علي كاظم داوود - مــريـــم.. قصة قصيرة

استيقظت مريم وفركت عينيها وبلعت ريقها المتيبس، بدت كما لو أن حلما ثقيلا كان يجثم على منامها، مشت بثوبها الزهري نحو المطبخ، حيث جدتها تقتعد الأرض، رحّبت الجدة بها بقبلة عميقة على خدها واجلستها في حجرها، ولأن صور الحلم المزعج ما زالت ملتصقة بالاشياء مثل طيف حيثما حرّكت مريم عينيها، كان أول شيء نطقت به «جدتي ما معنى قلع الضرس في الحلم». ذُهلت العجوز كأنها شاهدت أفعى تخطف من أمامها، وبصوت متكسّر خرج من بين شفتيها المرتعشتين، بعد ان غطتهما بأصابع كفها الذابلة، قالت «وهل رأيت دماً يخرج بعد اقتلاع الضرس». أجابت الصغيرة مندهشة من تبدل حال العجوز «لا أدري، ولكن، جدتي، هل هو حلم سيء». قلّبت الجدة نظرها بين أشياء المطبخ؛ كأنها تهرب من صورة ابنتها الراقدة، ومن دموع تحاصر عينيها. لم تنتظر الفتاة جوابا وقامت متوجهة إلى إحدى الغرف «سأذهب إلى أمي»قالت مريم، فاجابتها الجدة «عودي بسرعة كي تذهبي للمدرسة».

الأم ما زالت ترقد في سرير المرض منذ عدة أشهر، لم يكشف عن حقيقة مرضها الغامض لحد الآن، فالاطباء يؤكدون ان ليس ثمة أي خلل عضوي في جسدها. الجدة قالت منذ ساءت حالة ابنتها بأنها »منظورة«. العجائز المجاورات عندما زرنها أول مرة أبدين موافقتهن بأن أحدهم قد »حَسَدَها«، وإنّ قراءة المعوذتين وتبخيرها وإحراق الملح في المنزل وخصوصا ليلة الجمعة سيذهب الحسد عنها.

والدة مريم استيقظت في يوم مرضها ودون أية نذر سابقة وهي على هذا الحال الذي هي عليه اليوم، لا تشعر بساقيها. الأطباء عجزوا عن إيجاد سبب أو علاج لمرضها، وقد نقلها زوجها بين العشرات من المستشفيات والأطباء دون فائدة، جلّ ما حصل عليه منهم هو تخمين بأن السبب ربما كان نفسيا، ولّد مضاعفات عضوية على الجسد تطورت إلى شلل الساقين .. إلا أنهم منحوه أملا كبيرا بأن شللا من هذا النوع هو مؤقت سيزول حتما بعد زوال المؤثرات النفسية له.

عادت مريم فقالت الجدة وعيناها كما لو أنهما تعلنان الحداد إن لم تري دما في الحلم بعد اقتلاع الضرس فإن ذلك فأل سيء جدا يا بنيتي، أرجو أن لا تكون رؤياك صادقة.

ودّعت العجوز حفيدتها عند ذهابها إلى المدرسة فوجدت سائلا عند الباب، واحدا من الفقراء الكثيرين الذين يتنقلون بين المنازل ـ مثلما يتنقل النحل ـ طلبا للقوت، بعضهم كان مخادعا لكن أكثرهم دافعه العوز.. ودون أن تسمع طلبا منه غابت عائدة إلى الداخل ثم رجعت إليه سريعا. انطلق الفقير وكيس مؤنته يلتصق بظهره، خبز وتمر وبعض البقول، محتفيا بالورقة النقدية التي منحته العجوز، فـ »الصدقة تدفع الشر وتطفئ غضب الرب« مثلما كانت تردد دائماً.

آخر ما جرّبه الأب، قبل ايام قلائل، بعد أن تلاشت الخيارات أمامه، وباقتراح من الجدة، هو أخذ زوجته إلى أحد العارفين، أولئك الذين يدّعون أنهم يكلمون الجن، ويخرجونه ممن تلبّسه، ويحضّرونه لمعرفة أمور عصيّة على الإنسان، ويفكّون السحر المعقود على من يأتونهم من المسحورين.

دخلوا على العارف بعد أن قطعوا تذكرة ودفعوا مبلغها المحدد، كما عهدوه في عيادات الأطباء، ورأوه شخصا طبيعيا تماما، لا ضباب يحيط به، كما هو في الأفلام، ولا محرقة بخور أمامه، ولا يردد خزعبلات من لغات منقرضة .. كل ما في الأمر أنه بدأ يستجوب الأم عن حالتها، ثم صاح على فتاة صغيرة، ربما كانت ابنته، أجلسها قبالة الأم، وأخذت شفتاه تتحركان بكلمات خفيضة، فتغير حال الفتاة، وتكلمت بأشياء عجيبة، عن امرأة شريرة عملت سحرا ودفنته في مقبرة قديمة. بعدها طلب إناءا عريضا فيه ماء، أمر بوضعه في منتصف الغرفة وتمتم طويلا حتى عرق جبينه، وفجأة وقعت صرّة قذرة من القماش في الماء فذهل الجميع. طلب ان يأخذ الصرة بعض الصبية ويلقوا بها في النهر لإبطالها شرّها. وقال «ستُشفى قريبا».

تضاعف حزني عند سماع هذه الحكاية من والد مريم، في صالة انتظار العمليات، لكنه بدا اربط جأشا مني، وأكثر طيبة مما تصورت.

كنت أسير مسرعا بسيارتي، يخيل لي أني لمحت من بعيد بعض الفتيات يعبرن الشارع بملابس المدرسة، لكني لم اعلم كيف صدمت إحداهن. نقلت الفتاة إلى المستشفى، هناك قالوا أنها ستعيش، لكن الطبيب قال إن إحدى ساقيها يجب أن تُبتر. لم أقوَ على الوقوف، جلست وصورة فتاة بساق واحدة تستند إلى عكاز من المعدن لا تفارق مخـيلتي ... «أرجوك حاول بأية طريقة أخرى سوى البتر ... فقط دعها تعيش بساقيها».

ذهبت نحو الفتاة التي خرجت قبل قليل من صالة العمليات، في الغرفة رأيت عجوزا تبكي وامرأة متوسطة العمر تقف إلى جانبها، عرفت أنها والدة مريم قد شفيت عند سماع نبأ ابنتها، مريم، التي ترقد بانتطار القادم المجهول.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى