سليمان السلطان - الحداثة والتراث.. نصر حامد ابو زيد نموذجاً

بخلاف ما قد يكون راسخاً لدى البعض، فقد شغل التراث حيزاً كبيراً لدى الخطاب الحداثي في الفكر العربي، ورغم أن الحداثة حركة تنويرية أو تقدمية (أو على الأقل هكذا تقدم نفسها) إلا أنها – مع ذلك - لم تنأ بنفسها عن التراث، ولا عن تأمله والنظر فيه.

لعل نصر حامد ابوزيد من أهم النماذج للدلالة على صدق هذا القول، فبقدر ما أثار ابو زيد جدلا (وجاء ذلك على أثر محاكمته على أثر اطروحاته حول القرآن وعلومه) حول منهجه في الالتزام بقراءة التراث، وذلك من قبل خطاب ييجعل من نفسه الممثل الشرعي للتراث، فإن حريا بطرحه أن يثير تساؤلاً عن علاقة الخطاب الحداثي بالتراث بصورة لافتة. لهذا السبب يبدو لي مشروع "ابوزيد" في قراءة التراث شيّقاً...!

بادئ ذي بدء، من المهم أن نشير أن ابو زيد قد أكد مراراً بأنه ليس من الداعين إلى القطيعة مع التراث، ولكن بعكس ذلك، كان يدعونا إلى الانفتاح على التراث، ولكن على أساس معرفي "محض" (بقدر المستطاع)، ومن خلال ذلك يمكن أن نخلص التراث من أغلال الأدلوجة التي كبلته من جراء الصراعات السياسية التي نشبت بين المسلمين آنذاك.

لذا قدم لنا ابو زيد دراسات مهمة في التراث. فكتابه عن "الاتجاه العقلي في التفسير " هو دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، وهذا هو عنوان الكتاب الفرعي، وإن كانت مبحثا في التراث الإسلامي إلا أنها دراسة معنيّة بموضوع بلاغي ولغوي محض، ولا تفيدنا كثيراً في الدلالة على علاقته بمنهجه "النهضوي"، وإن كانت تشير إلى همومه المبكرة بالتراث.

فإنه لا يخفِي اهتمامه بالتراث، بل إنه يقول بكل صراحة بعد أن ينتقد الاستخدامات النفعية لقراءة التراث بأن "ليس معنى ذلك أننا ندعو إلى الانقطاع الكامل عن منجزات التراث في اتجاهاته ذات الطابع التقدمي في سياقها التاريخي"...! (نقد الخطاب الديني – ص 204)

ومع ذلك، فإنه قد قدم دراسات مهمة تطبيقية لمنهجه في تأويل الخطاب في التراث، في رأيي أنها من أكثر الدراسات أهمية في فضاء الفكر العربي والإسلامي بغض النظر عن موافقتنا لها جزئياً أو كلياً، من ضمن هذه الدراسات : "مفهوم النص" و"النص والسلطة والحقيقة" ودراسته عن "الإمام الشافعي".

لكن تعاطي ابو زيد مع التراث له سمة مميزة، فإنه يسعى لتخليص التراث عما يرى أن التصق به من جراء الصراعات الأدلوجية من خلال قراءة التراث ذاته بمنهج تأويلي معين.

ورغم اهتمامه بالتراث إلا أنه لا يخنع له خنوعا تاما، ولكن يجد بأن من المهم أن نتبنى منهجاً "تنويرياً" بقراءة التراث، وذلك من خلال أمرين: أولا لابد أن تكون منهجية القراءة منهجية علمية، أي حداثية توظف ما توصلت له البشرية من علوم وفلسفة في فهم التراث وثانياً: لا ينبغي أن نخضع إلى سطوة التراث (الانستلجيا)، لذا يدعو (ويتعصب إلى هذه الدعوة بحكم المنهج الذي يتبعه) إلى قراءة التراث في سياقه التاريخي، وعند الانتفاع منه لابد من مراعاة هذا الجانب التاريخي، وكل ذلك تحذيراً من تزييف التراث، (وهو ما يدعو بـ" تلوين التراث")... وقد يبدو للبعض بأن هذا تحقير للتراث، ولكنه في واقع الأمر أجلال له، لأنه يريد أن يقف على التراث من حيث أنه "تراث" أي بمعناه الخالص، من دون ترتيق أو تجميل، وهو ما يعني كشف حقيقة التراث، ورفض كل ما يشوه هذا التراث، ولكن ليس باجترار التراث، وترديد ما قد قيل حوله، وعند توظيف ههنا فإن ذلك يتم مع وعي كبير بموقعه التراث تاريخيا!

لذا يشن ابو زيد نقداً لاذعاً للقراءات السائدة للتراث آنذاك، لأنها لا تراعي ذلك. وعلى ضوء ذلك، يصنف ابو زيد قراءات التراث إلى عدة اتجاهات تمثل تيارات فكرية وأدلوجية، يبسطها في كتابه "الخطاب والتأويل" تحت عنوان "إشكالية التراث في الوعي المعاصر"... هذه الاتجاهات تنقسم إلى ثلاثة: الأولى هي التي تدعو إلى الانقطاع الكامل مع التراث، وينعتها بالتناقض لأنه تهتم بالهوية ورغم ذلك، ترفض التراث بأجمعه (على ما يبدو بأن لدى "ابو زيد" فهماً مغلوطاً لمفهوم القطيعة المعرفية التي يلصق القائلون بها مثل الجابري بهذا التوجه)، والتوجه الثاني هي التي تحمل شعار "الإسلام هو الحل"، و الخطابات الصحوية والأخوانية والسلفية تنتمي إلى هذا التوجه، وهي تقدم قراءة تبجيلية وتقليدية للتراث من دون أن تراعي الأدوات المنهجية الجديدة في قراءة التراث. لذا تبقى عاجزة عن فصل الأدلوجي عن المعرفي في نشوء هذه الأفكار التي أضحت "تراثاً مقدساً" لا يمكن المساس به.

والتوجه الثالث يسميه اليسار الإسلامي ، ويمثله حسن حنفي، ويفرد له فصلاً كاملاً في كتابه "نقد الخطاب الديني" يعنونه (التراث في التأويل والتلوين – قراءة في مشروع اليسار الإسلامي)، ورغم أنه لا يختلف – على ما يبدو – مع النتائج التي تتوصل لها مثل هذه القراءة، ولكن يختلف معها لأنها قراءة توفيقية وبالتالي تلفيقية، تهدر السياق التاريخي وتثب فوق التاريخ والزمن، وهي ما يقصدها بتلوين التراث (=قد تفهم على أنها تتريث للحداثة)، ومثلبة هذا التوجه في تجاوز آليات التأويل والتفسير للتراث، ويرهن حلول الواقع بالتراث عن طريق أهدار معنى السياقات المهمة في فهم التراث والحاضر، لذا يقول: "وإذا كان اليمين يرفع الآن شعار "الإسلام هو الحل" فإن شعار اليسار "تجديد التراث هو الحل" وعلى ذلك يلتقي اليسار واليمين في جعل الماضي أصلاً والحاضر فرعاً"... رغم ذلك هو لا ينكر جدلية الحاضر مع الماضي، أو الاهتمام بالأولوية على أساس التصور لهذا الجدل، ولكن لابد من مراعاة قانون الجدل ذاته كما يقول، "ولكن الفكر الديني – اليميني خاصة – يهدر تلك العلاقة الجدلية ويجعل للماضي أولية وجودية ومعرفية بحث يصبح هو الجوهر الثابت وتتحول علاقة الحاضر به إلى علاقة تبعية وخضوع أشبه بعلاقة العرض بالجوهر" (نقد الخطاب الديني – ص: 140)

والآن نأتي إلى "جوهر " القراءة التأويلية التي يقدمها ابو زيد (أو غيره)... فهو كمطلع شاسع الإطلاع على التأويلية (الهرمنيوطيقا) Hermeneutics كما نبعت في الفكر الغربي لابد أن يعرف إشكالية القراءة التي تشتمل (من ضمن ما تشتمل) على أزمة تداخل الذات مع الموضوعي في ظل ثنائية التراث والحداثة... فالإنسان يعيش في عالم متعدد المعاني، واختيار الإنسان لمعنى من هذه المعاني ليس عبثاً محضاً، ولكن يمكن تفسيره من خلال عملية التأويل ذاتها.

وأبو زيد مدرك لهذه الإشكالية لذا يقر بمقولة ألتوسير بأنه "لا توجد قراءة بريئة"، (الجابري وحرب وأركون يقرون بذلك أيضاً ولا يستثنون قراءتهم من ذلك، وهذا ما يميز خطابهم عن غيرهم إذ أنها لا تزعم الوثوقية فتقع في براثن الدوغمائية كما تفعل بعض الخطابات الأخرى)...

ولكن لا تكتمل القصة بذلك، فالمسألة ليس "ابيض أو أسود"، فالقراءة مهما كانت نسبية يمكن تلمس "الحقيقة" فيها، لذا يقول ابو نصر: "إن أنعدم البراءة في النشاط المعرفي عموماً وفي قراءة النصوص خصوصاً أمر له تأويله الإبستمولوجي [أي المعرفي] ما دام فعل المعرفة لا يبدأ من فراغ مطلق شامل مطابق لحالة البراءة الأصلية الأولى على افتراض وجودها"... "وما دام التأويل فاعلية استنباطية فمن البديهي أن يكون للذات العارفة دور لا يصح إنكاره أو تجاهله"... لأن... "هذا القارئ محكوم إبستومولوجياً بآفاق المكان والزمان، بل والمزاج اللحظي في بعض الأحيان"... (نقد الخطاب الديني – ص: 119-120)

ولا شك بأن القراءة (وهذا أمر طبيعي ولا مفر منه معرفياً) محكومة بالواقع المعاش، وهذا الواقع -شئنا أو أبينا- هو واقع مهيمن عليه الغرب لا سياسياً وعسكرياً وحسب ولكن علمياً وفكرياً وتقانياً... فسيان أن نسمي هذا الواقع الحضارة المعاصرة أو "الحداثة"... فالحجة في نهاية المطاف هي تحديد المفهوم أولاً وثانياً التعاطي مع "جبرية" الواقع إن صح التعبير... والقراءات التقليدية ليست هي في منأى عن هذا حتى لو زعمت العكس، إذ أنها تجاوب عكسي على "الحداثة" كما لاحظ كثير من المثقفين – هي موقف محدد بالسلوب ضد الواقع المهيمن عليه غربياً...!

والقراءة المغرضة كما يقول ابو زيد "هي على عكس ذلك، لا تأويل لها إلا في الأيديولوجيا"، لأنها تتغافل عن أمرين وفقاً لإطلاعي على تفسير ابو زيد، ونختصرها بالتالي: أولاً ": الواقع الذي يؤثر على الذات العارفة، وثانياً: معنى "التراث" الذي نشأ في ظل واقع قد مضى. وطالما أن الواقع تغير فلابد أن تجدد الذات العارفة المعاصرة مفهومها عن التراث. وليس ذلك على سبيل التخيير، ولكن على سبيل القسر!

وهاته اشكاليات تلامس قراءة التراث، لكن من موقف معرفي لا أدلوجي!


وختاماً أقتبس من "ابو زيد" في معرض ختامه هو عن هذه الإشكالية عندما قال " إذ يظل البحث أفقاً مفتوحاً مع كل أثر جديد يظهر أو نص مخطوط ينشر هذا فضلاً عن التطور المعرفي الذي لا يتوقف لأدوات ومناهج البحث، مع ذلك كله يظل سؤال "التراث" مفتوحاً لأن سؤال "الحاضر" وكذلك أسئلة "المستقبل" تعيد صياغة أسئلة "الماضي" فلا شيء مكتمل لأنه لا شيء مغلق إلا عقول البعض منا"... (الخطاب والتأويل – ص: 186)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى