محمد حجيري - مُجون ابن سكرة الهاشمي

اللافت أنه كلما توغلنا في الثقافة التراثية العربية خصوصاً المرحلة العباسية، اكتشفنا المزيد من "الكتب الماجنة" والمزيد الشخصيات الشعرية والأدبية التي تميزت بمجونها وجرأتها وكلماتها غير "المألوفة" في زماننا وعصرنا، وبصيغة أخرى هي مألوفة في لغتنا الشعبية واليومية ولكنها منبوذة من التدوين والكتابة..

كانت الشخصيات التراثية المتنوعة المشارب والثقافات، تستعمل في نصوصها تعابير وكلمات نعتبرها اليوم ماجنة وسوقية، وقد أبعدت عن نصوصنا ومؤلفاتنا الحديثة، بعدما استوردنا اللغة "المهذبة" و"المشذبة" من "الحداثة الأوروبية" (أو الغربية)، وحتى مضامين النصوص القديمة تبدو غير مألوفة في وقتنا، اذ كانت شديدة المباشرة بلا تورية أو لف ودوران، يقول صاحبها ما يراود مخيلته وذاته من انواع الهجاء والاخوانيات يبوح باستيهامات لذته ورغبته وفحشه، فلا يتردد أي شاعر في مغازلة الغلمان وجسد الرجل والمرأة وحتى الهتك بالنص الديني والمقدس، فأبو نواس كان يستعمل بعض الكلمات من النصوص المقدسة في مجونه الغلماني، وابن حكيمة لا يتردد في رثاء ذكره أو عضوه، وابن سكرة الهاشمي مثلاً، لا يتردد في مهاجمة اعتى الشخصيات الدينية الإسلامية المقدسة، وهو اشتهر في مرحلة تنافس الأمراء في المنح والعطايا التي تقدّم للعلماء والأدباء والشعراء، فكثرت المصنفات، ما بين لغوية وأدبية وشرعية... وفي ظل هذا لم يكن غريبا حياة الترف والمجون لبعض شبابها ممن تهيأت نفوسهم لمثل هذا اللون الترفيهي... فكان شعر ابن سكرة الهاشمي، وابن الحجاج، اللذين امتلأت الدنيا بشعرهما صخباً وضجيجاً، الأمر الذي جعل الثعالبي - احد معاصريهما - يقول: "إن زمانا جاد بابن سكرة وابن الحجاج لسخيّ جدا وما أشبههما إلا بجرير والفرزدق في عصريهما".

لكن الغريب ان هذين الشاعرين لم ينصفهما منصف حتى الآن، فابن الحجاج بدا الانصاف يزحف نحوه رويدا رويدا، ذلك حين نشرت بعض مختاراته الشعرية في ألمانيا وبغداد وفي تونس، وبدا الاهتمام به في السنوات الاخيرة من خلال بعض الدراسات الأجنبية ونشرت بعض مخطوطاته بالعربية، ولكن حتى الآن ما زال غير رائج بشكل جيد مع ان شعره يتسم بالهزل.

أما ابن سكرة، فما زال الزمن يعانده، فديوانه يصل الى خمسين ألف بيت، على حد قول الثعالبي ما زال مفقودا، ولأن شعره في المجون والسخف ويكثر من "ذكر العورات" فقد ابتعد عنه المصنفون في الأخذ من أبياته وتضمينها لمصنافتهم إلا القليل منهم ومن هؤلاء الثعالبي الذي ضمن "يتيمة الدهر" الكثير من اشعار الرجل حتى غدت "اليتمية" المصدر الأول لشعر ابن سكرة(ت 385 هـ) وقد حقق محمد سالمان أجزاء من شعره وصدرت عن منشورات "الجمل" في بيروت وفي طبعات اخرى.

وبحسب محمد سالمان، ان لشعر ابن سكرة الهاشمي قيمته الأدبية، وهو مفيد أيضا لمن يروم التأريخ للأخلاقيات، وقصائده تلقي الضوء على جانب من جوانب الحياة في بغداد في زمانه، غالبا تمّ التستر عليها، ويمكن للمؤرخين أن يجدوا في مجونه الكثير مما أهمله ساردوا أحداث الحقبة البويهية، ومعلومات عن عوالم المغنيات والعاهرات وأجواء الحانات.

وابن سكرة هو محمد بن عبدالله بن محمد، ابو الحسن، الهاشمي، عرف بابن سكرة وعرف بابن رائطة او رابطة، كان من وجهاء عصره، وعلى صلة بالخلفاء والوزارء والقادة واعيان زمانه. وصفه أبو منصور الثعالبي في "اليتيمة" بأنه "شاعر متسع الباع في أنواع الابداع، فائق في قول الملح والظرف، أحد الفحول الأفراد، جار في ميدان المجون والسخف ما أراد". وهو عشق الغلمان ووصفهم، وتذكر بعض الكتب التراثية أنه قال اكثر من عشرة آلاف في "قينة سوداء" لقبها "خمرة"، وكانت ملازمة له في جميع أوقاته، لا يكتم لها سراً، ولا تخلو بعض جمله فيها من السوقية والابتذال والهجاء المستطير.

وعلى الرغم من كثرة المصادر التي ترجمت لابن سكرة وأوردت أشعاره، فإن حياته تبقى مكتومة، ولم تعطنا هذا "المصادر الا النذر اليسير عن حياته"، وأغلب هذه المصادر قد نقلت ما اورده الثعالبي. وكثر رواة شعره، والسؤال لماذا ضاع شعر ابن سكرة مع العالم ان ديوانه كبير. قد يكون بعض الرواة عمل على ضياع شعره أو ان ابن سكرة لم يهتم لكتابة ديوانه خاصة أن في شعره سخف ومجون، الاغراض التي غلبت على شعره، فهي الهجاء والغزل والخمر والمجون والمزاح الثقيل والملح والنوادر، فقد هجا البخلاء والشعراء(منهم المتنبي) وذم المدن، وكان خبيث اللسان، يتقى سفهه كما وصف في "الكامل" لابن الاثير، خفيف الروح، طيب المزاج، وذكر ابن الأثير أنه كان منحرفا عن الإمام علي بن ابي طالب، وربما يقصد "منحرف الاخلاق والدين"، وليس في شعره. يقول محمد سالمان "ما بين أيدينا من شعره يؤكد ذلك، فليس في شعره شيء يؤكد على التزامه بالدين"، بل ان المحقق وصفه بـ"الفاسق غير الجاد"، والسبب قوله:

وهنوا بالصيام فقلت مهلا/ فإني طول دهري في صيام

وهل فطر لمن يمسي ويضحي/ يؤمل فضل أقوات اللثام.

وتدل الروايات على ان ابن سكرة عرض بآل البيت(نسل النبي)، فهجاه ابن الحجاج بقصائد كثيرة أشهرها النونية، ومطلعها: "لا اكذب الله إن الصدق ينجيني".

وكان ابن سكرة معاقرا للخمر، فكثيرا ما يذكر ذلك في شعره: "تبيت على خمر تعاقر دنها/ وتصبح مخمرا مريضا من الخمر". والمتأمل في شعر ابن سكره يجد أنه ينتمي لعصره أيما انتماء، أي عصر الغزل والغلمان، وهو ما نراه واضحا في شعره، من ذلك مثلا قوله في غلام بيده غصن لوز:

غصن بان بدا في اليد منه/ غصن فيه لؤلؤ منظوم

فتحيرت بين غصنين في ذا/ قمر طالع وفي ذا نجوم

باختصار، ابن سكرة الهاشمي الشاعر لم يمنعه نسبه أو انتسابه الى "الشجرة المباركة"(بحسب محمد سالمان) من أن يكون غصنا للخبث والفجور.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى