كلام مسجل لم ينشر : الروائي المغربي محمد شكري.. أجرى الحديث : محمد القبي

• لم أتعلم القراءة و الكتابة إلا في سن العشرين .
• كنت أبيع السجائر المهربة و " الكيف " في الميناء .
• اشتغلت نادلا في مقهى و في حانة و مرشدا سياحيا و معلما و مذيعا ...
• درست في حياتي أربع سنوات و بضعة أشهر فقط .
• أنتمي إلى طبقة مهمشة ، مسحوقة تتكون من اللصوص و البطالين و المغامرين و العاهرين و العاهرات...
• الحكي عن أشياء شفويا ليس كالكتابة عنها .
• التاريخ لا يخلق الحياة إنما الحياة هي التي تخلقه .
• ليس هناك حياة حكاية بل هناك حكاية حياة .
• لا أعرف المغرب معرفة عميقة …
• أنا معجب بصليحة وعلي الرياحي و حبيبة مسيكة و رؤول جورنو .


عاش الفقر والخصاصة والحرمان والتشرد والتهميش... عاش مسحوقا، في وضع رديء وفي مستوى متدن للغاية... قضى حياته لاهيا ماجنا, معربدا بين الصعاليك والشواذ يعاقر الخمرة ويمارس الجنس ويتعاطى المخدرات... التقى في مدينة طنجة المغربية بالبعض من الكتاب العالميين الذين أقاموا في هذه المدينة على غرارالأمريكيين تنيسي وليامز وبول بولز والفرنسي جون جونيه: هؤلاء شجعوه على كتابة سيرته الذاتية فـي " الخبز الحافي "، هذا الكتاب تمت ترجمته إلى تسع وثلاثين لغة: إنه دون شك الروائي المغربي محمد شكري الذي تميزت كتاباته بالصدق والواقعـية والتلقائية والصراحة والجرأة التي لا مثيل لها... ترك للقراء ولكل عشاق الكلمة الصادقة عديد الأعمال إلى جانب " الخبز الحافي" و" الشطــار" أو " زمن الأخطـاء " و"الخيمة" و " السوق الداخلي " و" مجنون الورود " و "جون جونيه وتنيسي وليامز في طنجة " وغيرها... محمد شكري رحل عن هذه الدنيا يوم السبت الخامس عشر من نوفمبر سنة 2003 عن سن تناهز ثمان وستين سنة بعد صراع مرير مع مرض السرطان بالمستشفى العسكري بالرباط. التقيته قبل اثنتي عشرة سنة خلال شهر أوت من سنة 1995 بمدينة قابس حيث أجريت معه حوارا مطولا لم ينشر من قبل تميز بالتلقائية والصدق والصراحة والجرأة والشفافية ففيه عرى جوانب عديدة من حياته وهذا أهم ما دار بيننا من حديث :


س: أستاذ محمد شكري نعلم جميعا أنك بدأت الدراسة في وقت متأخر جدا... حدثنا قليلا عن ذلك وعن نشأتك وبداياتك .
ج : لم أتعلم القراءة والكتابة حتى سن العشرين كان ذلك عام 1956 سنة استقلال المغرب فأنا من مواليد سنة 1935 كنت أجهل القراءة والكتابة. كان هناك نداء لكل الذين يرغبون في تعلم القراءة والكتابة في مدارس ليلية إذ كانت هناك دروس تعطى ليليا للذين يشتغلون في النهار وهذا النداء عمم بالنسبة إلى الذين يريدون أن ينتسبوا إلى التعليم الرسمي المنتظم فأنا غامرت, كنت أشتغل وأقوم بعدة أعمال في هذه المرحلة... كنت أعمل في الميناء خصوصا أبيع السجائر المهربة و"الكيف" وعملت أيضا كمرشد سياحي واشتغلت في عدة مرافق: في صالون مقهى ومطعم وحانة... بعدها فضلت أن أتخلص من هذه الأعمال التي كنت أقوم بها وذهبت إلى مدينة العرائش حيث انتسبت إلى مدرسة ابتدائية, باختصار درست هناك لمدة أربع سنوات وبضعة أشهر في تطوان فنجحت وعـينت معلما في طنجة بصفة رسمية في إحدى المدارس الحكومية: إذن هذه بدايتي التعليمية, هكذا اختصرتها دون تفاصيل... مع الحرف سيكون منطلقي فيما بعد لكي أكتب.

س : ألفت العديد من الكتب منها ما وصل إلى تونس مثل "الشطار" و " الخبز الحافي " ومنها ما لم يصل. هل لك أن تسلط الضوء على البعض الآخر من مؤلفاتك ؟
ج : من حيث التوزيع ما طبع في المغرب لم يصل إلى تونس وإلى أي بلد عربي ولكن من بين الكتب التسعة التي نشرتها على نفقتي الخاصة بالمغرب طبع منها ثلاثة كتب اثنان فى دار الساقي في لندن وهما " الخبز الحافي " و" الشطار " ونفس الرواية صدرت في المغرب طبعتها بعنوان آخر وهو " زمن الأخطاء " ومجموعة قصصية صدرت عام 1979 في دار الآداب البيروتية والكتب الأخرى نشرت في المغرب ولم توزع خارجه " الخبز الحافي " سيرة ذاتية روائية, ليست مكتوبة بتاريخ متسلسل إنها ليست سيرة ذاتية مبنية على أمجاد أدبية لأن السيرة الذاتية غالبا ما تكتب عندما يكون للأديب مجد أدبي وهذه السيرة الذاتية لكي أكتبها بهذا الشكل كان لا بد لي أن أكتبها بشكل روائي وهذا يشكل ربما منعطفا جديدا حتى بالنسبة إلى السيرة الذاتية المعروفة في العالم العربي لأنها تنسلخ عن الأسلوب البلاغي الكلاسيكي المعروف عند طه حسين وأحمد أمين وعبد المجيد بن جلون مثلا وهذه السيرة الذاتية التقليدية التي نعرفها بينما هذه السيرة هي سيرة شطرية وليس شطارية كما يقال في هذه السيرة . في " الخبز الحافي " هي سيرة ذاتية أشخاصها ليس لهم طبقة معروفة في المجتمع هي طبقة مسحوقة , مهمشة وهذه الطبقة أنتــمي إليــها
وأحاول أن أعيد إليها الاعتبار في المجتمع, هذه الطبقة المسحوقة التي تتكــون من اللصوص والعاهرين والعاهرات والبطالين والمغامرين.. هل من الممكن أن أعطي نبذة عن مفهومي للسيرة الذاتية.. ؟

س : تفضل.... سنكون سعداء بذلك وستحصل المزيد من الإضافات للقراء في هذا السياق .
ج : حقا قد عشت تجارب كثيرة لكنني كنت أدرك أن الحكي عن أشياء شفويا ليس كالكتابة عنها, كنت قد عشت وأنا أعرف كيف أحكيه زاهيا لأن كيفية العيش ليس مثل كيفية الحكي, الصراع كان مع تركيب الكلمات وخلق الصور فالأحاسيس والافكار يملكها الكثيرون... ليس المعيش اليومي وإنما الإيهام به. الإنسان في الإبداع ليس تاريخا موثقا لأن التاريخ لا يخلق الحياة إنما الحياة هي التي تخلقه ومعلوم أن المشاعر أكبر من اللغة إنها لا تفي أي اللغة بمثل ما تجيش به المشاعر, التعبير عنها يبقى هو الأهم والأسمى أي أن نبدع لغة المشاعر من خلال اللغة طبعا يظل هناك الإيهام بالمعيش لكن هذا يعني حتما الشهادة العيانية فهذا متروك للتاريخ, إننا عندما نقول مثلا : العدم فإن هذا التعبير لا يعني بالضرورة النفي المطلق إنما المقصود هو العجز عن التعبير المقصود " ليس هناك حياة حكاية بل هناك حكاية حياة " كما يقول ابن عمران المليح ثم يضيف: " إنني ولدت يوم الحكاية أي المحكي " وبهذا المعنى فإننا نحكي لنعيش ولا نعيش لنحكي, الكتابة إذن ليست ترخيصا للعيش اليومي العادي إنما الكتابة تصير استكشاف حياة أخرى أفضل. الحياة الحقيقية يخلقها الإبداع وظاهريا لا يتحقق هذا المزج إلا بانتهاء الآخر في مجاله. ما قيمة الحياة إذن إذا لم ينقحها إبداع, نحن مطالبون بالتكثيف والتراكم والتخزين حتى يتسنى لنا الترميز والتوضيح أن نعبر بمنتهى المعنى بأقل ما يمكن من الكلمات ومفهومي مثلا للسيرة الذاتية هو أنها هي أيضا ليست سيرة شخص إنما هي سيرة أجيال ( سيرورة )، السيرة الذاتية هي كينونة مسار, أن يلغي الماضي كوثيقة لتاريخ إنسان فرد. الكتابة في هذا المعنى ليست سرد حياة أو " حيوات " معينة بل هي سرد تجميع حضاري للإنسان أينما كان. ليس عندي نظريات مسبقة عن الكتابة لكن قد يكون عندي الكتابة عن النظريات وهي موجودة في كل كتابة ابداعية جيدة ربما هي حكاية لا تروق للكثيرين. لا يهم فكـل كتابة تحمل صمودها وخزائنها..

س : تميزت كتاباتك بالشفافية وبالوضوح والجرأة كيف قابل القراء هذه الكتابة في المغرب ؟
ج : إذا كانت الطريقة التي كتبت بها تشكل منعطفا في كتابة السيرة الذاتية تكون كتابة جديدة لا بد أن تحمل معها صدمتها, فهناك من تقبلها بنوع من التفتح الذي انطلقت منه لأنني عندما كتبت الجزء الاول والجزء الثاني من السيرة الذاتية لم أفرض على نفسي رقابة ذاتية قوية، المحرمات الثلاثة, الثالوث المحرم ( الدين, السياسة, والأخلاق ) لم أحاول... لامست هذا الثاثوث ملامسة تماسية قريبا منها ولكنني لم أتعمق في التحليل، لكن من المؤسف أن هذه المواضيع الثلاثة التي ذكرتها كل موضوع يشكل سيفا على رقبتي طبعا أنا حاولت ما أمكن أن أنتقد بعض الظواهر الموجودة في المجتمع المغربي كنت أقوم بعمل شرطي المرور أكتب كما يكتب عن بعض المجتمعات لا أقول من سوء حظي، من حظي فقط أنني أكتب عن المجتمع الطنجي أي أنني لست كاتبا مغربيا أنا كاتب طانجوي وهذا ليس عنصريا على الإطلاق لأنني في الأصل لست من مدينة طنجة أنا وافد عليها، فأصلي من الريف بربري فحتى لغتي بربرية فقط إنني استوطنت مدينة طنجة منذ ثلاث وخمسين سنة، جئتها في السابعة من عمري ومازلت أقيم بها حينما أقول إنني: كاتب طانجوي أريد أن أقول أنني لا أعـرف المغرب معرفة عميقة حتى أكتب عن مراكش أوفاس أو الرباط وأتطفل لأن لكل مدينة تقاليدها من حيث التعبير واللغة فـلا أستوعب أو أتمثل مجتمع مدينة ما حتى أتعمق في الكتابة عنها ومدينة طنجة بحكم إقامتي فيها طويلا استطعت أن أكون ما يسمي بمعرفتي بجغرافيتها السرية .

س : في اللقاء المفتوح الذي نظمه مهرجان قابس لتكريمك بينت أنك لا تؤمن بالكتابة الجيدة أو الكتابة الرديئة فهل من تفسير لهذا الموقف ؟
ج : الناس العاديون يعتقدون أن الكتابة هي أن تنقل المعيش اليومي كما هو فإن تسجله هذه الكتابة تسجيلية, أنا لا أكتب " الريبورتاجات " عندما أكتب عن حالة اجتماعية هناك تجزيئات, هناك تجارب حول هذه الحالة المعينة, إذا ما كنت سأكتب حول ظاهرة لا بد أن تكون لي تجارب كثيرة مع العاهرات حتى أعرف سلوك العاهرة الشرسة والمهادنة والمراوغة أو تكتب عن لص فأنا عندما أكتب عن حالة تتجمع فيها حالات كثيرة جدا تختلف الواحدة عن الأخرى ولكن تتمركز في موضوع عاهرة أو موضوع لص, موضوع إنسان بطال عاطل تتضمن مشاكله التي يعيشها من خلال قصة قصيرة بينما المجال الروائي يمكن أن يتوسع فيه الكاتب أكثر لكي يعلل... هو مجال أرحب من حيث التحليل هنا لست مطالبا بأن أعطي جوابا عندما يقال لي هل هذا حقيقي ؟ هل عشته ؟ المفروض أن ما أحكيه وأن ما أكتبه هل يمكن أن يعاش ؟ هذا هو المفروض عشته أنا حقيقة أم عاشه الآخرون لا يهم كثيرا أنني عشته شخصيا... في سيرتي الذاتية لا أكتب عن نفسي بل أكتب عن جيلي أو عن الأجيال الثلاثة التي عشت معها لكي أوضح للذين يتساءلون... منطلقي شخصيا هو هذا
وأعتقد أن معظم المبدعين ينطلقون من هذا المنطلق... ينبغي أن لا نسألهم هل هذا حقيقي أم غير حقيقي ينبغي أن نقول هـل هذه الكتابة جيدة أم هـذه الكتابة سيئة ؟ هل هذا معقول أن يعاش وليس ضروريا أن أكون قد عشته أو أن أحقق هل هو حقيقة أم كذب ؟

س : استاذ محمد هل تتقبل النقد من قبل الآخر سواء كان خفيفا, لطيفا, أو لاذعا ؟
ج : هناك من" يشطب" عليك....

س : شهدت الساحة الفكرية نهضة كبرى على مستوى النقد الأدبي وعلى مستوى النقد الفلسفي فما رأي الأستاذ محمد شكري ؟
ج : أنا لا أتابع كل هذه الإصدارات الفلسفية والنقدية أنا منشغل أكثر بالكتابات الإبداعية وأركز على القراءات والإذاعات... بصراحة هذا السؤال أعتبره نوعا ما أكادميا وأنا لا أنتمي لا من بعيد ولا من قريب إلى مثل هذه التخصصات الفكرية والعلوم الإنسانية .

س : ننتقل إلى جانب آخر من الحوار ما الذي بقي في ذاكرتك ؟
ج: بقي في ذاكرتي ما لم أكتبه بعد... لكي أنجز ما تبقى في ذاكرتي تخلصت من لعنة العمل الرسمي فكل واحد يتمنى أن يتخلص منها والآن أحاول أن أثبت نفسي كاتبا محترفا ولا أقول ككاتب محترف... تجنبت أن أكون كاتبا هاويا لكي أكون كاتبا محترفا أعيش بحقوق نشر كتبي، هذه هي محاولتي والآن عندي كتاب قيد التنقيح .

س : لقد كتبت وتحدثت بصراحة تامة, هل هناك أشياء لم تصرح بها من قبل وتصرح بها الآن لأول مرة ؟
ج: ماذا يمكن لي أن أقول هناك أشياء صرحت بها وأشياء أخرى لم أصرح بها حتى الآن... عندما أكتب عن هذه الظواهر التي يعتبرها الغير مشينة و الآخرون يعتقدون أنني أكتب هذه الكتابات فقط لأربح بها بعض الأموال... ما لا يسرني أن بعض النقاد وبعض القراء يعتبرون أنني أكتب تحت الطلب وما أرجوه هو أن لا يتعامل معي هؤلاء بهذا الشكل لأنني لا أتاجر ولا أحاول أن أتاجر بما أكتب وأطلب منهم أيضا أن لا يتعاملوا معي كظاهرة أدبية بما أنني تعلمت في وقت متأخر خاصة أنه الآن يحتفى بي ويترجم لي... أطلب منهم أن يتعاملوا معي كقيمة أدبية وإذا لم تكن هناك قيمة أدبية في كتبي فأرجو أن ينسوني: هذه الأشياء لم تتح لي الفرصة لأعبر عنها .

س : تزور بلادنا لأول مرة, كيف بدت لك تونس ؟
ج: لا تنسى أن تونس لم تكن غريبة عني حتى قبل أن أتعلم القراءة والكتابة, كانت لدي ثقافة تونسية موسيقية لأني كنت من المعجبين بصليحة أو صلوحة فهي كانت صلوحة فأصبحت صليحة و رؤول جـورنو و محمد الكرد وعلي الرياحي وحبيبة مسيكة بالإضافة إلى أغان أخرى جزائرية وشرقية من خلال ثقافتنا الشعبية قبل أن أتعلم القراءة والكتابة مثل الآخرين ومن خلال الأغاني والأفلام .
ينبغي أن أقول وهذا ذكرته في رواية "الخبز الحافي " أن أول بيتين شعريين حفظتهما كانا لأبي" القاسم الشابي "
إذا الشعب يوما أراد الحياة * فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي * ولا بد للقيد أن ينكسر
عندما بدأت أقرأ وأكتب... قرأت لبعض الكتاب والشعراء التونسيين مثل أبي القاسم الشابي ومحمود المسعدي وعلي الدوعاجي وعلى ذكر علي الدوعاجي عندما كنت أشتغل في إذاعة " ميدي 1 " قدمت عنه أربع حلقات : عن مجموعته القصصية الجميلة " سهرت منه الليالي " و " جولة حول البحر الأبيض المتوسط " فهو كان ينتسب إلى جماعة تحت السور أو جماعة "الحشاشين " بباب سويقة أو شيء من هذا القبيل وقدمت كذلك حلقات عن صليحة .

س : أستاذ محمد اسمح لي أن أضيف هذا السؤال المتعلق بالأمثال العربية, ما هو رأيك في الأمثال العربية وما هو موقعها في الأدب وفي كتاباتك أو حتى في حياتك الخاصة ؟
أنا لا أؤمن كثيرا بالأمثال بصفة عامة لأن الإستشهاد بالأمثال ضعف, كثرة الإستشهاد: قال فلان وقال فلان وهذا المثل وذاك ضعف... فالأمثال لا تؤثر في كثيرا فالإتكال عليها ضعف أيضا... لا أعتمد كثيرا عليها في كتاباتي ...


قابس – تونس أوت 1995

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى