بهاء عبد المجيد - زجاج أزرق حزين

في نفس الوقت الذي فتحت فيه بدور عينيها كانت هناك فأرة مكتظة الرحم تبحث عن مكان لتضع فيه صغارها. ربما تبحث عن كسرات من الخبز الجافة تقرضها، محتفظة بجزء للجيل القادم.
تنظر بدور حولها فتجد أخواتها متراصات علي جانبي الفراش. تزيح ساقي إحداهن بحنان، تنهض متثاقلة، تحاول اختراق أجسادهن، تواجهها صورة "العذراء" فتذكرها في قلبها. تدخل الحمام، تغسل وجهها، تمسح آثار الأحلام، وتطرد الأشباح و المخاوف بداخلها، تراءت لها لحظات من حلم بأنها تغرق في نهر وحولها أسماك تأكل من جسدها و إثناء محاولتها للصعود لقرص الشمس الذي يرسل أشعته عبر فقاعات تنفسها رأت صليباً من الخشب عليه طحالب خضراء، حاولت أن تمسك به ليخلصها من سقوطها، وعندما أمسكت به ذاب بين أصابعها فهوت إلي القاع، ثم ما لبثت أن غاصت وغاصت في الطين.
تفتح نافذة الحجرة المطلة علي الحارة. تري عبر النافذة جارتها سوسن تعدل من شعرها في المرآة بينما ينساب صوت الشيخ محمد رفعت رقيقاً بآيات بينات من آي الذكر الحكيم. تلقي عليها الصباح ثم تدخل الردهة، تقابل أمها فتذكرها بأنه يجب أن تنتهي من تنظيف المنزل بسرعة؛ لأنهما ستذهبان إلي كنيسة سانت تريزا هذا الصباح.
اعتادت أن تذهب إلي سانت تريزا كل أحد مع أمها ومعهما فطائر الرحمة التي كانت أمها رغم ضيق ذات اليد، حريصة علي عملها كل أسبوع؛ فقد كانت تشعر بالرضا حينما تري نظرات الامتنان في عيون المحتاجين، وتشكر الرب أنها أفضل حالاً منهم، وتتذكر قول السيد المسيح:"وإن طلب رداءك فأعطه أيضاً".ولكنها كلما فكرت في المستقبل شعرت بالانقباض والخوف، ماذا ستفعل في هذا العالم بمفردها؟ ترملت مبكراً وتركها زوجها مع ثلاث بنات، بدور أكبرهن. نشأت بقرية متواضعة بجوار بحيرة قارون يعيش أهلها علي الصيد وتسمى قرية الصيادين. كم من السنوات أنفقت في تأمل مياه البحيرة التي تأخذ لون الطين. ثم لا تلبث أن تتلون بلون الدم عند افتراش قرص الشمس لها . وعندما يرحل الليل بهمومه ونجومه يخرج جدها إلي البحيرة ويأتي بالأسماك المتلألئة، تماماً كما كان يفعل رسل المسيح، فيقفز قلبها لرؤيتها وهي تحاول جاهدة للتخلص من الشباك، فتبكي من أجلها. ذهب جدها إلى البحيرة ذات يوم وقال سأبحث عن كنز قارون القابع تحت البحيرة، لقد أغرقه الله هو وقصره وماله عقاباً له علي طغيانه وعدم بره بأهله وعشيرته. أما عمها فغطس وقال: سأحضر إكسير الحياة الذي حول به قارون التراب إلي ذهب. غرق الجد، ولم يظهر العم.
أذاعوا في القرية أن هذه العائلة ملعونة، وأنه يجب علي الجدة أن تدخل القصر وتستسمح الجن والشياطين سكانه أن يرفعوا عنها وعن عائلتها هذا البلاء ولكن الجدة لم تعد كما دخلت. فأخذت تصعد إلي سطح المنزل وتتحدث إلي القمر ليلاً وإلي الشمس ظهراً، وأحياناً تجري نحو انعكاس ضوء القمر علي مياه البحيرة وتقول إنها تسمع أصوات أجدادها، وأنهم الآن يصعدون إلي الشاطئ بعد أن نالوا حظهم من العقاب. وعندما تسأل أين هم؟ تقول أنهم لن يظهروا لكم قبل أن يخلعوا دين اليهود ويتنصروا، وأخذت تجلب لهم الطعام من بيض وخس وأسماك مملحة وتفرشها علي الشاطئ، وتفرد شعرها وتقول لهم "هيا إلي مائدة السماء، إلي مائدة المسيح" قال أهل القرية: "امرأة مجنونة، أخرجوها من هذه البلدة حتى لا تجلب لنا لعنة قارون". قرر أهل بدور أن يتجهوا غرباً إلي ليبيا، ولكن الجدة قالت :امشوا في اتجاه الهرم الذي كانت تراه من شرفتها فساروا بمحاذاة النيل حتى وصلوا إلي شبرا قالت: "لنستريح هنا ونبني لنا عشة".
وما أن انتهوا من بناء العشة حتى فاضت روح الجدة فوضعوا صليباً علي صدرها ونجمة كانت تحتفظ بها في صدريتها، وعندما أحرقت الشياطين عشتهم ليلاً رحلوا عنها، وتركت أم بدور بجوار العشة صليباً كانت قد صنعته من عظام السمك، ثم ما لبث "حافظ" والد بدور أن وجد حجرة متواضعة بجوار كنيسة سانت تريزا وقال لن يستطيع شبح الجدة أن يأتي إلي هذا المكان والعذراء ستحفظنا.
في شبرا لم يعرف ماذا يعمل، وكيف يطعم أبناءه؟ وعندما حكي قصته لقس الكنيسة، قال له: "عليك بالصيد ففيه بركة"، كان حافظ يخاف النيل ويخاف الطين منذ أن مات أبوه في البحيرة، أما هو فقد مات بشوكة انحشرت في حلقه.
وعندما فارق الحياة لم يترك سوي خمسة أرطال من السمك في سلة تنام بجوار باب الحجرة. اضطرت ليندا " أم بدور" أن تساعد في نظافة الكنيسة مقابل أجر ضئيل، وكان أخوها عوض يقدم لهم يد العون من حين لآخر. عاشوا معاً في الحى نفسه وحاولوا أن ينسوا الجدة والبحيرة وقالوا: إن أردنا الحياة يجب أن ندفن الموتى إلي حين . وكبرت بدور ومعها سر القصر ولغز جنون الجدة ولكنها لم تخبر أحداً، ولم يجرؤ أحد علي سؤالها وتكاثر البشر بجوار الكنيسة وجامع الخازندار ورحلت الخضرة والأشجار و الزرع ولم يبق من الترعة غير اسم شارع عمومي تتراص علي جوانبه البيوت المتواضعة و العمارات العالية، و بقي مسكن أهلها كما هو بسبب الفقر، فلم تكمل بدور تعليمها، وتركت المدرسة بعد حصولها علي الشهادة الإعدادية. لكنها ظلت تحب قراءة الصحف وبعض القصص وأحياناً تقرأ الإنجيل علي مسمع من جارتهم الطيبة أم سعيد التي كانت تنصت لها رأسها وكأنها تفهم ما يتلي عليها معلقة:"كل كلام ربنا كويس".
صوتها جميل، ووجهها أبيض، وعيونها خضراء، وعندما تمشي تتعلق بها العيون، تخترق النهدين والساقين. حاول أحد جيرانها تتبعها ليلاً، صعد وراءها السلم، حاول تقبيلها، قاومته، ولكنها ظلت تتذكر قبلته وتتمني مرات أن يقتحمها أحد بهذه الجرأة مثلما فعل سعيد الذي جند في حرب سبعة وستين ولم يعد. قالوا: إنه استشهد، وقالوا: إنه أسير، وكانت كلما سمعت اسمه تذكرت قبلته.
في عيد القيامة زارهم خالها عوض. قفز قلب أمها من بين ضلوعها عندما زف لها أخوها البشري بأن هناك خطيباً تقدم لبدور يرغب في الرباط المقدس. لم تصدق أن بدور ستتزوج في أيام النكسة هذه.
لم يقيموا فرحاً كبيراً حرصاً علي مشاعر أم سعيد جارتهم التي غاب ابنها، وتركها وأخته سوسن وحيدتين.

جرجس
جاء جرجس يوم الأحد الساعة الخامسة تقريباً، أراد أن يذهب مبكراً؛ خشية أن تحدث غارة أثناء زيارته لبدور. لا يريد أن يكون نذير شؤم في بداية معرفته بها. لم يكن قد رآها من قبل، ولكن سمع عنها من أخواته البنات اللاتي كن يرينها في الكنيسة، وكن يثنين علي صوتها الجميل وهي تنشد التراتيل مع الكورال.
هو الآن يعمل ترزياً في أتيلية بوسط المدينة. في بداية حياته عمل في جاتنيو، ثم انتقل ليعمل عند الخواجة لوكا بناء علي توصية من صاحب المتجر الكبير، بمرتب عشرين جنيهاً بخلاف البقشيش. بلغ الثلاثين من العمر، وفكر جدياً في الزواج، كره الحرام وأراد أن يتوب، بعد أن كاد يقتل ليلة السبت، عندما ذهب إلي عشيقته في إمبابة. طرق الباب، قابلته بالقبلات، افترشا الأرض عاريين. لا يتذكر شيئاً بعد ذلك، فقد وجد نفسه ملقي أسفل السلم ودمه ينزف. تعرف عليه بعض المارة فأخذوه إلي المستشفي. حمد الرب على السلامة وتكتم الآخرون الخبر؛ خوفاً من الفضيحة.
تطلع عليه بدور، جميلة الوجه، مهندمة الثياب. تحمل في يديها صينية عليها أكواب من الشاي، تضعها، ترتعش يداها ارتعاشه خفيفة.. تجلس بجوار أمها ومن الناحية الأخرى يجلس عوض الذي يكسر الصمت معلناً أن جرجس يريد الزواج من بدور. جرجس رجل عريض الأكتاف، واسع الصدر، تظهر بعض الشعيرات في مقدمة رقبته وصدره. يداه قويتان، خافت الصوت. سألت نفسها: "أيجب الغناء؟" سأغني له عندما نكون بمفردنا بالمنزل.
انتهت الجلسة بتحديد ميعاد الإكليل. فرحت الأم كثيراً؛ لأن بدور لن تكون بعيدة عنها، فهناك حجرة خالية في الحارة نفسها، ستدهن بطلاء مبهج وتجهز بأحسن الأثاث، وكل شئ سيكون علي ما يرام.

سوسن
لم تكن المرة الأولي التي أذهب فيها إلي الكنيسة يوم زفاف بدور، فكنت أحياناً أتسلل إليها وأنا صغيرة لأقطف الزهور. هناك يلمحني الحارس، فلا ينهرني ولا يجري ورائي، وأري الأطفال يوم الجمعة، وهم عائدون منها، يحملون في أيديهم صوراً جميلة وملونة للسيدة العذراء والسيد المسيح. نهرني أخي سعيد عندما وجد في يدي إحدى هذه الصور، فبت أغار منهم و أتساءل: لماذا لا توجد لدينا صور نحن المسلمون؟
كانت ليلة العرس مزدحمة. تقدمت هي وجرجس إلي المذبح مرتدية فستاناً أبيض. خجولة. جاء الكاهن ورتل بعض التراتيل، وقال لجرجس وبدور :"أنتما جسد واحد". بدأت الأجراس تدق، أحاطهم الشمامسة بترانيم رقيقة وعبقت رائحة البخور فضاء الكنيسة، ابتسمت الوجوه، و اختلطت النساء بالرجال، وهرج الأطفال ومرجوا، لمحت أمي من بعيد وقد نفضت عنها ثوب الحزن وارتسمت علي وجهها ابتسامة. ربما تفكر في زواج لي أو ربما تستعيد لحظة زواجها وفرحة اكتشاف أنوثتها. وخاضت مع الجيران في أحاديث وضحكات رنت في كل الأركان ورجع صداها فى قبة الكنيسة.
من حين إلي آخر نذهب أنا وأمي إلي سانت تريزا. الصمت الذي يحيط بالمكان يرهبني، صور القديسين وهم ينظرون إلي السماء ويرفعون أيديهم في سلام . أري صورته وهو طفل وحوله هالة من النور. وأمه الطاهرة تنظر إليه بحنان بوجه ملائكي مشرق. أشعة الشمس التي تخترق النوافذ الملونة، والمدرجات الخشبية بنية اللون تغريني بالجلوس عليها. انظر إلي الصليب الكائن فوق المذبح فأراه فوقه يفرد ذراعيه، منكس الرأس، ولكن عينيه تنظران إلي السماء يغطي رأسه إكليل من الشوك. نظرته التي يغمرها الحزن كانت تدهشني وتحزنني. أود أن أصعد إليه، أنزله وأسقيه ماء ، وأضمد له جراحه وأنزع عنه تاج الشوك وأضع مكانه عقد ياسمين وذهب. تأمرني بعدم النظر وتقول"ستجنين" ، وتسحبني من يدي الساخنتين ونمر بين الصحون المرمرية. أتركها وأتسلل إلي مقام القديسة تريزا، فتراودني الرغبة في دخول هذا التابوت الزجاجي، أستلقي، أمدد جسدي المتعب، أشعر ببرودة المكان، وأقطع صمته بوجودي.
نخرج من الكنيسة ونركب ترام السيدة زينب من محطة جامع الخازندار الذي كنت أذهب إليه لأحفظ القرآن علي يد شيخ يسكن في الشارع المقابل ويقول دائماً:"القرآن نور لك في الأرض و السماء". ننزل عندما يهتف الكمساري "أم هاشم"، وأمام الضريح نتخفف من سلة الفول النابت التي ما أن يلمحها أحد المجاورين حتى نجد أنفسنا محاطين بجمع غفير من الفقراء و المتسولين، وينتهي الأمر ويفرغ ما فيها في لمح البصر. و العرق يتصبب من جبينها تحاول أمي بصوت مبحوح أن تسألهم أن يدعوا لأخيهم سعيد بالعودة إلي أمه سالماً. كان البعض يدعوا والبقية تنشغل بالتهام الطعام. بعد العصر نغادر الضريح ويقول القائم علي الخدمة: "لا نساء بعد الخامسة" فتترك المقام وأنا أشم رائحة العطر الذي سكن راحتي عندما ملست بهما علي السور المفضّض للمقام مقلدة ما تفعله أمي و الآخرون.
***
ساءت أحوال حارتنا بسبب الحرب، فالبيوت مظلمة معظم الوقت تأتي الغارة فنسمع أصواتاً تنادى بإطفاء النور، فنسرع إلي الأدوار التحتية أو نفر إلي المخابئ القليلة المتاحة. وكنا نحن الأطفال نقاوم تغلغل الخوف إلي داخلنا بالضجيج والصراخ، ونزعق بصوت يملؤه الحماس مرددين:"يا عزيز، كبه تاخد الإنجليز".
أحياناً أجد علي الأرض أقلاماً ونقوداً. التقطت مرة قلماً من تحت قدمي، أردت أن أكتب خطاباً إلي أخي أقول له فيه إني خائفة، تخيفيني الغارات والحرب وتتجمد عروقي، فالموتى يمرون بشوارعنا وعويل أمهاتهم يخفيني وتراودني الكوابيس ليلاً. أقول له إنني أفتقده، كما أفتقد أبي والأمان، فلا يد حنون تربت علي، ولا حماية رجل يبعد عني المخاوف. سأقول له إنني أنظر إلي السماء كل ليلة، وأطلب من الذي رفعها أن يعيدك لي ولأمي حتى نشعر بالحياة مرة ثانية. سأتوسل إليه وأقول له عد يا سعيد حتى نفرح و أدوس الأرض مطمئنة لوجودك معي. عندما رأت أمي القلم وبختني وقالت: أنتي عايزة تموتي زي بتوع بحر البقر، حرام عليكي، إحنا عارفين دول حاطين لينا فيها إيه!. فحزنت لأنني لم أحتفظ بالقلم، وحزنت أكثر لأنني لم أرسل الخطاب.
يقول الجيران إن اليهود قتلوا أخي سعيد. ولكن أخي لم يقتل ولم نستلم جثته. أخي لم يمت، ربما فقد في الطريق، ربما كسرت ساقه ولم يستطع المشي في الصحراء الواسعة التي ذهبت إليها في رحلة مدرسية إلي الأهرامات، كم هي متشعبة بتلالها، لم أستطع أن أدور حول الهرم الأكبر، كدت أسقط عندما تسابقت أنا وإحدى زميلاتي من فوق أحد التلال. في الصحراء أعطتني امرأة أجنبية تفاحة، كان وجهها أحمر من حر الشمس، تعلو جبينها قطرات من العرق. حييتها، كلمتني ولم أفهم، فقط أتذكر التفاحة الحمراء بلون الدم ورائحتها التي لا تزال تحيط بي. أتذكرها كلما رأيت التفاح. الأجنبية اختفت في الصحراء مثل حبة رمل. ربما تتذكرني مثلما أتذكرها، تتذكر الطفلة التي قابلتها ثم عطفت عليها وأعطتها التفاحة. ربما هذه المرأة التي ستقابله وتنقذه.

لوكا
الخواجة لوكا صاحب الأتيلية يهودي الأصل،جاء من اليونان إلي القاهرة منذ فترة طويلة ولم يرحل مع الذين ذهبوا إلي إسرائيل بعد إقامة دولتهم، لم يحصل على تعليم عال، يتحدث العربية والإنجليزية بطلاقة. لم يكن شاباً عادياً،و لكن وسيم الطلعة، أعطته الشمس لوناً برونزياً جميلاً، مبتسم الثغر، شعره الأسود الناعم مسترسل علي جبهته،. يميل إلي الطول، وذو تكوين جسدي ينم عن ممارسة الرياضة بشكل منتظم. لم يتزوج، ويواظب علي الصلاة في المعبد اليهودي في شارع عدلي. يوم السبت يوم خاص، يعتزل فيه الحياة، يأتي إليه جرجس ليعد له الطعام ثم يرحل.
كان في الثانية عشرة عندما وصل إلي الإسكندرية مع والدته "ساشا" بعد أن مات أبوه التاجر الذي كان يقيم بمفرده. جاءت والدته لتحصل علي ما تبقى من تجارته ولكنها لم تجد غير الديون. رحلت إلي القاهرة، جربت حظها في الرقص و التمثيل ولكن لم تستطيع أن تحقق حلمها بعد أن أحبت مخرجاً فاشلاً سرعان ما عرفت أنه يريدها متاعاً له وللآخرين. أدمنت الخمر وعانت سنوات قبل أن تستعيد ثقتها بنفسها. أقامت علاقات عابرة مع رجال عابرين إلي أن استقر بها الحال مع سائق تاكسي أحبها بشدة وكان حريصاً على أن تترك الملهي ويتكفل بإعالتها هي وابنها. كانت تكره أن يراها لوكا مع رجل آخر غير أبيه، رغم أن الطفل كان قد تقبل الوضع الجديد دون أن يثير مشاكل تذكر إلي أن علم أن السائق يطمع في الزواج من أمه فثار ثورة عارمة وترك المنزل. انتهت العلاقة بفضيحة بعد أن أتت زوجة السائق و اتهمتها بأنها خاطفة أزواج، وأن نساء الغرب لا يأتي منهن إلا المصائب وأن أجسادهن مشاع. تبرع بعض أصدقائها بإقراضها بعض المال فاستأجرت أتيلية لتفصيل الملابس، وكان لديها بعض الخبرة. مع الوقت أجادت حرفة التفصيل واشتهرت بين أوساط الطبقة الراقية في مصر. استطاع الابن أن يحافظ علي سمعة الأتيلية الطيبة بعد وفاة أمه.
اعتاد لوكا أن يذهب إلى الإسكندرية صباح كل يوم أحد ويعود في آخر قطار. وفي إحدى حفلات أعياد الميلاد التي كان يدعى إليها، قابل سابينا الإيطالية، رقصا طول الليل وحكى لها عن حنينه إلي قلب يفهمه ويشاركه حياته في القاهرة. افترقا علي لقاء.
توطدت العلاقة بينهما وشعرا بأهمية كل منهما في حياة الآخر، كانا يذهبان إلي الشاطئ وكانت تستسلم لمداعباته وقبلاته، قال لها:"لقد أصبحت شيئاً مهماً في حياتي " وسألها أن تتزوجه. فرحت سابينا باحتوائه لها هذه اللحظة، ولكنها فوجئت بالأمر، فهي لا تريد الزواج الآن. لم تكن متأكدة من مشاعرها نحوه. الزواج رابطة أزلية لا يحلها إلا الرب. لذلك أرجأت إعطاءه رداً، فضلاً عن أن القرار ليس لها وحدها فهناك الأب الذي يجب أن تستشيره. قالت:"أريد أن أخرج من المياه، أرغب في الذهاب، لقد تأخرت".
- ولكنك لم تقولي رأيك؟... أريد أن أسمع منك إجابة الآن.
- ليس الآن. دعنا من هذا الأمر. ليست لدى إجابة حاضرة، سأرد عليك قريباً.
ترك والد سابينا لابنته حرية التصرف في أمور حياتها كيفما تشاء، فلم يمانع في البداية أن ترتبط بلوكا كصديقين، ولأنه كان كاثوليكياً متشدداً، رأي أن مسيحية تتزوج يهودياً أمراً مستحيلاً. وفي إحدى أمسيات يوم الأحد، بينما كانا يستمعان إلي الراديو ويحتسيان الشاي قالت: أتريد بعض الحلوي؟
- أشكرك لا أريد حلوي. أنا أحاول أن أضبط السكر كما تعلمين.
- أعلم ولكن كنت أختبر جلدك وصبرك.
- تعرفين جيداً مدي صبري.
- أتقصد صبرك علي؟
- ليس بالتحديد، ولكن أريد أن أري نهاية لتلك العلاقة.
- النهاية كما اقترح لوكا هي الزواج.
- وماذا عن رأيك؟
- أسيغير هذا من موقفك؟
- إذن أنت تعرفين أنني غير موافق.
- هذا ما كنت أتوقعه دائماً.
- وهل صرحت للوكا بالأمر؟
- لم تكن هناك فرصة لكي أشرح له، كان سعيداً ومتفائلاً ولم أشأ أن أجرح كبرياءه في نفس اللحظة التي طلب مني فيها أن أكون شريكة حياته. لم أستطيع أن أقوم بدور لا أقبل أن يقوم به شخص أمامي.
تأهب والد سابينا للرد وكأنه سيلقي تصريحاً مهما:
- اليهود ليس لهم مستقبل، هم مهددون في كل آن. منذ أن أعلن عليهم هتلر الحرب وهم مثل الفئران، يختبئون في الخنادق، وتحت الأرض، لوكا شاب جيد بالتأكيد، ولكن لا أريد أن ينتهي بك الأمر وبأولادك في غرف الغاز.
- أنت تتحدث عن تاريخ انتهي منذ خمسة عشر عاماً، نحن الآن عام 1958 .. ولوكا لا يريد أن يرحل إلي إسرائيل أو غيرها، لقد أصبح مصرياً بغض النظر عن ديانته بالشكل الذي تعتقده، سأحاول، وربما أنجح في أن أجعله كاثوليكياً..
- سابينا! كلمتي الأخيرة أنني غير موافق. لوكا مهدد بالرحيل في أي وقت عبد الناصر، لن يترك أي يهودي علي أرض مصر، فهو الآن في حرب مع الدول العظمى.ألم تسلب إنجلترا من الفلسطينيين أرضهم وتعطها لليهود؟ ألم تتزعم إسرائيل الهجوم علي مصر في حرب سته وخمسين؟ ألم....ردت سابينا بعصبية:
- أبى هل من الممكن أن نغلق الموضوع؟
نظر كل منهما للآخر ثم ساد بينهما صمت الموتى.
ترنيمة الرمال
أيام وترحل عن الإسكندرية.
ألقت سابينا بملابسها داخل الحقيبة، نظرت إلي اللوحات المعلقة بحوائط غرفتها وكأنها تتشبث بها خوفاً من الفراق. أمسكت بلوحة الفنار، تركتها بحرص، ثورة الأمواج والغليان الذي يتأجج بداخلها جعلتها ترتعد. لم يكن فقط والدها الذي أرغمها علي الرحيل ولكنها رغبة ملحة تدفعها إلي الهرب، أن تترك كل شئ، أن تختبر حبها للوكا وكأنها مدفوعة بقوة خفية نحو المجهول. فلتعد إلي إيطاليا إذن، وترجع إلي منزلها الذي تركته فوق الجبال الخضراء ثم يفعل الله ما يريد.
خرجت إلي الردهة، وجدت والدها يجلس شارد الذهن، صامتاً، غير شاعر بوجودها أو صدى خطوات أقدامها. لا، لن تطلب منه البقاء في الإسكندرية، لن تضعف أمامه. اقتربت منه ومدت يديها بحنان، وربتت علي كتفيه وقالت بصوت يملؤه الحزن :"كما تشاء يا أبي". ثم اتجهت ناحية الباب.
ذهبت إلي بائع الزهور الذي ابتسم وحياها بحرارة كالمعتاد، أخفت دمعة سالت فوق خدها، طلبت منه زهرة "أوركيدا"، الزهرة التي اعتاد لوكا أن يرسلها إليها. لم تشأ أن تخبره أنها ذاهبة إلي الأبد. عبرت شارع الكورنيش، ثم هرولت مسرعة ناحية الشاطئ، انحنت بخشوع علي رمال كامب شيزار. وضعت الأوركيدا برقة، تأملت ألوانها وغاصت في جمال تكوينها وهمست إليها بما في قلبها:
لتذكريني دائماً أيتها الرمال
ولتحن إلي يا أمواج البحر
ولتبك رحيلي الرياح و السحب
وليبق لوكا محباً لي إلي الأبد
نهضت وأخذت تجرى و تجرى ، وكأن الموج يريد أن يلحق بها، ولما أخفق تلقف زهرتها في أحضانه وأبحر بها بعيداً. تخطت الطريق مرة ثانية. دارت حول محطة الرمل، تجولت في شوارع المدينة، نظرت إلي الحوانيت، أنصتت إلي مقطع من أغنية إيطالية قديمة:
"لا تنس معطفك الوردي
وأترك قبعتك
لأقبل فيها رائحة جبهتك
حين تهجرني إلي محبوبة أخري"
في ذهول التائه وجدت نفسها عائدة إلي محطة الرمل. دخلت فندق"سيسل" طلبت قهوة. لمحت في بهو الفندق كابينة الهاتف، أتتصل بلوكا! أتبلغه أنها ستسافر وتهجره؟". خرجت. لفحها هواء البحر، وأزاح ذيل فستانها فعدلته بأصابعها،فكرت في أن تستقل سيارة أجرة، ولكنها أوقفت حنطوراً. وكأنها أميرة مهزومة تمر بين شعبها، صعدت ثم جلست فاردة قوامها، وضعت ساقاً فوق ساق، وبصوت تملؤه هشاشة الانكسار أمرت الحوذي بالصعود في اتجاه صفية زغلول. تهادت العربة وسط الشارع الحبيب، وانعطفت لتمر أمام مدرستها القديمة بأسوارها العالية وأشجارها الباسقة والمائلة بحنان علي جدرانها، الكنيسة الكاثوليكية، بيوت الأصدقاء،القصور التي رقصت فيها، السفارات التي دعيت إليها.
سرت قشعريرة في أوصالها عندما تذكرت أن أباها سيكون وحيداً، فبعد فقد أمها، التي ماتت إثر حادث انفجار لغم في العلمين، لم يبق له إلا هي. آه يا سابينا، ألم تكفه قسوة الأيام!


دكتور / بهاء عبد المجيد


د‏.‏ بهاء عبد المجيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى