شهادات خاصة محمد عز الدين التازي - محمد شكري حيا وميتا في ذكري رحيله الأولى.. الجزء الثاني من (محمد شكري كاتب من زماننا)

ـ 1 ـ
لأن الموتى لا يعودون، ولأننا لا نستعيدهم إلا ونحن أحياء، فقد شغلني موت الكثير من الأحبة، ومن بينهم العزيز الراحل محمد شكري، حتى أصبح هذا الانشغال يهيمن على الكثير من لحظات حياتي. لا يمكن للمخلصين للأموات ـ كما هم مخلصون للأحياء ـ أن يستثمروا الموت في شيء، ما عدا في يقظات الذاكرة التي تعيد للمعيش المشترك ألقه ونصاعته وكأن الأشياء التي تم عيشها في الحياة تستمر حتى مع الفقدان. العيش مع الأموات، بل العيش مع الأموات وهم أحياء، ترصيع لذاكرة خصبة باسترجاعات ممكنة لأبهاء الحياة وجمالياتها وعنفوانها، وهو كل ما يتبقى. لا يستطيع المخلصون للأموات أن يعيشوا معهم إلا في حياتهم التي عاشوها مقتسمة مع الآخرين.


2
كان عام قد مضى على فقدان محمد شكري. في يوم الجمعة الثاني عشر من نوفمبر 2004، الموافق للتاسع والعشرين من شهر رمضان، وقد بقي لعيد الفطر أن يهل في الغد أو بعد غد، استرقت وقتا من زحمة أشغالي ومرضي وضرورة الاستعداد للعيد بعد أن استبدت بي ذكرى العزيز الراحل محمد، وقررت أن أذهب لزيارة قبره والترحم عليه. قبل ذهابي إلى طنجة بدأت سحب كثيفة تنذر بالمطر في مرتيل، فترددت في الذهاب، وحيث لا يمكن لأحد أن يزور القبور في يوم ماطر. فكرت في أن السحب الكثيفة التي تغطي سماء مرتيل قد لا تكون هي نفسها تغطي سماء طنجة، فهذا أول الغيث في عام تأخر فيه سقوط المطر، ويحتمل ألا تكون سماء طنجة داكنة بالسحب المبشرة بالمطر كما هو الحال في مرتيل. بدأ صبيب المطر، وبدافع من رغبة داخلية رأيت أن أذهب. مرافقتي شجعتني على الذهاب. أخذنا مطريتين احتمالا لأن ندخل بهما المقبرة. إن أمطرت في طنجة فسيخضَرُّ قلب شكري أكثر مما كان أخضر. كنت أزوره حيا وها أنا أهمُّ اليوم بزيارته ميتا. مفارقة صنعها الموت ولم يصنعها أحد، تبدو لي موحية باستحضار محمد، استحضارا جميلا وآسرا بزخم الذكريات واللحظات والأيام والأعوام.


3 ـ
كما جاء في عنوان إحدى قصصه القصيرة (بشير حيا وميتا)، الذي أستعيره هنا منه، فها هو جزء من سيرته الأخرى، غير المكتوبة، يمثل أمامي، كما حكاه لي أو كما عشته معه، أو هي الصورة التي تكونت لدي عن حياته الخاصة، ومواقفه من الناس ومن الحياة والمرض والموت، ومن الثقافة والإبداع والأدب والأدباء، وضحكاته وهو فرح كطفل، وما كان يشعر به من انتكاس، كما لاحظت، خلال خمسة وثلاثين عاما من صداقتنا. بالندرة نفسها التي تشكل علاقتي الخاصة بأصدقاء قليلين، وحيث اقتربت من ملامح شخصيتهم ومن عوالمهم وعلاقتهم بالآخرين، فمحمد شكري من بين النادرين الذين تجلوا أمامي بباطنهم الذي كظاهرهم، بتوترهم وقلقهم الإنساني العميق، بتطلعهم إلى الحياة والكتابة وهما يترادفان في معنى واحد هو معنى الوجود. ما كانت خصوماتنا العابرة غير ملح في الطعام، فهي لم تخلف أحقادا أو حسابات أو جراحا في الذاكرة، بل خلفت صدى عميقا لأصوات الانتماء إلى سلالة الكتابة وسلالة المحبة. بذلك الانتماء تكاشفنا وما كان لنا ما نخبئه عن الناس. في تلك المكاشفات كانت مرايا الذات تعكس صورة من صور معيش الآخر، هي مرايا ذات الآخر. وبالرغم من إعجابه الكبير بما أنجزه في مجال الكتابة، ومن شهرة، وما تحقق له من ترجمات إلى لغات عالمية، فما كان يريد أن يغيظ أحد أصدقائه الكتاب بقوله: ـ أنا كاتب عالمي، وأنت كاتب محلي. تعليقاته الساخرة على لقب "الكاتب الكبير" الذي كان يحظى به الصديق الراحل محمد زفزاف، لم تكن تنقيصا مما كتبه زفزاف. فشكري كان لا يقيم مثل تلك الممازحات إلا من أجل تبديد ما يُثقل به الزمن على القلوب من سأم، وما كان ينازعه في كونه كاتبا عالميا سوى كتاب انشغلوا بالآخرين ولم ينشغلوا بالكتابة. كان يعرف أنني لست من أولائك، وكان يُقدر ما أكتب، ويعلن لي أن حظا سعيدا قد واتاه وهو الحظ الذي لم يوات الكتاب الآخرين. كقارئ لأعمال الكتاب الآخرين كانت له آراؤه فيما يكتبون، يمحصها انطلاقا من تجربته في الكتابة ومن ثقافته واتساع مقروءاته في الآداب العالمية. هل كان يمكن لشكري أن يغار من كاتب أصدر كتابا جيدا أو نال جائزة أو احتفى به أحد المنتديات، وهو من كان مزهوا إلى حد النرجسية بما يصدر لكتبه من ترجمات إلى اللغات العالمية؟ مع ذلك، فقد كان يعرف أنه ليس الكاتب المغربي الوحيد، إلا من حيث نقل أعماله إلى أكثر من عشرين لغة عالمية، وكان يعترف بوجود كتاب مغاربة وعرب، (قد) يكونون قد كتبوا روايات أجود من تلك التي كتب، ولكنه الحظ الذي يلعب دوره في الرفع من أسهم الكاتب، كما كان يقول. ملاحظاته حول ما كان يقرأ من روايات لمحمد برادة وإدوار الخراط وصنع الله إبراهيم كانت تستند إلى نقد خاص بمحمد شكري، له الكثير من المعيارية التي تعتمد على الذوق أكثر مما له من قراءة أخرى، وبحكم طبيعته الريفية، وأَنَفَتِه، كان لا يبجل أحدا، فكيف به يبجل كاتبا، وبحكم طبيعته الشخصية أيضا، فقد كان لا يحسد الكتاب على ما أنجزوه من أعمال، وكان يدري أن أعماله قليلة بالقياس مع كتاب آخرين، عرب ومغاربة، فقد اعترت حياته الأدبية انقطاعات عن الكتابة، دام أطولها لخمسة عشر سنة، خلالها لم يكن متضايقا من أ،ه لا يكتب، بل كان مستسلما لعيشه الخاص، ودون تضخيم للمأزق الذي كان يوجد فيه ككاتب. هكذا هو. حتى في تلك المراحل التي لم يكتب فيها كان "يكتب في ذهنه" كما يقول. بمعنى أو بآخر، فقد كان يُخَمِّرُ تجاربه ويستعد لأن يكتب عملا مغايرا، وفي ذلك الاختمار، جاءت روايته "زمن الأخطاء"، حافلة برؤية جديدة لمعنى الكتابة عن الذات، وحيث تجاوز تجربة البوح من أجل البوح، كما تجلت في "الخبز الحافي" إلى تصنيع للكتابة، بتعاملها الخاص مع اللغة والتخييل. الأهم في تجربة محمد شكري هو أن معيشه الخاص، في علاقته بالكتابة، يشكلان جدلا خاصا، فينابيع الكتابة والتخييل لديه، لا تخرج عن محيط الذات إلا لكي تُوَسِّعَ من محيط الذات. حياته يكتبها وحياة الآخرين لا تحضر إلا من خلال ذاته في الكتابة. لم يراهن على أن يكتب تجربة لا تنتمي إلى معيشه الخاص، إلا من حيث انبهاره بشخصيات استثنائية كان لها، كأشخاص حقيقيين، نوع من التماس مع حياته الخاصة، سواء عن طريق الملاحظة المباشرة، أو عن طريق المشاركة. لم يمل محمد شكري في كتاباته السردية، إلى أن يتجرد عن ذاته ليخلق من عالم الكتابة ومتخيلها شخصيات تعيش واقعها ومصائرها، وهذا في تقديري، راجع إلى نوع من المباشرة في تصيد لحظات الكتابة، وهي مباشرة لا تذهب نحو التصعيد التخييلي الذي يبني عالما روائيا يستقل عن حياة الكاتب، فشكري ظل ملتصقا بحياته وتجاربه في الحياة، وما حضور الآخرين في سياقات أعماله، كشخصيات، سوى تعزيز للفضاء الاجتماعي الذي عاش فيه. يعني ذلك، أن شكري قد كتب سيرته في كل ما كتب، وحتى قصصه القصيرة، ما هي إلا استيحاء لشخصيات لها مرجعيتها في الواقع، ولها تماسها مع حياته الخاصة. لا تعني هذه الملاحظة استبخاسا لما كتبه محمد شكري من أعمال، ظلت لصيقة بسيرته، ولكنها تعنى كشفا عن خصوصيته ككاتب، استثمر تجارب الذات، من أجل وضعها في الكتابة.


4 ـ

في ما نلقاه في الحياة من أناس، هناك الكرام وهناك اللئام. والمرء كما يعرف الكرام فهو يعرف اللئام. يعرف أيضا من يظهرون كالكرام ولكنهم يخفون لؤما سرعان ما يتكشف ليظهرهم على حقيقتهم. مناسبة هذا الكلام أن رجلا من العابرين في حياتي اقترح علي مساعدة لم أطلبها منه، فترددت في قبولها، وقبل أن يُنفذ ما وعد به بدأ يتجمل علي، ثم افترض في الجحود وقال لي: ـ إياك أن تكون جحودا كشكري. لم ير ذلك الرجل في شكري سوى ما يسميه جحودا، ولذلك فهو أعمى القلب والبصيرة، لم ير في شكري سمات شخصه الإنسانية العميقة والمتأصلة، وما رأى فيه غير الحجود. كما عرفت محمدا فهو لا يحب مساعدة أحد، وكان فوق هذا لا يحب أن يتجمل عليه أحد بجميل. ربما لطبيعته الريفية، ولتعوده على مراحل الفقر والخصاص المادي التي عاشها، خبر الناس وعرف منهم معادنهم، بينما أنفته وعزة نفسه لم تسمح له بأن يعطي الفرصة لأن يتجمل عليه أحد. كان لا يترك لأحد أن يصنع فيه جميلا. وفي أيام فقره التي عشتها معه في بداية السبعينات كان يستلف عشرة دراهم يوميا من صاحب فندق في السوق الداخل، ليردها له بثلاثمائة درهم في آخر الشهر، وبمجرد أن يقبض راتبه. كان لا يترك عليه دينا في مقهى أو حانة أو مطعم، ينفق بقدر ما في سعته، وما كان يبتز الأصدقاء الآتين إلى طنجة من المدن، بل كان يتقاسم. تقاسم معي ومع محمد زفزاف، وكان يقبل أن يكرمنا أحد بطعام أو شراب، لكنه لم يكن صغير النفس، بل كان شممه فوق كل اعتبار. أشيد بهذه الخصلة، في محمد شكري، بعد أن رماه أحدهم بنكران الجميل وبالحجود أمامي. لا. أبدا. ليس شكري من كان يسمح لأحد بأن يتجمل عليه، بالرغم من انفتاحه على الليليين والنهاريين، في نهارات وليالي طنجة. بعد ذلك الانفتاح على الناس صار شكري ضيق الخاطر، ومع شهرته العالمية فقد كثر من يرغبون في مجالسته، فضاق بنفسه وبالناس، وبالرغم من اجتماعيته وحبه لأن يكون موجودا وسط الآخرين، فقد صار مزاجه عكرا، وأخذ يرفض مجالسة من لا يعرفهم. صار يقول لمن يقتحمون مجلسه: ـ يكفيني ما أعرفه من الأصدقاء. لا وقت لي للتعارف. كان يستثني من هذه القاعدة الطلبة الباحثين والإعلاميين وبعض من يتوسم فيهم أنه قراء جيدون. وكان لا يحب الفضوليين. ومع ذلك، فاتساع وقته لعاداته اليومية في المقهى والحانة كان يُدخله في دوامة يومية هي التي تمتص برنامجه اليومي الذي يكاد يكون ثابتا. تلك الدوامة هي التي أفسدت حياته، ولو اخترقها وغَيَّرَ من عاداته اليومية لأفلت بجلده من براثين المرض، ومن سوء المزاج الذي طبع حياته في سنواته الأخيرة، بسبب تكالب قوى الشر عليه: المرض ونمط الحياة اليومية المكرور وأصدقاء السوء الذين ما فتئوا يناوشونه ويستفزونه. كم من مرة صادفت أناسا لا يعرفون شيئا عن حقيقة شخصية محمد، فإما أنهم قد عاشروه عرضا في الأماكن التي كان يعبرها، أو أنهم قد سمعوا عنه من الحوادث ما ينتمي إلى أسطورته الشخصية، أو أنهم قد أولوا حياته الخاصة ومواقفه وما كتبه في سيرته بتأويلاتهم، لذلك رجموه بالغيب، وذهبوا إلى أن "صعلكته" تعنى التجرد من القيم الإنسانية. ولأنهم لم يعيشوا معي الكثير من اللحظات التي ظهر فيها محمد شكري شديد الإخلاص لتلك القيم الإنسانية، ولم تتح لهم المعاشرة أن يلاحظوا مروءته ولطفه ولباقته في الحديث، ووفاءه للآخرين، ونظافته التي تصل إلى الهوس، واحترامه للمواعيد، فهم يتحدثون عن محمد شكري آخر، هو الذي تكونت صورته في مخيلتهم. رغم تقلباته المزاجية، وما كان يتعرض له من استفزاز من طرف بعض من يرافقونه، فهو يبدو في لحظات أساه شاردا إلى أن يخرج من ذلك الشرود.


5 ـ
الحميميون كان يبوح لهم. ولقد كنت حميما، ولذلك باح لي بذكرياته مع والدته وإخوته، وبأشياء كثيرة عن علاقته بأخته الصغرى مليكة. قبل أن تتزوج كانت تزوره، وحفل زواجها تصادف مع وجودي معه في طنجة، فدعاني لأن نحضر عرسها في تطوان. اشترى لها ساعة ذهبية، هدية بمناسبة العرس. لبس أحسن ما عنده من ثياب وتعطر وأخذنا الطريق في نهاية المساء من طنجة إلى تطوان. وصلنا إلى بيت العائلة، القريب من السجن المدني ومن "ديور الحجر" فدخلنا البيت التي قال لي إن والدته كانت هي صاحبة البيت، رحمها الله. لم نجد مظهرا لعرس. جلست في صالة وراح هو يتحدث مع أخته رحيمو. عاد مرتبكا. قال لي: ـ رحيمو قالت إن العرس قد مضت عليه ثلاثة أيام، وأنا نسيت الساعة التي اشتريتها هدية لمليكة في بيتي في طنجة. بدا مرتبكا وحرينا. قال لي: ـ تعال نعود إلى طنجة. في الطريق فحص ذاكرته جيدا وأكد لي أنه قد أُخْبِرَ بأن عرس مليكة سيقام في هذا اليوم بالذات، وإن كان قد سبق موعده، فقد كان عليهم أن يخبروه. كنت قد جربت مثل هذا الوجع الذي تسببه لنا العائلة، حينما نحاول أن نقترب منها أو أن نشاركها أفراحها. ولأنني مثله، أعاني من مثل هذه التمزقات العائلية، فقد وجدنا في الطريق الواحد، الطريق من تطوان إلى طنجة، وأنا أقنعه بأن شيئا من الخلل العائلي يوجد في ذواتنا. حزن لأنه قد نسي الساعة الذهبية، فليته لم ينسها لكي يقدمها لأخته رحيمو حتى تقدمها إلى أختهما العروس مليكة. كان متوترا. قال لي: ـ أنا حضرت من طنجة إلى تطوان، ومعي ضيفي. لماذا لم يقدموا لنا العشاء. قلت له: ـ نتعشى في طنجة. لا تخجل مني. بتحديه الدائم قال لي: ـ لست خجلا منك، ولكن أختي رحيمو لم تقم بالضيافة. أخبرني بأن أخته مليكة قد تزوجت من موظف بأحد البنوك بالدار البيضاء، وأنها كما قالت له أخته رحيمو قد راحت مع عريسها إلى هناك. وهي نفسها أخته رحيمو، التي قال عنها إنها قد جاءت من سبتة لزيارته في طنجة، فرحب بها، ولما استقام بها الجلوس سألته: ـ محمد، عندما ستموت، لمن سوف تترك الأموال التي تجنيها من ترجمات أعمالك؟ قال إنه قد صار عصبيا ورد عليها: ـ هل تعرفين أن في طنجة مقبرة للكلاب والقطط؟ لتلك المقبرة سوف أوصي بتركتي، وإذا لم أفعل، فسأوصي بها لاتحاد كتاب المغرب، أو لجمعية للأيتام. قال إن اللقاء قد تفرق على غير خير. لم يطردها ولكنها خرجت من بيته من غير وداع. جفاء بين أفراد العائلة، قال إنه لم يسع إليه، ولقد سبق لي أن زرت لرفقته أخاه عبد العزيز في إحدى زياراتنا لتطوان، في متجره الصغير بالسوق المحاذي للمحطة الطرقية، وقبل أن يحترق، فرأيتهما يتبادلان كلمات جافة وسرعان ما انسحبنا من أمام عبد العزيز، دون أن تبقى له صورة في ذهني، ودون أن أجد شبها بينه وبين محمد في شيء. لم يتحسر محمد على أخيه الذي يزوره فيلقاه بمثل ذلك الجفاء. كرامته جعلته يقول لي: ـ الإخوة يخرجون من بطن واحدة، ولكنهم يتفرقون في الحياة. هذا هو الأمر الطبيعي، وأما غير الطبيعي هو أن يقتل الأخ أخاه، كما فعل قابيل بهابيل. أجده على خروجه عن المألوف، حكيما في بعض اللحظات، وأجده على غضبه من نفسه من الآخرين، مستريحا إلى ما عاشه بالرغم من مرارته وعنفه وقسوته. كان يضحك، ويقول لي: ـ هذه هي الحياة، قسوة وعننف يقسو ويعنف بهما علينا الآخرون، وملذات بها ننسى قسوتهم وعنفهم. ذكر لي أنه قد تلقى مكالمة هاتفية من شخص قدم له نفسه على أنه بنكي، في الدار البيضاء، وهو زوج أخته مليكة، فعبر له ن سعادته بالمكالمة، وأسفه لكونه لم يحضر حفل زفافهما حتى يتعرف عليه. لكن البنكي لم يبال بهذه المجاملة، فسأله إن كان ما قاله عن أمه في كتابه "الخبز الحافي" صحيح، وهل مليكة هي ثمرة زنا أمه؟ فغضب ورد عليه بأنه لم يتعرف عليه بعد، ولم يعرف من هي أمه وهل ولدته ولادة شرعية أم أنها قد ولدته من سفاح. ثم أقفل الخط. كان تعسا بعائلته كالكثير من الكتاب المغاربة الذين أتعستهم عائلاتهم، والكثير من الكتاب العرب، والعالميين، الذين لم يأتوا إلى الكتابة إلا قبل وخلال وبعد فصام عائلي أو شروخ في علاقات العائلة. علما بأن هذه الشروخ قد توجد في أسر لا تنتج مبدعين، ولكن، وحينما يكون لفرد من أفرادها ما يبذر فيه بذره الإبداع، فإن مخزونا من الانفعالات والتوترات يمكن أن يتصرف في اتجاه تصعيد ماهية وجود الفرد في مجتمعه ووجوده في سؤال معنى الوجود. وسيأتي على شكري ذكر أمه، فلقد أخبرني ذات لقاء بأنه قد فكر في زيارتها في بيتها في تطوان، ثم تذكر بما يشبه الصدمة أنها قد ماتت. قال إنه لم يصدق موتها وأنه كان قد استعد لزيارتها ثم صفع جبينه وهو يتذكر أنها قد ماتت. ماتت؟ قالها وهو يتحسر. في لحظاته العاطفية التي كان يُذْهِلُنِي بها كان يغوص في معاني العائلة، والموت، والفقدان في الحياة، ولذلك كان يسألني كلما التقينا عن تفاصيل علاقتي بجدتي المرحومة السيدة أم كلثوم، كلما التقينا، كما كان يسألني عن ولدي نوفل، الذي فقدتها لسنوات طويلة، ثم استعدته فجلسنا في الرباط أنا وإياه وشكري، فظل يسأله عن علاقتنا، غير الأبوية، وما يمكن أن يكون صداقة أبدية بيننا. لم يكن رافضا للعائلة، ولم يكن رافضا للزواج سوى أنه كما يصفه كقاطرة تجر الزوجة من خلالها عدة عربات يركبها الأخوال والأعمام وبناتهم وأولادهم، ناهيك عن الأخوة والأخوات،وهو يرفض أن يكون تلك القاطرة. حاول الكثير من أصدقائه أن يزوجوه، وكان يقول: ـ أنا في حاجة إلى امرأة تكون حمقاء مثلي، فأين توجد؟ في بداية السبعينات حكى لي حكاية غريبة عن حبه لشابة معلمة بإحدى مدارس طنجة، لست أذكر، ربما كانت زميلة له في المدرسة الابتدائية التي كان معلما بها، لكنه توله بها، ودعاها إلى بيته فاستجابت، ووثق بها فأعطاها نسخة من مفتاح البيت. قال إنه كان يرغب في الزواج منها، ولكنه مرة جاء إلى بيته فوجد فراشه مبللا بماء رجل، فسأل حارس العمارة عمن دخلها قبل ساعات، وأخبره بأنها هي صديقته، وكان معها رجل. من فوره ذهب إلى محل قريب من سينما الروكسيي، ومن بيته، يبيع التلاجات الكبيرة التي يستعملها عادة، الجزارون، في محلاتهم، فاشتراها بالتقسيط، وجاء بها إلى شقته، ولما استقبل صديقته المعلمة أراها الثلاجة التي سوف تحتفظ بجتثها مقطعة قطعا، وطلب منها أن تعترف، فاعترفت بأنها قد استقبلت صديقا لها في بيته. ساعتها طلب منها أن تنصرف وأن تنساه إلى الأبد، وعاد إلى من باعه الثلاثة ليطلب منه استرجاعها وخصم مبلغ من البيع هو خسارة عليه. من غير شك، فإن الفشل في الحب، والفشل في إقامة علاقات أسرية سوية، والفشل في العيش كما يعيش الناس الآخرون، هو ما دفع بمحمد شكري إلى عزوبته الدائمة، وإلى محبته المراوغة، وغير المستقرة، للأطفال، فقد كان يستقبلني في بيته أنا وولدي وائل وإياد فينفر مننهما، ولكنه في يوم من الأيام جئته إلى مقهى البريد ليلا ومعي ولدي إياد، فألح علي في المبيت عنده لكي يرافق ولدي إيادا طوال نهار الغد في جولات في طنجة، وليشتري له كل ما يحب، وليأخذه إلى كل الأماكن التي يحب. قال لي: ـ أعطه لي نهارا واحدا لأسعده وليسعد بي. هل هذا ممكن؟ كان ذلك غير ممكن، لأننا كنا أنا وإياد سوف نرجع إلى مرتيل. أحسست بالنزوع الأبوي المفقود لدي شكري، وتأملت أن وجود الأبناء لا يعني العلاقة الأبوية إلا في ظل أسرة متماسكة وزوجة تحرص على أن يحترم الأبناء والدهم. هم أبناء الأب عندما يرضخ لسلطة أمهم، وهم أبناؤها وحدها عندما تُشَرِّبُهم احتقار والدهم والتعريض والاستخفاف به، وهو أيضا، أبناؤها وحدها عندما يتم الفراق عن طريق الطلاق. هم أبناء أمهم، إذا كان قلب الأم يدخر مثل هذا القدر من الحقد على الأب، حتى وإن كان الأب قائما بكل واجباته تجاه بيته وأبنائه. ذلك ما يحدث، عندما يكون الإنسان أبا، ثم يجد نفسه في يوم من الأيام، ليس أبا لأحد، ولا يبقى من شيء في حياته سوى التبعات المادية، وجراح فراق من كبروا تحت نظره، وفي أحضانه، ثم صاروا غرباء عنه، ليصبح هو الغريب. بما لاحظته في شكري من حب للأطفال، فهو لم يكن يدري أن الأبوة بما تغمر به الرجل من عاطفة، فهي قد تتحول حرمان قسري من تلك العاطفة. يرعى الأب شؤونهم وهم صبيان، ويرعاهم وهم أطفال، ثم يصدقهم صداقة الصديق للصديق وهم فتيان، يعالج مشاكلهم التربوية والتعليمية، يقدر فورات مراهقتهم، يعلمهم ثقافة الحوار والمصارحة، ثم يأتي من أمهم ما ينسف كل ذلك الوجود للأب، في خطة منهجية تحولهم من الحب إلى الكراهية، بضعفها الوهمي، أو ما تتوهمه ضعفا، تحتمي بأن يكون الأبناء في صفها، حتى والحق حق والباطل باطل. عزوبة محمد شكري التي استمرت إلى آخر يوم في حياته، إن كان لها من تأثير على مسار حياته، فهي لم تعرضه لمثل هذا الوضع الذي تعرضت إليه، ناهيك عن مفكرين ومبدعين مغاربة، عرضهم أبناؤهم لأوضاع أخرى، كالإدمان على المخدرات، والانتماء إلى تنظيمات تنتمي إلى التطرف الديني. إذا كان شكري قد مات ولم يخلف ولدا أو بنتا، فهذا الوضع ليس محسوبا على إيجابية أو سلبية، بل هو محسوب على المرأة التي كان يحتمل أن يقترن بها محمد. من هي تلك المرأة، على سبيل الاحتمال؟ كان يفترض فيها أن تكون حمقاء مثله، كما قال هو نفسه عن زوجته المحتملة، ومعنى الحمق هنا، هو العيش في غير المألوف، خارج نمطية جاهزة تقيم للآداب الاجتماعية محافلها، وحيث تتسع دائرة الأسرة، إلى ما كان يسميه قاطرة تجر من ورائها عربات مليئة بالركاب، هم الأخوال والأعمام والإخوة والأخوات والأصهار والتابع وتابع التابع، وحيث لا يبقى لمن يدفع بالقاطرة ما يعني شيئا من حريته في بيته، فهو دوما، صاحب ولاءات، لركاب العربات، وإن تمرد على ذلك الولاء، فسينقلب بياض نهاره إلى سواد، وستحرمه زوجته من حقه في الفراش، وسيدخل المتاهات. إذا كان شكري لم يعش مثل هذه المتاهات، فقد عاش في عزوبته الدائمة متاهات أخرى، حرمته من تنظيم وقته، ومن الابتهاج بفضاء الأسرة، ومن وجود امرأة بجانبه، وحتى وإن كان شكري لا يقبل أن يكون نصفا، لأنه نصف إله بشري، فمعادة النصف والنصف الآخر لم تكن ممكنة، وهذا هو قدره، أو هو اختياره، وهو اختياره، بالتأكيد.


ـ 6 ـ
ما يحدث لي اليوم وأنا أمر بجوار بيته، كان شديد الوطأة علي. رفعت نظري متطلعا إلى "الطراسة" التي كنا نجلس فيها قبل أن تصبح بأغراسها أشبه بحديقة، وقبل أن يستوطنها كلبه "جوبا". ففي تلك "الطراسة" جالسنا الكثير من أصدقائنا الكتاب والفنانين المغاربة والعرب والأجانب. نفس "الطراسة" التي أرفع نظري من عرض الطريق لأراها وأنا أتصور ما سيكون قد اعتراها من تغير بعد موت من كان يملأها بالحبور والأحاديث والأطعمة والأشربة. ولا يمكنني أن أفعل مثل ما وقع له مع والدته التي نسي موتها، فأنسى موته وأصعد الأدراج إلى الطابق الرابع، لأضغط على زر الجرس، منتظرا أن يظهر شبحه من وراء العين السحرية، ناظرا إلى من يزوره، فيفتح الباب ويعانقني. لا يمكنني أن أفعل ذلك، لأنني أعرف أن محمدا قد مات. عايشت الكثير من اللحظات الصعبة عاشها محمد مع أصدقاء ليسوا كالأصدقاء، استفزوه بالكلام الجارح، أو الكلام الذي يوقظ جراحه الشخصية، وكأنهم ينكأونها بتلذذ سادي. وهو ما كان يعرف المواربة والرياء، يجامل أحيانا ليساير الساعة وينفجر غضبه في أحيان أخرى، أو يفضل الانسحاب. إن حدث شيء من ذلك في بيته فهو يترك للمتوترين توترهم وللمتحاملين تحاملهم ويذهب إلى فراشه لغمض عينيه حتى يرى ما يحب أن يراه. إن زرته مع أفراد أسرتي فقد كان يعتذر لزواره عند الباب ويقول لهم: معي العائلة. كنت أشعر بالفعل أنه فرد من أفراد أسرتي، فصداقته مع جدتي رحمها الله، وخلال فترة السبعينات، كانت قوية ومؤثرة. وكنت إن ضاقت بي أحوال البيت وهربت إليه يكون هو من يبادر بالاتصال بالهاتف ليخبر بأنني أوجد معه وأنا في الحفظ والصون. كان يتصرف مع الآخرين بما يرضيه لكي لا يندم على ذلك التصرف كما كان يقول وهو يكرر عبارة: ـ لست نادما. وهو بالفعل، لم يكن نادما على شيء. فما الندم على لحظات جميلة يفسدها الآخرون، ليحولوها إلى توتر وقلق، وبسبق إصرار، وبعدوانية لا معنى لها؟ ما الندم على فقدان صديق يستيقظ فيه لحظاته العدوانية، أو فقدان صديقة ترغب في أن تتربع الجلسة لتحكم العالم؟ كان شكري يحب الأماكن الجميلة، والناس الجميلين، وكان بحكم نرجسيته يحب أن يستمع إليه الناس وهو يتحدث عن تجاربه في الحياة وفي الكتابة، نجوميته كان يحب لها أن تسيطر على مجالسه بين الأصدقاء والصديقات. لكنه كان جيد الإصغاء للآخرين، ليمسك بخيط الكلام، وحتى يتألق كما لا يتألق المتحدثون الآخرون. كان فنانا في حديثه المازج بين عمقه الثقافي وبين روح الدعابة. كثيرون كان لهم تشويش على حسه الرفيع في إدارة الحديث، وأحيانا في الاستبداد به، فكان يغضب، وإذا ما كان المجلس في بيته، وفي "الطراسة"، فقد كان يغادرها إلى فراش نومه، ليستلقي على سريره، وليغمض عينيه، فإن اقتربت منه وهو مغمض العينين، فقد كان يشعر بي، ويقول لي: ـ حينما ينتهون من كلامهم عن خصومات الكتاب مع بعضهم، ادعني لكي أعود إلى الجلسة. يتساءلون عن شكري. أين هو؟ يستريح أقول. أكون أنا نفسي ضاجا من صخب أحاديث تشي بعراكات، وأفكر في الانسحاب. أحيانا كنت أنسحب فلا أعرف ما وقع في آخر تلك الليلة. يخبرني محمد في نهار الغد بأنه قد طرد الجميع من بيته، ويقول إنه ليس نادما على ما فعل.


ـ 7 ـ
تدفقت زخات المطر تحجب الرؤية والسيارة تنعرج مع بعض المنعرجات. إن كان المطر قد عَمَّ طنجة فيسقي قبر محمد بعد أن ظمئت روحه، وسقيا المطر في حالته هي أفضل ما ترتوي منه الروح. كفاه مما كان يرتوي منه. له الآن هذه الزخات المطرية تداعبه وتهدئ من روع ربما يكون قد ارتاعت له روحه. طوال الطريق كنت أذهب إلى ما أبعد من الطريق. أستحضر شريط الذكريات أو أتأمل حياة الراحل. لتأمل كتاباته مناسبة أخرى. لكني أتصور أن كتابات محمد شكري القصصية كان لها تعبيرها الخاص، فقبل أن ينشر مجموعته القصصية الأولى: "مجنون الورد" كنت قد قرأت قصصه القصيرة، وحسبته صاحب تجربة مميزة في الكتابة القصصية، إلى جانب من كانوا فرسان الكتابة القصيية في تلك المرحلة، على تباين تجاربهم: عبد الكريم غلاب، أحمد المديني، خناثة بنونة، مصطفى المسناوي، رفيقة الطبيعة، إدريس الخوري، محمد زفزاف، عبد الجبار السحيمي، وآخرين. قصصه القصيرة على احتفائها بالواقع على تعدد مشاهده وتجلياته كانت تقيم أدبيتها من مجموعة من المكونات، أساسها الجمل البرقية، القصيرة، التي تقدم اللحظة في مختصرها المفيد، والتي لا تحفل بأدوات الربط، وبالترهل اللغوي. فضلا عن موضوعاتها التخييلية الساحرة، ومن أفضل الأمثلة على ذلك، قصته "الكلام عن الذباب ممنوع"، وقصته "العنف على الشاطئ"، وقصص أخرى، فشكري تبوأ مكانته ككاتب من خلال القصص القصيرة التي نشرها في مجلة الآداب البيروتية، وفي الملحق الثقافي لجريدة العلم، وهو الأمر الذي يدحض ما أراده له بعضهم، من تصنيف له في إطار الأدب الشفوي، ومن خلال سبق الكاتب والمترجم الأمريكي بول بولز لنشر روايته "الخبز الحافي" إلى جانب أعمال شفويين كمحمد المرابط. الفرق كبير بين شفوية من حكوا سيرتهم لبول، وبين شكري الذي جاء إلى الكتابة عبر نشر قصصه القصيرة، مكتوبة بخط اليد، في المنابر الثقافية. لكنه مع ذلك قد نشر قصصا قد تكون إباحية، في مجلات عالمية، من قبيل "بلاي بوي" و"أنتيوس" وكما أخبرني فقد كان يتقاضى على نشر القصة في هذه المجلات، وفي ذلك الوقت من السبعينات، مبلغ 5000 درهم. حواره مع برنامج "أبوسطوف" الذي كانت تقدمه التلفزية الفرنسية، كان قد استعد له بتعلم الكثير من الكلمات الفرنسية التي سوف تسعفه عن التعبير عن حالته ككاتب. لم يكن البرنامج مجرد فرجة، بل كان يقدم للمشاهدين نموذجا من الأدب الاستثنائي العالمي، وهو نموذج كاتب جاء من المجاعة، ومن الهجرة من الريف إلى تطوان، ومن الرفض والتمرد وصنع مستحيل الحياة في الحياة. تكلم شكري في البرنامج، وكان "وقحا" متحديا، بينما ظل الطاهر بنجلون جالسا مع الجمهور، بصفته مترجما ل "الخبز الحافي". الأسئلة النظرية التي أعياه الجواب عنها، أرجع جوابها إلى أنه قد تعلم الكتابة والقراءة بالعربية وهو في سن العشرين، وبمجهوده الخاص. كان يلعب لعبة النادر، الاستثنائي، الذي جاء من هامش المجتمع ومن هامش الثقافة إلى أن يحتل كتابه "الخبز الحافي" أفضل المبيعات لدى "دار ماسبيرو". وهذا ما كان يريده معد برنامج "أبوسطروف". بصدد ما كتبه محمد شكري من أعمال، فهي تتراوح بين مجموعاته القصصية، وثلاثيته السير ذاتية: "الخبز الحافي"، "زمن الأخطاء"، و"وجوه"، وبين أعماله الروائية، وحواراته، وأعماله المسرحية، ومذكراته التي كتبها عن جون جونيه وتينيسي وليامز. في هذا المدار الذي استغرق من الكتابة والنشر أزيد من ثلاثين سنة، لا يسع القارئ المغربي إلا أن يجد في هذه المحصلة، تنويعا في الاشتغال على الكتابة، وعلامة فارقة فيما أ،جزه محمد شكري، بالمقارنة مع كتاب مغاربة كتبوا سيرهم الذاتية، بتشخيص سير ذاتي أو سير ذاتي روائي. فاللافت للنظر أن شكري قد احتل مكانة خاصة في الإبداع المغربي، وخاصة في جنس القصة القصيرة، وفي كتابته لسيرته الذاتية، وإذا كان الخميني في زمن التكفير قد أفتي بتكفيره وقتله، في زمن الثورة الإيرانية على شاه إيران، وإذا كانت وزارة الداخلية على عهد إدريس البصري قد منعت كتابه "الخبز الحافي" من التداول، تحت شكايات من رجال الدين، وإذا كانت بعض المساجد ما تزال في خطب الجمعة تدعو المصلين لأن ينهوا أبناءهم عن قراءة كتب شكري، فمعلوم أن الملك الشاب محمدا السادس قد تكفل بعلاج وجنازة محمد، وأنه قد بعث ببرقية تعزية إلى ذويه، فما الصدع الذي أحدثه محمد شكري في الجسم الديني والثقافي؟ إن شكري لم يحدث صدعا في الجسم الأدبي، لأنه كتب عن تجربة معيشه بجرأة خاصة، ولأنه كان يدافع عن نفسه بقوله: ـ أنا واحد من الكثيرين الذين تعرضوا لمأساة إنسانية، كان سببها هو حرب الريف، وما نتج عنها من مجاعة، وهجرة. في كتاباته، وفي هذا الجدل بين "تحريم" أعماله و"تحليلها"، لم تعبأ الجهات التي نظمت ندوات تكريمة له ولأعماله، ومن بينها مؤسسة منتدى أصيلة، واتحاد كتاب المغرب. كنت قبيل الندوة التي عقدها اتحاد كتاب المغرب بأصيلة لتكريمه قد أعدت قراءة لثلاثيته: "الخبز الحافي"، "زمن الأخطاء"، "وجوه"، متلمسا تضاريس هذه الأعمال الثلاثة وتشكلاتها اللغوية وبعض التباينات القائمة بينها، وما تضفيه كتابة السيرة الذاتية على الكتابة من طابع ذهني ثقافوي في "وجوه" على الخصوص، به تجاوز محمد شكري "حرفية" معيشه كما هو مشخص في "الخبز الخافي". أما "زمن الأخطاء"، فهو أقوى جزء في سيرته بحسب رأيي، لما يزخر به من تصيد اللحظات الشاردة.



ـ 8 ـ
ظلت مرافقتي تركز نظرها على الطريق وهي تسوق السيارة. من حين لآخر تنظر إلي لتقرأ صمتي وما يحتمل أنني أشرد فيه. في منتصف الطريق توقف المطر وكأن حدا كان يفصل بين طقس تطوان وطقس طنجة. اختلطت علي تفاصيل المعيش الذي اشتركت فيه مع محمد شكري وهي تحضر بقوة كما تحضر أبهاء طنجة في السبعينات ومدارجها وسحر أمكنتها يوم كنا فتية أغرارا نحب الحياة ونخرج من مكان لندخل مكانا آخر، نمرح ونتحدث في كل شيء وننفتح على الناس والحياة، كما تحضر وجوه الصحاب، ووجوه مثقفين وفنانين من طنجة أو يعيشون فيها، عرفني عليهم شكري، وعلى كثرتهم من الأجانب والمغاربة أذكر مصمم الملابس والممثل الفنان العربي اليعقوبي، الذي كان قد أطلعني على ألبوم لصور الملابس التي صممها لأفلام ومسرحيات فأعجبت بإبداعاته أيما إعجاب. كما أذكر أننا كنا قد ذهبنا إلى إحدى القاعات لمشاهدة معرض للفنان التشكيلي محمد الحمري، وكان المعرض يحتوي على رسوم فطرية كلها لم ترض حاستي الفنية، فطلب مني شكري أن أكتب كلمة في كتاب المعرض، ولما كتبتها عاد يقرأها فطلب مني أن أغادر القاعة في الحال، فلو قرأها الحمري كما قال لي لضربني أو لكلف من يضربني. وكنا نرافق صديقنا الشاعر الراحل عبد اللطيف الفؤادي، الذي كان شكري يسميه (نخلة الله) لطول قامته، ففي محلة (البوكسور) كنا نلتقي والمرحوم عبد اللطيف جالس يطرق برأسه إلى الأرض كأنه يرثي نفسه بقصيدة لم يكتبها بعد. كما كانت مكتبة السيد الصنهاجي فضاء نتصفح فيه الكتب ونتحدث مع زوارها من المثقفين ومع صاحبها الذي كان منتميا إلى حزب الاستقلال وعضوا في مكتب فرع اتحاد كتاب المغرب بطنجة كما كان شكري عضوا فيه إلى جانب أحمد الطريبق وآخرين. كان شكري صديقا لكتاب وشعراء عرب تبادل معهم الرسائل ورافقهم خلال زياراتهم لطنجة أو لبعض المدن المغربية الأخرى فأخذ صورا معهم، ومنهم عبد الوهاب البياتي وحميد سعيد وعلي جعفر العلاق الذي كان شكري قد كتب دراسة عن ديوانه " وطن لطيور الماء"، مع صداقته لمحمد برادة ومحمد الأشعري وإدمون عمران المليح وآخرين، وكان بيته محجا للكتاب القادمين من الشرق أو من أوربا، يستقبلهم بحفاوة فيستأنسون به ويحبون في شخصه ثقافته الواسعة وآراءه في الكتابة والكُتاب وتلميحاته الذكية ومرحه وخبرته بالحياة. وأما خصوماته مع الطاهر بنجلون أو مع بول بولز فكانت لها خفايا وخبايا، ولم تكن مجرد عدوانية من شكري أو جحود لمن ترجما (خبزه الحافي) إلى الفرنسية والأنجليزية، فهو أدرى بهذه الأمور، وكتابه عن بول بولز يوضح كثيرا منها من وجهة نظره حتى وإن لم تعجب تلك التوضيحات بعض من يعتبرون أنفسهم ورثة ثقافيين لبول. أفهم تلك الخصومات على أنها معارك تقع على هامش الثقافي، وإن كانت تستند إليه، وإن علمنا أن معظم الكتاب العرب القدامى والمحدثين ومعظم الأدباء الغربيين قد خاضوا من المعارك ما يشبهها فسنعد ذلك لصالح محمد لا ضده، ودون الدخول في التفاصيل. في تلك المرحلة، لم يكن أصحابنا جميعهم من الكتاب والمثقفين الطنجيين، بل كانوا أيضا من معارف محمد في السوق الداخل وفي غيره من الأماكن التي كنا نرتادها، وبالرغم من أن أولائك الناس كانت لهم تجاربهم الخاصة التي يحكونها بتلقائية، وأمزجتهم وطباعهم وردود أفعالهم، فما تخاصمنا مع أحد، وما رأيت محمدا يتخاصم، وإنما كان أغلب أولائك الناس يدفعون عنا بسخاء إكراما لمحمد الذي كان كاتبا مثلنا ولم يكن قد وصل إلى العالمية بعد بترجمة أعماله إلى عدة لغات. وهو نفسه كان يعرف متى يصرف أحدا أو يقترح علي أن ننسحب إن بدا ما يزعج في الجلسة، أو يكرم أحدا ليرد إليه الجميل. أعتبر نفسي مدينا لشكري بصداقات لي مع أناس شعبيين ما زلت أستمتع بخلوصها وصفائها إلى اليوم، وما زلت أرى في عيون أولائك وكلماتهم ذكريات مشتركة عشناها جميعا في ربوع طنجة. آخرون كانوا ومنذ ذلك الوقت من السبعينات يخدمونه بتلقائية ومحبة، فجسده كان كسولا على يقظة ذهنه الدائمة، ولعله كان يشعر بالتهاب في المفاصل يعوق حركته من غير أن يصرح بذلك، فكان يحتاج إلى الآخرين حاجة الصديق للصديق لا حاجة السيد لمن يخدمه، وكل أولائك استمروا يخدمونه للعقدين السابقين، ومنهم فتحية خادمة بيته الأمينة والروبيو الذي كان بقال الحي يقرضنا ما ندفع به ثمن حاجياتنا اليومية ثم يدفع عنا في ليلة أكثر مما اقترضناه منه، ومصطفى النجار، المهتم بطلاء البيت وإصلاح ما عطب فيه، الواقف في المطبخ لتحضير الولائم، وهو لطيف المعشر، صابر على نزوات محمد، فكان محمد يكافئه بإهداء نسخ من كتبه، ويطلب مني أن أهدي كتبي له. وكلهم كانوا يفهمون إشاراته فإن استبدت به نوازع المزاح يسخر من أمية أحدهم سخرية محببة يقبلها ذلك الآخر، وإن وصل الأمر إلى حد الشتيمة فقد كانت شتيمته التي يوجهها وهو ضاحك هي: ـ آ الأمي. وكأن الأمية التي حاربها وهو في العشرين من عمره لم يعد يرى فيها غير وصمة لمن لم يحاربها مثله. وكان فَكِهًا يحب التندر والإضحاك، كما يحب الأطعمة والأشربة، وإن دخل عليه مال من ترجمة أعماله يفرح بذلك المال الذي يسميه "أرزاقا إلهية" وكأنه هبة جاءت من السماء. وكثيرون كان يعتز بالجلوس معهم، وآخرون كان يطردهم من مجلسه حتى وإن كانوا ممن يعتبرون أنفسهم كتابا أما هو فكان يسميهم أشباه كتاب، وكان ينزعج من تكاثر بعض الأدعياء على جلستنا فيقترح علي أن نغير المكان. كم من مرة رأيته يرافق صديقين متخاصمين كلا على انفراد فلا يفسد بينهما وإن وجد سبيلا إلى المصالحة فهو يفعل، وإن لم يجده "يدخل سوق راسه"، فما كان لا يحب أن يسمع نميمة أحد في أحد، ولا أن يدخل بين الناس بالسوء، وفي أواخر حياته أصبح شكاء مما يصيبه من أذى من بعض الناس، وآخر ذلك ما وجدته عليه من غضب، فقد كنا أنا وفاطمة والولدين نمر بجوار فندق الريتز، وكان في مكانه في مطعم الفندق، ولما رآنا خرج ينادي علي، فالتحقنا بجلسته التي كان يرافقه فيها موزع كتب اسمه أحمد الحليمي، وسرعان ما طفح الكيل بمحمد فأخذ يحكي حكاية موجعة عن صديق غدر به وتخلى عنه وهو ملقى على الأرض، ثم جاءت فتحية وسألها هل دفعت ثمن الكهرباء، وطلب منها أن تجلس لتحكي لنا ما وقع له مع ذلك الصديق، فهي الشاهد على ذلك .


ـ 9 ـ
ونحن على مقربة من طنجة أخذت أسأل نفسي هل أنا من كان يهم بزيارة قبره أم هو الذي كان يزورني بعد أن هيمنت علي التفاصيل اليومية التي عشتها معه خلال إقامتي في طنجة في الصيف الأخير وهو غائب عنها وعن مرابعها ومراتعها، فبعد تسكعي في المرابع والمراتع التي عشنا فيها كانت خطاي تقودني إلى شارع كويا كما كان يسمى في السابق، فأمر بمقهى الروكسي وأقف على ناصية ليسي رونيو المقابلة للعمارة التي كان يقطنها محمد، متطلعا إلى بابها وهو الباب الذي كان يسلمني مفتاحه في بداية السبعينات يوم كنت آتي من فاس لزيارته فنسهر سهرا جميلا ونقضي ليال ملوكية وسهرات ماجنة على حد تعبيره، حتى وإن لم تحضرها نساء، فالمجون عنده كان يعني أقصى درجات الفرح بالذات وبالآخرين، عبر حميمية مشتركة في الحديث والطعام والشراب، وحينما أخبره بعزمي على السفر في الصباح الباكر كان يوصيني بألا أوقظه، ويقدم لي مفتاح باب العمارة لأفتح به الباب على أن أتركه في صندوق البريد. وحتى السطيحة تطلعت إليها من تحت، وأنا أستحضر تلك التنكات التي كانت تسقفها قبل أن يصطنع لها سقفا وما كانت رياح طنجة تفعله بها وهي لا شرقية ولا غربية فيستعصي علي النوم وأنا أخال طنجة كلها وقد أصبحت في مهب تلك الرياح. أعود لكي أتطلع إلى السطيحة حاسبا أن ما كان بها من أغراس ما زال يقاوم رياح طنجة، كما يقاوم الجفاف بعد أن لم يعد هناك أحد يسقي تلك الأغراس، فمن غير شك هي لم تذبل بعد، لأن مقاومتها من مقاومة محمد. أغراس كانت قد ترعرعت فصارت تظلل السطيحة بخضرة جميلة، يبتهج بها محمد ولعل مصطفى هو من كان قد أنبتها بمساعدة فتحية، وقدم لها النصائح لرعاية تلك الأغراس وسقيها والاعتناء بها، إن غاب عن بيت شكري لمدة ما. كيف إذن؟ ألن يعد بإمكاني أن أرى تلك الأغراس؟ النباتات التي كانت في سطيحة محمد كنا أنا وإياه نقف أمامها ونحن نتحدث فأسأله عن أسمائها وتبدو علامات استفهام على تعابير وجهه ويقول لي لا أعرف، مصطفى هو الذي زرعها وهو الذي يعرف. لكنه كان يحب النبات والحيوان كما يحب الموسيقى وأطاييب الطعام وكل المبهجات. كان عبد الملك السوسي، أو كما كان يسميه شكري السي عبد الملك صاحب العمارة، يسهر معنا أحيانا، أو يدعونا إلى سهرات يعرف كيف يصنع فيها الفرح، ليتصالح مع شكري بعد أن تشاجرا حول الزيادة في مبلغ الكراء التي كان يطلبها عبد الملك من محمد، ولقد فهمت من صحبتهما وتبادلهما للاحترام أن عبد الملك كان يحب أن يستفز شكري بالمطالبة بتلك الزيادة، لمجرد التفكه والتسلي، فالرجل كريم وهو من كان قد أخذ شكري إلى مصحة مايوركا بعد أن أصابته أزمته النفسية المعروفة، لكن شكري كان أحيانا لا يفرق بين الجد والهزل، فيأخذ الهزل على أنه جد.

ـ 10 ـ
وأما جوبا فكان محمد قد أخبرني بأنه قد جلبه من الشاطئ بعد أن أخرج حزامه من وسطه وطوق به عنق الكلب حتى قاده إلى بيته فأطعمه وأعطاه من عاطفته فأَلِفَ الكلب وألفه فتآلفا معا، حتى صار جوبا مشهورا كشهرة غيلم المرحوم محمد زفزاف، وأما قطي أنيس فلم يحظ بالشهرة نفسها، ومن غير شك، فإن قصة جوبا معروفة لدى الكثير من المقربين للعزيز الراحل محمد شكري، لكن غير المعروف لديهم كما أحسب هو أن شكري كان في وقت من الأوقات قد تعرف على أجانب مقيمين في طنجة لهم كلب فكان شكري يخرج مع الكلب ليفسحه في الشاطئ وليستمتع بمرافقته، وكان قد أرسل إلي بالبريد عدة صور له مع ذلك الكلب، هي التي أرسل نسخا منها لأصدقاء كثيرين، معلقا على ظهرها بكلمات سعيدة عبر فيها عن فرحه بالكلب، وفعلا، فقد كانت الصور تُظهر شكري وهو يلاعب الكلب الضخم، والكلب يقفز عليه، وهو يطوعه ليستسلم، وهي لعبة استلذها محمد كما كنت أنا قد استلذذت ملاعبة قطي أنيس، ولا أدري نوع الاستلذاذ الذي كان يستشعره العزيز الراحل محمد زفزاف مع غيلمه. وكل ما في الأمر، هو علاقة بدئية بين الإنسان والحيوان، وليست بالضرورة تعويضا بالحيوان عن الإنسان، فهذا أحد الحاقدين على شكري لأنه استتفهه فلم يقبل مجالسته يقول لي شكري يعيش مع كلب، هو حتما يعوض ما افتقده من حياة أسرية طبيعية، والشق الثاني من هذا الكلام صحيح، ولكنه وظف توظيفا سيئا، فصاحب هذا الكلام أستاذ جامعي ومتفلسف، ولكنه اصطنع مقدمة لا تتلاءم مع النتيجة، فكان ينبغي أن تكون النتيجة هي المقدمة، واللعنة على فرويد، الذي جعل من كل ذي معرفة بسيطة بالتحليل النفسي محللا نفسيا، ومن غير أن يحلل نفسه بطبيعة الحال. لما قال لي ذلك الشخص إن شكري يعوض عن الحياة الطبيعية بمعايشة كلب لم يكن ذكيا ليرى الغصة في حلقي، وليشعر بما شعرت به من عداء يتم تصريفه في مقولات نفسية وادعاء لدور المحلل النفساني حتى مع افتقاد التخصص وافتقاد أبسط القيم لاحترام الذات قبل احترام الآخرين. جوبا! هل كان هو المشكلة؟ كلما أراد شكري يتضجر منه وكنا نلتقي بإعلاميين عاملين في إذاعة (ميدي 1) فكانوا يعمقون من مشكلة شكري وهو يرغب في أن يتخلص من جوبا، من قبيل التسلية، وإبداع مواقف درامية، وربما من قبيل التلهي بمشكلة شكري مع جوبا للزيادة في محنته، فمنهم من كان يقول له يجب أن تقطع به البحر لكي لا يعود إليك ثانية، وعليك أن تأخذه معك إلى الضفة الأخرى للمتوسط، لتتركه هناك وتعود مع الباخرة، وكلها مسافة يوم ذهاب وإياب إلى (الخوزيرات)، فكان شكري يفكر في الأمر وكأنه جد، ومهم من كان يقول إن القتل بالسم هو الحل، فيغضب ويرد بأنه لم يقتل ذبابة في حياته فكيف يقتل كلبه وهو من كان يطعمه ويخرجه معه إلى الشارع ويستأنس به؟ ومنهم من قدم اقتراحات أخرى لم يقبلها شكري وبدا عصبي المزاج، وكلما كان يرغب في فض الموضوع ليتدبر أمر جوبا بنفسه إلا وكانوا يعودون إليه، بكثير من الإمعان في تعذيب شكري بكلبه الذي يريد أن يتخلص منه، طبعا، وأنا الفطن للعبتهم في تعذيبه، وسخريتهم وتسليهم بالموضوع، وتكالبهم عليه بإبداع اقتراحات جديدة للتخلص من جوبا، فقد رأيته وهو يتعذب بالفعل، حتى جاء يوم دعاني فيه لأن أرافقه للتخلص من جوبا، فأخذه وسرنا نحو الشاطئ فأطلق عقاله وقفزنا أنا وإياه على السور المحاذي لسكة القطار، وبدا محمد مستريحا بعد أن تحرر من أعباء كلبه جوبا، لكنه قال لي: وذلك الديك البلدي (الكوكوعو) الذي تطبخه فتحية فلا أتناول منه شيئا، من سيأكله إذا راح جوبا؟ لكننا وبمجرد صعودنا لأدراج العمارة ووصولنا إلى الطابق الذي توجد فيه شقة شكري وجدنا جوبا في انتظارنا.


ـ 11 ـ
حالما كنت أرفع نظري لأتطلع إلى سطيحة شكري، أسمع نفس الموسيقى وأتصورها تصدح يغرد معها طائره الذي كان يسميه موزار. كل شيء في الشقة كما هو، وأحسب محمدا يسترخي مغمض العينين ليقاوم التعب في ذلك الفراش الذي أعده في السطيحة (الطراسة كما كان يسميها) بعد أن تخلى عن النوم في فراشه الواسع لسبب لا أدريه، فبجوار ذلك الفراش حاسوبه الذي احتار في بداية عهده به كيف يتعامل معه، هو الذي تدرب على الضرب على الآلة الكاتبة يوم كان موظفا بإدارة بإحدى المدارس الإعدادية، وهي نفس الآلة الكاتبة التي أهداها إليه السيد بوزيد مدير المدرسة بعد أن حصل على التقاعد النسبي وغادر مؤسسة التعليم. لكني أذكر أن شكري كان قد أقام عندي في فاس يوم جاء إليها لإجراء مباراة للحصول على إطار أستاذ للسلك الأول، فسهرنا ليلة المباراة سهرا جميلا ولكنه خرج من بيتي بدون فطور فما كانت العاشرة صباحا حتى عاد فسألته عن المباراة فأخبرني بأنه استف بيضتين نيئتين اشتراهما من دكان قريب من بيتي ليحصل على الفوسفور، وأنه قد ذهب إلى مركز المباراة، وكتب ما أسعفه به خاطره، ثم سلم الورقة فاقترح عليه من تسلمها منه أن يبقى في قاعة المباراة ما دام الوقت ما يزال، لكن شكري رد عليه بأن الفوسفور الذي في البيضتين قد نفد وتم استهلاكه، وما عادت له طاقة يكتب بها.


ـ 12 ـ
في شقته إياها، كأني أرى تلك الخزانة وعليها صور أيام زمان التي يظهر فيها محمد في ريعان شبابه، شعره مسترسل ونظراته متفائلة بالحياة وثيابه حسنة، والكدمة نفسها على جبينه وحيث لم يقل لأحد ما سببها، وصور أخرى يظهر فيها محمد في طور الكهولة والأسى في عينيه والسيجارة في يده ودخانها يرتفع ليشكل هالة فوق رأسه، وصورة بقبعته الروسية وأخرى بالبيريه وقد بدا التجعد على وجهه، ومن بينها صورة لأخته مليكة وهي بعد فتاة طرية العود، وصور أخرى يظهر فيها محمد مع عبد الوهاب البياتي وتينيسي وليامز وجون جونيه ومحمد برادة. صور كثيرة كانت لي معه وعلى مر سنوات صداقتنا التي استغرقت ثلاثة عقود من الزمن، كنت أطلب منه أن أستنسخها وكان يعدني بأن يفعل ذلك بنفسه، كما كان يهديني نسخا من أشرطة موسيقية، كما كان يذيقني من عسل الملكة الذي يقول إن أصدقاء في الخارج قد بعثوا إليه به، وفي مطاعم طنجة التي كنا نرتادها كان يلح علي في أن آكل حتى وأكله قليل، فكان يمازحني ويقول لي: ـ كل لتعيش، ولا تعش لتأكل.


ـ 13 ـ
الحوار الذي أجريته معه لصالح مجلة "دفاتر الشمال" له شجون، فقد كان مدير المجلة التي كنت عضوا في هيأة تحريرها قد اقترح علي أن أنظم مع شكري موعدا لحوار معه أنا من يعد له الأسئلة، وحينما اتصلت به أخبرني بأنه يشترط مبلغا ماليا لإجراء الحوار، ووافق مدير المجلة على ذلك، وفي الموعد كان شكري قد استيقظ باكرا واستحم وحلق ذقنه كما أرسل مصطفى إلى السوق واستنفر فتحية لعمل المطبخ، وكانت جلسة ممتعة من خلال الحوار الذي نشرته المجلة في أحد أعدادها، بعد أن كنا قد سجلناه على شريط قام بإفراغه أحد المحررين ثم عرضت النص على شكري ليوافق عليه، ولكن قبل خروجنا من بيته أنا ومدير المجلة رأيته وهو يخرج ظرفا ويقدمه لشكري، فتراجع شكري ورفض أن يأخذ الظرف، وقال أنا كنت أمزح مع السي عز الدين، مع الأجانب أطلب تعويضا عن المقابلة معي، ولكن نحن إخوة، وأنا استمتعت بطريقة الحوار التي أدارها صديقي وبالجلسة معكما.


ـ 14 ـ
حركاته الدائمة في الشقة هي نفسها، فهو ينهض من مكانه ليذهب في اتجاه المطبخ ثم يعود مذهولا ليقول لي: ـ لا أعرف إلى أين كنت سأذهب. هذه الشقة على صغرها تصبح متاهة في بعض الأحيان. يعود إلى مكان جلوسه وهو يعتصر جبينه. يقول لي: ـ لا. ليس هكذا. عليك أن ترمد رماد سيجارتك في المرمدة لا فوق المائدة. يصمت قليلا ويقول: ـ آ ش أخبار ولدك نوفل؟ كبر؟ وائل وإياد كبروا؟ وائل هو الصغير. لا، إياد هو الصغير. يعتصر جبينه وكأنه يحاول أن يتذكر: ـ في زيارتي لكم في البيت أنا والروبيو كنت مرهقا جدا، وشكرا على الكفتة والبيصار. ذلك السيد الذي أخذنا من بيتك إلى المطار نسيت اسمه. حينما صعدت الطائرة نمت ولم أستيقظ إلا وهي تحط في الحسيمة. في الناظور كان لقاء حميما بيني وبين الجمهور. قلت لأصدقائنا هنا لقد خرجت من بني شيكر على ظهر حمار وها أنا أعود على متن طائرة. في بني شيكر التي زرناها لم يعرفني أحد ولم أعرف أحدا. كل الذين كانوا يعرفون والدي ماتوا. أهدوني بورتريه لعبد الكريم الخطابي كعربون انتماء لي للريف، وحينما أحرجوني بأسئلة عن الأمازيغية ولماذا لا أكتب بها قلت لهم إن قدري قد ساقني لأن أكتب بالعربية، وهي اللغة التي قرأت بها الأدب العربي، وحتى معرفتي بالأمازيغية تضاءلت فأنا لا أستعملها في الحياة العامة. لست معاديا للأمازيغية حتى وإن لم أكتب بها، بل هي لغتي الأصلية، فأنا ابن الريف، ويجب أن يعاد الاعتبار إلى الأمازيغية. ثم قل لي، هل قرأت شيئا لإسماعيل كداريه؟ هو مترجم إلى العربية. ينهض شكري من مكانه ليخرج مجموعة من الكتب الأنيقة الطباعة، ويقول لي: ـ ها هي كتبي مترجمة إلى اللغات التي تراها. سرعان ما يعود بي إلى ذاكرة فاس، والقراءات القصصية التي كنت أدعوه إليها يوم كنت كاتبا عاما لفرع اتحاد كتاب المغرب بفاس، ومناوشات الجمهور، والسهرات مع الأصدقاء بعد أن كنا نفرغ من تلك القراءات، لينكت على أشخاص بعينهم هم البخلاء الذين جاءوا إلى مائدتنا ليتعرفوا على شكري وفي نفس الآن لندفع عليهم.


ـ 15 ـ
يتذكر اليوم الذي جاء فيه إلى فاس مع عز العرب الكغاط يوم كان صاحب مطعم النيكريسكو في طنجة، رفقة العزيز الراحل محمد الكغاط، فقد جاء باحثا في فاس عن امرأة أحبها بعد أن التقى بها في طنجة، وبمساعدة الأخوين الكغاط، لكنه أصيب بالخيبة حالما عرف من التقصي عنها في الحي الذي تسكنه أنها عاهرة، وتوترت أعصابه وهو يضيف خيبة إلى خيباته السابقة في النساء، وقال للأخوين الكغاط خذاني إلى بيت السي عز الدين. كنت وقتها في البيت ساعة رن جرس الباب فما فتحته حتى وجدت شكري منهارا، أسلمه إلي الأخوان الكغاط وراحا. كان في حالة نفسية سيئة، ومع صبري عليه ومحاولة تهدئته فقد كان يتردد بين الهيجان وبين ما يشبه البكاء، وقد هدد بالانتحار إن أنا لم أرافقه ليعود إلى طنجة في صباح الغد، وكان لدي في الغد عمل في ثانوية ابن حزم التي كنت أعمل بها مدرسا، لكني تغيبت عن عملي ورافقته في القطار مصغيا إليه وهو منتكس حزين حتى وصلنا إلى طنجة، وذهبنا إلى النيكريسكو فوجدنا عز العرب قد سبقنا إلى هناك، فأدخلنا مكانا خاصا ملحقا بالمطعم، وأكرمنا، ثم قضيت ليلتي مع شكري في بيته وفي صباح الغد غادرت طنجة إلى فاس. في تلك الليلة حدثني محمد عن علاقته بالنساء، التي كانت محبطة على الدوام. استعرض أمامي شريط علاقات الحب التي كان قد تورط فيها لكي لا يكتشف غير الغدر والخيانة. ذكر لي أسماء ونعوت شابات كثيرات أحبهن، بل ورغب في الزواج من بعضهن، لكنه لم يجد لديهن غير التظاهر والرياء.


ـ 16 ـ
حينما قرأت خبرا عن سرقة وثائق من شقته أصابني الأسى، فمشروع "مؤسسة محمد شكري" ما يزال في طور الإنجاز، ليضم وثائقه وكتبه ونسخا من ترجمات أعماله إلى اللغات، وكذا صوره مع الكتاب ورسائله معهم وأشرطته الموسيقية وحاسوبه وأشياءه الأخرى الخاصة. وهو مشروع هام تقف عليه شخصيات وازنة في الدولة، كما تعقد عليه الآمال لحفظ تركة شكري الرمزية. لماذا إذن؟ ومن تكون له مصلحة في سرقة وثائق شكري؟ وهل هي وثائق على هذه الخطورة حتى تسرق؟ لقد كان شكري في حياته عرضة للصوص ظرفاء يتحايلون عليه للسطو على حقيبته فيأخذون منها المال ويرسلون منهم من يتظاهر بالتعاطف مع شكري لكي يعيد إليه الحقيبة بكل ما فيها ما عدا المال. وهذه الحكاية تكررت معه عدة مرات، لكن اقتحام شقته وهو في هدأة القبر هو من غير شك عمل لصوص غير ظرفاء، بل هم القتلة، يقتلون محمدا حتى وهو ميت.


ـ 17 ـ
كان شكري يمتدح بعض الأصدقاء في غيابهم كما هو شأنه مع الأعزاء الراحلين محمد زفزاف ومحمد الكغاط ورفيقه محمد تيمد، ولكل واحد من هؤلاء الثلاثة قصة أو قصص معه، تداخلت فيها الصداقة بالمعيش وبلحظات الموت التي عانوها وكيف تلقاها محمد بأسى كبير وبمزيج من التذكر والمكابرة على البكاء. كان يتلقى موتهم تباعا وكلما التقينا إلا وكان على ما يبدو عليه من أسى يقول مع الشاعر الذي رأى الموت خبط عشواء، ويستحضر نهايته، على حبه للحياة فقد كان بمكابرته يتظاهر بأنه لا يخشى الموت، ففي برنامج تلفزيوني أعدته فاطمة التواتي وكان ضيفه، سألته هل يخاف الموت. أجاب بأنه مستعد لاستقباله غير هياب منه. وكما قالت الشاعرة نازك الملائكة في إحدى قصائدها: هو الموت تتويج عمر وفيض امتلاء. لكن أصدقاءه الثلاثة: الكغاط وزفزاف وتيمد، وهم أحياء، كانوا يتحدثون مع شكري بالهاتف إن تعذر اللقاء، كم من مرة كنت معه فكان يتلقى مكالمات هاتفية من محمد زفزاف تظهر فيها المودة المتبادلة بينهما، كما كان يحدثه عن جليسه الذي هو أنا ويسلمني السماعة لكي أتحدث مع زفزاف. وأما محمد تيمد فقد التقيته مرات في بيت شكري، إلى أن أصابه المرض فأخبرني شكري بأنه لم يعد قادرا على صعود أدراج العمارة. كان لا يتورع عن ذم بعض الناس في حضورهم، وإن لم يكن ذما فهو جراءة منه عليهم بها يثبت ذاته أمامهم، بل كان يعتبر بعضهم غير أصدقاء، وإنما هي طنجة تفرض عليه أن يلتقي بأناس يفرضون أنفسهم عليه. وكنا نتحاور في شؤون الكتابة وحاجة الكاتب إلى الخلوة والتأمل وبناء العوالم والشخصيات والتفاصيل، فكان يشتكي إلي من سوء العادة التي تعودها وهي الخروج من بيته في النهار والليل، ليجد نفسه محاطا بزمرة من أدعياء الثقافة والأدب، لكنه كان لا يرضى أن يبدو ضعيفا من هذه الناحية، فيقول إنني قد توقفت عن الكتابة لمدة طويلة ثم عدت إليها برؤية جديدة، والإنسان إذا كان كاتبا فهو يمتلئ بما في الآخرين من حلو ومر، وإلا فمن أين نأتي بمواد الكتابة إن لم نوسع علاقاتنا مع الآخرين؟ وهي في الحقيقة متاهة أحسست أن شكري يدخلها، مع الليليين والنهاريين، فمتى يكتب، ومتى يقرأ، ومتى يتأمل؟ إنه يحوم حول نفس الأماكن ويسير يوميا في نفس الطريق، من بيته إلى البريد المركزي إلى (الروبيس) وقبله إلى مقهى البريد، في خطوات معلومة هي نفسها خطوات كل يوم، وكنت أستغرب كيف ضاقت طنجة بشكري، هو الذي غادر منذ سنوات بعيدة مراتعه في السوق الداخل لا عن تعال عن معارفه هناك وإنما لضيق استشعره من ذلك الفضاء، ربما يعود لكونه قد استهلكه، لكنه كان قد استهلك نفس الأماكن الأخرى، فلم يعد ثمة من ابتهاج غير بالسفر، وهو الذي لم يسافر ولم يحب السفر، ذهب إلى فرنسا أول مرة كضيف على البرنامج التلفزيوني الشهير (أبوسطروف)، ثم سافر إلى ألمانيا وإسبانيا وهولندا، وبعد ذلك وقبله أكثر من سفره إلى الدار البيضاء والرباط وفاس، وفي كل تلك الأسفار لم يكن يقدر على مفارقة طنجة، وكأنه أسيرها وعاشقها والمتمرد عليها.


ـ 18 ـ
ومن عجب أن يظهر أحدهم في طنجة وهو يحدث كل من رآه أو قابله بأنه يكتب رواية بطلها محمد شكري وأبو حيان التوحيدي، على قلة من يستلهم منهم سردا تخييليا من الأشخاص الحقيقيين أو من الشخصيات المتخيلة. يقول ذلك الدخيل على التخييل الروائي إنه منشغل بقضية الزمن وهو من لم يقرأ حرفا واحدا لبيرغسون، ويقول إنه قد جاء (أو سيأتي) بأبي حيان من زمنه إلى زمننا، ومن مكانه إلى طنجة، حيث يلتقي مع شكري ويتحاوران. من عجب أن هذا التلفيق أراد أن يجعل من شكري بطلا في رواية مزعومة، وأعتقد أن الأمر لا يخلو من تَلَهِّ بحالة محمد شكري، فقد استعرض هذا الكاتب المزعوم الذي لم ينشر سوى رواية واحدة، على كل مثقفي طنجة حكايات ملفقة تتعلق بالتوحيدي وبشكري حتى صار كل أولائك المثقفين يحفظونها ويمجون سماعها من الكاتب المزعوم. كان شكري لا يحب التلفيق في الكتابة. لم أسمعه يتحدث عن التجريب وإن كان قد مارسه فيما كتب.


ـ 19 ـ
كان الطريق شاقا علي من مرتيل إلى طنجة، فما كنت أحب أن أرى محمد شكري إلا وهو ماثل أمامي، في حضوره وهو بكل ابتهاجه وقلقه وسؤاله عن تفاصيل حياتي، لا عن فضول أو خبث كما يفعل الفضوليون والخبثاء، بل عن محبة ومشاركة حميمة كما كنت أشعر بذلك. فسؤاله عن أحوالي كان نابعا من شعور بالمحبة، كما كان مدخلا للبوح المتبادل بيننا، وهو البوح الذي احتفظ محمد ببعض ما يمكن أن يعتبر منه أسرارا. لم يكن كبعض اللئام الخبثاء إن بحت لهم بسر من أسرارك في لحظة صادقة استغلوا ذلك البوح للتشهير والتشنيع في حرب يخوضونها وراء ظهرك. شكري لم يكن من هذا الصنف من البشر، فقد باح لي بأشياء تتعلق بسيرته، لم يكتبها في (الخبز الحافي)، لقسوتها، لكنه كان مثلي، شديد البوح في أوقات تفجر ذاكرته وأحيانا مع أناس لا يرقون إلى مستوى معرفة الذات ومعرفة خصوصية حميمية اللحظات، فهم كالجمال الجرباء، أو هم جواسيس مقنعون لا يتجسسون على ما هو سياسي ولكنهم يتجسسون على حياة الآخرين. كان محمد مثلي، عاري القلب يكشف عن حزنه وعن طفولته وعن خصوماته لمن يستبيحون ذلك، وهي سمة في شخصيته أشترك معه فيها، وعلى عيوبها فهي تعبر عما لا يستوعبه بعض الآخرين من صدق وشفافية، وعدم أخذ الحيطة والعذر من الناس لثقة بهم، فشكري ما كان يؤمن بقول الشاعر: احذر عدوك مـــــرة واحذر صديقك ألف مرة فربما انقلب الصديق إلى عدو فكان أعلم بالمضـــرة ما كان يؤمن بذلك لأنه كان يفتح قلبه العاري في لحظات صدقه ولا يهمه ما سيحدث بعد ذلك. وبقدر ما خلق الله للكتاب قراء ومعجبين ومحبين فقد خلق من يتسلطون على حياتهم فيفسدونها حسدا منهم وغلا في النفوس. ومن حسن الحظ أن الأوائل كثر والآخرين قليلون، وعلى قلتهم فهم ماكرون في الفساد والإفساد، ينغصون على الكتاب صفو تأملهم واستغراقهم في بناء عوالم أعمالهم. لذلك وجدت في حوار أجراه حسن بيريش مع شكري ما يقدمه للمسرحي الزبير بن بوشتى لا كنصيحة وإنما كمعاناة من أصحاب الفخاخ الذين يديرون الدوائر على الكتاب واهمين أنهم سوف يعوقونهم عن الكتابة، ومن كان أصيلا من الكتاب يتعامل على الكتابة على أنها تعليل لوجوده لا يمكن أن يخون علة وجوده في الحياة ليسير مع السخفاء والتافهين. كان شكري مبهورا بنص (زمن القتلة) لرامبو، وكان يكره القتلة، أينما كانوا.


ـ 20 ـ
طريقي إلى حضور مراسيم دفن شكري في العام الماضي لم يكن كهذا الطريق الذي أذهب فيه اليوم لزيارة قبر شكري، ورغم أنه هو الطريق نفسه من مرتيل إلى طنجة فقد تغيرت معالم الطريق، فكأن الطريق صار صحراء أو مفازة أو مسلكا من مسالك العبور إلى المستحيل. قبل مواراة محمد في التراب كانت ساحة المسجد الذي سوف تصلى عليه فيه صلاة الجنازة غاصة بكل الكتاب المغاربة الذين من أقصى المدن وإلى أقصاها، فحال وصولي كان أول من رأيته هو الصديق حسن أوريد فتبادلنا العزاء في محمد، وكنت محرجا بنظرات من تجمعوا من الكتاب وأنا أطلب من السي حسن أن يبلغ شكرنا لجلالة الملك على الرعاية الملكية التي تلقاها محمد شكري، وبمجرد ما تخلصت من ذلك الإحراج فقد جاءتني كاميرات القنوات التلفزيونية تأخذ مني انطباعات عن علاقتي بمحمد، وكانت الغصة في حلقي فكيف أتكلم؟ وما كنت سأتكلم لولا أن كان طالبوا تلك الانطباعات أصدقاء قبل أن يكونوا إعلاميين في القناتين الأولى والثانية، يفرض علي احترام صداقتي لهم أن أتكلم، فقلت ما قلته وكفى. ثم وجدت من حولي أصدقاء كثيرين من بينهم محمد الأشعري ومحمد بنيس والمهدي أخريف ورشيد بنحدو وآخرين كثيرين تبادلت معهم العزاء وأنا لا أراهم إلا من وراء ضباب كان يجلل عيني. رأيت صديق العمر الشاعر محمد بنيس وهو أول من يدخل المسجد للصلاة على الجنازة، ثم لمحت أخت محمد رحيمو وقد عرفتها من حديثها مع الأشعري، وهي نفسها أخت محمد التي لا تعرفني أما أنا فأعرفها جيدا من خلال ما كان يحكيه لي عنها محمد، وهو يسميها أختي السبتاوية، ولما لمحت شابة ترافقها وهي تحدث الأشعري فقد عرفت أنها مليكة أخت محمد، تلك التي كانت صورتها تحتل المكان الأرفع من بين الصور التي كانت في غرفة نومه، وهي تلك التي كان يحبها كأخت ويرى فيها العائلة كلها، وهي التي رحنا أنا وإياه لحضور عرسها في تطوان فكان العرس قد مضى عليه يوم أو يومان، ولقد تغيرت بعد ما أدركها من سمنة، فلو رآها محمد لما عرفها، وهي تقيم في الدار البيضاء التي كان يزورها كثيرا من أجل طبع كتبه فلا يفكر في زيارة أخته التي تقطعت أوصال علاقته معها، وهو يعتبر ذلك من أكبر الخيبات في حياته. سألت عن أخيه عبد العزيز الذي زرناه أنا ومحمد في دكانه بالسوق المحاذي للمحطة الطرقية في تطوان، قبل أن يحترق السوق ويذهب عبد العزيز إلى حيث لا يعرف محمد، وما من أحد أعطاني الجواب، فلم أدر أهو حاضر في جنازة أخيه أم لا، وما كان أحد من مشيعي الجنازة يعرف أخاه عبد العزيز على حد اعتقادي.


ـ 21 ـ
أتخيله في جنازته فرحا بكل ذلك الحشد من الكتاب والشعراء والفنانين الذين رافقوه إلى مثواه الأخير حتى واروه التراب. وأتخيله يتفحص وجوههم وأسماءهم واحدا واحدا وهو يقول هذه آخر كأس وهذا آخر فلس وهذا آخر صديق، جملته الأثيرة التي كتبها في (زمن الأخطاء) فظل يرددها علينا كلما استشرف الفقدان، وكلما اقترب من سيرته الأخرى التي لم يكتبها في (وجوه). فأين هو الفنان التشكيلي السي أحمد الدريسي؟ آه! مات قبل محمد. أحقا مات السي أحمد وهو من جمعتنا به جلسة حميمة في الرباط، قبل موته بشهر تقريبا؟ وأراه يتفحص الوجوه الأخرى التي لم يكتب عنها في الجزء الثالث من سيرته الذاتية: (الخبز الحافي، زمن الأخطاء، وجوه)، يتمعن في نظراتها إلى الرفات وهو قادم من المستشفى العسكري بالرباط إلى أكبر المساجد بطنجة للصلاة، وهو رفات محمد شكري لا رفات أي أحد آخر، حتى ولو تشارك الناس جميعا في الموت وفي التجاور في المقابر، وكلنا لله، نتوحد في الموت ولكننا نفترق في الحياة، حتى وإن كانت هذه اللغة لا تعجب شكري الذي كان يقول عن الموت إنه نهاية ولا يهم ما يحدث بعدها.


ـ 22 ـ
نصل إلى مقبرة المجاهدين بالسيارة، والجو منفرج والسماء صافية شمسها دافئة، فأكتشف أن الباب لا يوحي لي بأنه هو باب المقبرة التي وارينا فيه محمدا التراب. قلت لمرافقتي : ـ قبر محمد ليس هنا. قالت لي: ـ أليست هذه هي مقبرة المجاهدين؟ بعد جولان وسط القبور رأينا زوجين يسكنان قبرا واحدا وأخوان يسكنان قبرا واحدا، وهذه ظاهرة غريبة، فقلت لها: ـ هل نتساكن أنا وأنت في قبر واحد؟ زمت شفتيها وقالت لي: ـ الأزواج والأحبة يتساكنون في الحياة ولا أدري هل سيتساكنون في الموت. ـ ومن غير شك فإن تخطيطا للتساكن في الموت، مدفوعا بالرغبة في عدم الفراق حتى في الموت، هو يتدبر أمرا كهذا. وصية يكون قد أوصى بها أحد منهما أو هما معا. لم أستطع أن أفك بعض رموز هذه العلاقة التي يمتد فيها التساكن إلى ما بعد الحياة. تراجعت في سيري بين القبور وأنا أوقن أن قبر شكري ليس في هذه المقبرة، وبعد تردد عدنا إلى باب المقبرة فسألتْ مرافقتي قيما على المقبرة عن قبر محمد شكري، فقال لها: ـ آه، هذا الاسم أعرفه، كان يعيش في السوق الداخل، فمتى توفاه الله؟ نظرنا إلى بعضنا وقلت للرجل في رمضان الماضي. قال: ـ لدينا سجلات نحصر فيها الموتى وأماكن دفنهم في هذه المقبرة، لكني لا أعرف القراءة والكتابة لكي أعرف ما في تلك السجلات، وسيأتي بعد حين رجل سوف يطلع على الصحائف، بمساعدتكم، وسيرافقكم إلى القبر، على أن تدفعوا له أجره. قلت لمرافقتي إن شكري ليس دفين هذه المقبرة بالتأكيد، فخرجنا من مقبرة المجاهدين وسألنا عن مقابر طنجة وعددها ومواقعها فبدونا لمن سألناهم كالغرباء عن الموتى وما نحن سوى غرباء في الحياة. لما ذكر أحدهم اسم مقبرة مرشان، قلت لها: ـ هي، هي نفسها، وعلينا أن نذهب إلى مقبرة مرشان. وصلنا إلى مقبرة مرشان وعند المدخل تأكدت من أنها المقبرة التي وارينا فيها جثمان محمد التراب. اشترينا قبضة من أغصان الريحان الذي يكثر في أشقار لنضعه على قبر محمد. كما تكاثر حولنا السقاءون الذين يحملون علبا مملوءة بالماء هي في الأصل للزيت، فسقي الموتى بماء الرحمة هو نفسه ما كان يتم من قرب الرحمة الجلدية التي كنت أراها في مقابر فاس والسقاءون يحملونها على ظهورهم وينادون: ـ ها الما للسبيل. أما اليوم فقد تحولت تلك القرب الجلدية إلى علب هي في الأصل للزيت وقد صارت مليئة بالماء. سرت أمامهم تقودني خطواتي إلى القبر. ها هو. (هذا قبر المرحوم محمد شكري، الروائي والكاتب العالمي). هذا ما كتب على شاهدة قبر محمد، فكما كان نادرا في حياته فهو نادر في موته، إذ لا أحد من دفيني هذه المقبرة أو في غيرها من مقابر طنجة يمكن أن ينافسه في هذه الصفة أو أن يصاب منها بالغيرة فيعتبر عالمية شكري مجرد ممازحة. كان ثمة زحام شديد حول قبر يوجد بجوار محمد، ومقرئون كثيرون يقرأون ما تيسر من الذكر الحكيم. وضعنا أغصان الريحان على قبر محمد وكانت ثمة أغصان أخرى كما كان القبر مسقيا بماء الرحمة فقالت لي مرافقتي: ـ زوار سبقونا للقبر للترحم على صاحبه. شككت في الأمر، فاليوم هو الجمعة الأخير من رمضان وربما يكون العيد غدا أو بعد غد، والوقت وقت ضحى وأصحاب محمد لا يستيقظون باكرا وأهله بعيدون عن طنجة، فمن يكون قد سبقنا إلى الترحم على قبر محمد فسقى القبر ووضع عليه أغصان الريحان؟ قرأنا عليه الفاتحة وسورا من القرآن الكريم، ووقفت أراه ماثلا أمامي، لا يصدق أن الموت قد تخطفه، هو الذي غادر طنجة إلى المستشفى العسكري بالرباط على أمل العودة إليها. في طريق العودة وعند منتصف الطريق تدفق المطر من جديد. كنت صامتا ومرافقتي ترقب دموعا جادت بها عيناي. قالت لي: ـ أعرف أنك حزين لفقدان محمد، ولكنك تبكي نفسك كما تبكيه، وما كان محمد سوف يذرف دمعة عليك لو كنت قد سبقته إلى القبر، لا لأنه كان لا يحبك، ولكن لأن الدموع لم تذرفها عيناه في كل المحن التي عاشها. كفكفت دموعي ثم دخلت في بكاء صامت على نفسي وعلى محمد وعلى كل من عاشوا وماتوا من أجل الكتابة وحدها و(من أجل الخبز وحده).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى