواء المتراصّة في صفوف أنيقة.. يا شاري يا شاري، خُدْ ما يْحلَى لـْك!..
"واش عْرفتِ بَشحال باعُو النّاس غيرْ فالدّواورْ وْبْعيد عْلى سْعادة وَلا عْلى العْزّوزية وَلا قطّارة وَلا لُوداية وَلا تسلطانتْ!؟ المُوهيمّ، شوف أخويا، راهْ كايْنة مْنيار وْسبعْ ميّة غيرْ فالنّواحي، اللّي ما بَاهَا حْتّى بُوبي. إيّييهْ أمْعلّم، وْاللهْ إلى شْرَا واحْد الـگاوْري، وفْالفْيافي، واحْد لگـْتارْ بمنْيارْ وْسبعمِيّة!.. المهمّ، نبقاوْ عْلى اتّصالْ، إلى دبّرتْ عْلى سْتّة كيلو مْنّ هْنا واحد اليُومِين نردّ عليكْ، ما كايْن لاش نْبيع إلى لقيتْ مْنين ندبّرْ على هادْ لمليناتْ اللي خاصّينّي"...
حين سكتَ، أخيراً، عن بيعِ كلّ المدينة، الخائنة في خيالي، وأنا أنفث نيراني، دخان سجايري، على البشرِ غير النّافع في شوارع المدينة ومحطاتها ومتنزّهاتها العامّة، قال الرّاكب الخامس، وهو يتفرّسُ ملامح المدينة النّائمة في حضن البرّاني، فرِحةً فرْحةَ صيّادٍ مُحترف بغنيمة:
-أخويا هادْ لمدينة مْن نهارْ دخلها البْرّاني وْطلعاتْ فيها الأرضْ ما باقِي نزلاتْ.. هادْ النصارَى، حْتّى هُومَا وْلاّو يْشرِيوْ كلشي، تيغلّيوْ غيرْ على المْسكينْ.
تكلم السّائق لأول مرّة. ظلّ، على امتداد نصف مسافةِ رحلتِه الأخيرة، في هذه الليلة على الأقلّ، يَتْبعُ، مُنقاداً، تسلسُلَ أحداثِ أعوامه الخمسة والعشرين بصحبة حُبّه الأول والأخير، سيارته الميرسيدس الألمانية، العتيدة والعنيدة. وَدّ لو أمكنَه إشعال سيجارة ونفْث دخانِها /نيرانها في وجه سكان المدينة، وأولهم ركّاب رحلته الليليةِ الأخيرة هذه. لكنْ يُمنَع التدخينُ وفي جوفِ الألمانيةِ ستّة رؤوس من "كْحل الرّاسْ". امتصّ تقليقتَه وهو ينفث، مِن بينِ أسنان مُسوّسة وشفتين تبتسمان في شرٍّ على حوافّ فمٍ أدرد، تعليقاً يقطر شماتةً وتشفّيا:
-لا، أخويا، هادِي غيرْ سْمح ليّ فيها! النّصارَى ما يْبيعُو معاكْ ما يْشرِيوْ إلى ما كانْ التّيتْر! واقِيلا أنتَ تتهْدرْ عْلى شِي مْدينة أخرَى مْن غير مْرّاكش! النّصارَى فهادْ المْدينة إلى ما عارْفو عْندك التّيترْ ما يْردّو عْليكْ حتى السّلامْ!
سألتُنِي، أنا الرّاكبُ الرّابع في الرّحلة 419: تُرَى هل أتمكّن من إنجاز المهمّة قبل أن تستحيل فرصُ أدائها وتنتفي، بعد دقائق، كما غيمةٍ في سماء لا تُزهر ولو في ربيع، عدَماً؟ في الأفق، ثمّةَ القمرُ، كما رأيتُه ليلةَ البارحة تماماً، يُطلّ خجولاً مِن وراء غيمَةٍ لا يُوصَف جمالُها. تمنّيتُ أن أبلغ سطحَ كوخي الصّغير، بسرعة وألتقِط الصّورةَ التي رأيتُ فيها، الليلةَ الماضيةَ، وجهَ القمر، الودودَ، مُهلاّ، باستحياءٍ آسِر، مِن خلف دمعة، مُزنَةٍ تُجلّله، في لوحةٍ لا تُحيط بسحرها الأوصاف.
(عسى ألا تكونوا بعتُم أحلامَنا في مدينتكم، أمّا الأرضُ فبيعتْ للبرّاني، مِن زمانْ، وبالتّيترْ).
تطلّعتُ إلى السماءِ بلهفة. ما زالتْ هناك، دمعة السّماء، غيمةُ الليلِ البديعة تُحيط، في بهاء وألقٍ صافيّيْن، بوجه القمر في مدينة بيعتْ مع ما بِيع وتنام هانئة، فرِحةً فرْحةَ صيّاد مُحترف بغنيمة. لن يفوتَني الليلةَ أن أحقّقَ حُلمَ البارحة. سألتقط الصّورة التي عجزتُ عن القبض عليها، وأنا في الطريق ليلة أمس، حيث كانتِ الصّورة أروع لولا أنّ.. لولا أنّ عْدْستي، هذه الآلة الغبيّة، اللعينة مثل هذي المدينة، كانت في حاجةٍ إلى الشّحن.
"ماذا لو لم يُتح لنا الحلمُ ولو في فرصتين بين رحلة ورحلة، في مدينة خائنة بيعتْ وتنام فرِحةً فرحةَ صيّاد مُحترف بغنيمة!؟".. سألتُني، وأنا أغادر جوف الناقلة. أشعلتُ سيجارة وشرعتُ أنفثُ -في خيالي- دخانها.. نيرانها في وجهِ مَن لم يناموا بعدُ ممّن لا أحبّ وجودهم في المدينة الخائنة الْـ... بِيعتْ وتنام فرِحةً فرحةَ صيّاد مُحترف بغنيمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى