أيمن مصطفى الأسمر - لقاء عابر

تجد نفسك في قاعة باذخة الفخامة شديدة الاتساع، تضج القاعة صخبا بأناس كثيرين، تعرف بعضهم وتجهل أكثرهم، تستغرب وجود بعض من تعرفهم، فهم يبدون لك خارج سياق الحدث الذي يتواجد من أجله هذا الحشد الهائل من الناس، والذي قد يكون ـ في ظنك ـ اجتماع جمعية عمومية لإحدى النقابات أو الأندية، ورشة عمل، أو غير ذلك من المناسبات، بعض الحضور واقفون يتبادلون الحديث بصوت عال، وآخرون جالسون لكنهم لا يقلون صخبا، فيما يتناول بعضهم فناجين الشاي والقهوة أو كؤوس العصير مع بعض المأكولات الخفيفة، تشعر بالغربة ولا تجد في نفسك رغبة في تبادل الحديث حتى مع من تعرفهم أو في تناول شيء من الشراب أو الطعام، تبحث عن ركن هادئ قليلا لتنزوي به لكنك لا تجده، تتسلل إلى شرفة خارجية فيسعدك أن تجدها أكثر هدوء، فتنتقي أريكة خالية لتجلس في الهواء الطلق بعيدا عن أجهزة التكييف، تدرك بعد لحظات أن الأريكة ليست خالية كما كنت تتخيل، فعلى بعد سنتيمترات منك تجلس امرأة شديدة الأناقة والجاذبية، تنظر مبهورا إلى وجهها وتتمعن فيه على غير عادتك فتتسع حدقتاك وتنفرج شفتاك كمن رأى أو تذكر شيئا مفاجئا

وقبل أن تنطق أنت بكلمة واحدة إذ بها تسألك بصوت ناعم: أنت فلان؟ فتهز رأسك مؤكدا، تدرك تماما من هي لكنك لا تتذكر اسمها، تشعر هي بذلك فتبادر بالكلام للمرة الثانية: أنا فلانة، تبتسم رغما عنك وتتذكر فورا أنها تمت لك بصلة ما، قرابة أو نسب أو مصاهرة، وأنه قد مضى ربع قرن أو أكثر منذ أن رأيتها لآخر مرة، ورغم أنها في مثل عمرك أو أكبر بشهور قليلة إلا أنها تبدو أصغر منك سنا، ربما بفعل الحياة المرفهة التي تعيشها، تبدأ هي الحديث للمرة الثالثة فتسألك سؤالا ما فإذا بعقدة لسانك تنفك ويتدفق بحديث متصل لم يوقفه إلا ضحكة صافية مهذبة منها، تدرك أنك قد أفرطت في الحديث ويحمر وجهك خجلا، تعالج خجلك بكلمات هامسة رقيقة وتعاود هي الحديث وتتنقل بين موضوعات شتى، وأنت تسمع وتنظر إليها مبهورا، ثم تتذكر فجأة الحدث الذي جئت من أجله إلى هذا المكان، فتتساءل في نفسك: هل هي هنا لنفس السبب؟ وكأنها تقرأ أفكارك فتنفي ذلك، تشعر في نفسك بانعدام الرغبة في البقاء هنا، فتقرأ أفكارك للمرة الثانية وتطلب منك أن تغادرا المكان سويا، تستغرب كيف واتتك الجرأة كي توافقها وتخرجان على الفور، تدعوك لركوب سيارتها الفارهة فتركب إلى جوارها، يستغرق الأمر منها بعض الوقت للخروج من اختناق العاصمة إلى إحدى الضواحي الهادئة، لم تتوقفا خلالها عن الكلام لحظة واحدة، تستغرب من أين أتى كل هذا الحديث بينكما وأنتما اللذان كنتما لا تتبادلان إلا التحية عندما كنت تراها مصادفة منذ سنوات بعيدة، تتوقف فجأة أمام أحد المطاعم وتدعوك للدخول، تشعر لأول مرة منذ التقيتما بالضيق، تدرك هي ذلك فتقول لك بلطف: سأقبل دعوتك لي على أي شيء تختاره أنت، تحمد الله أن معك من النقود ما يكفي لدعوتها على وجبة معقولة، تأتيكما قائمة الطعام فتتخير أشياء ثم تسألها عن رأيها فتخبرك أنها تعشقها، تعاود الحديث وتنتقل كالطيور المهاجرة من موضوع إلى آخر، تبادلها الحديث قدر استطاعتك، تتوقف فجأة عن الحديث ثم تنظر إليك نظرة عميقة متفحصة ثم تلمح قطرات حائرة من الدمع تنساب من عينيها، تمسحها سريعا وتلوذ بالصمت، تصاب بالوجوم ولا تعرف كيفية التصرف في تلك الحالة الطارئة والتي لا تتناسب مع جو الألفة والارتياح السائد بينكما قبلها، تنتابك شجاعة مفاجئة فتمد يديك وتحيط بهما يديها المسترخيتان على المائدة، لا يبدو عليها أي أثر للمفاجأة أو الانزعاج، بل وكأنها اطمأنت لتلك الخطوة من جانبك، تخاطبك قائلة: أتعرف؟ رغم ما أعيش فيه من نعيم وسعادة افتراضية إلا أنني في الحقيقة غير سعيدة، ثم تسترسل في الحديث عن أدق تفاصيل حياتها وما يجعل منها امرأة غير سعيدة، تستغرب لكونها تبدو لك أمورا عادية لا تقارن بما يشغلك أنت شخصيا، أو ما يعانيه الغالبية الساحقة من الناس في بلدك من مشاكل حقيقية جعلت من حياة أغلبهم جحيما، أو جعلتها لا حياة على الإطلاق، لكنك تتذكر أيضا أن البشر متفاوتون في قدرتهم على تحمل الألم والمعاناة، وما قد يكون تافها عند البعض قد يكون قاسيا عند آخرين، وأن أكثر الناس معاناة هم في الغالب أكثرهم احتمالا، تتوقف هي عن الاسترسال وتنظر إليك مستفسرة وفي عينيها نظرة توسل لكنه لا يخلو من كبرياء، تسترجع لحظتها عقلك وصفات شخصيتك المتحفظة التي توارت قليلا بدوافع عاطفية لم تستطع دفعها، وتدرك على الفور أن الأمور قد جرت بينكما بسرعة وذهبت بعيدا بالنسبة إلى لقاء عابر لم يكن متوقعا أو مخططا له، وأن استمرار الأمور على هذا المنوال وبتلك الوتيرة السريعة لن يؤدي بالتأكيد إلى خير، تسحب يديك بلطف وترجع إلى الخلف، تذهب عنك طلاقتك وجرأتك المفاجئة، وتعود تماما إلى طبيعتك الصامتة الخجولة، تدرك هي التغير الذي طرأ عليك فتتساءل نظرات عينيها دون أن تفتح فمها: ما بك؟ تتجاهل نظراتها وتهرب بعينيك بعيدا عن عينيها، ثم تستجمع شجاعتك دفعة واحدة وتقول لها: ألا ترين أننا قد ذهبنا بعيدا في لقائنا العابر هذا؟ يشحب وجهها وتبدو عليها الصدمة، تشعر أنك قد قسوت عليها وهي التي فتحت لك قلبها وباحت بأسرارها دون تحفظ، تحاول أن تخفف من وقع كلماتك لكنك تزيد الأمور سوء بقولك: أقصد أن لكل منا حياته الخاصة وعالمه الخاص ومن الصعب جدا أن يلتقيا، يزداد وجهها شحوبا وترجع هي الأخرى إلى الخلف، تحاول هذه المرة صادقا أن تصلح ما أفسدته فتقول لها: لن أستطيع أن أصف لك أبدا ما أشعر به الآن من سعادة بلقائنا هذا، ولا مقدار رغبتي في أن تستمر جلستنا هذه إلى الأبد، وعندما أقول ذلك فأنا أعنيه بالفعل، لكنك تدركين ..، تصمت وتعجز عن مواصلة ما تريد أن تقوله، تنظر إليها فترى أن ملامح وجهها قد أشرقت بكلامك هذا، لكنك ترى فيه أيضا تفهما لما لم تقله، يستمر صمتك للحظات تتأمل فيها وجهها بعمق شديد كما لو كنت تدرك أنك لن تراها أبدا بعد هذا اللقاء العابر، ثم تضغط على نفسك ومشاعرك وأعصابك وتكمل ما توقفت عن قوله: لكنك تدركين ربما أكثر مني أن أمورا كثيرا قد جعلت منها السنوات الماضية واقعا لا يمكن تغييره، وأن هناك أناسا لا يحق لنا أبدا أن نجرحهم، تتوقف عن الكلام وتشعر أنها بالفعل قد قبلت وأدركت ما تقوله، ثم تستعيد نضارتها وحيويتها وابتسامتها المشرقة وتقول لك: معك حق، لكنني كنت في أمس الحاجة إلى هذا اللقاء العابر كما أسميته، تهز رأسك موافقا، تكملان طعامكما في صمت، تقرران الانصراف بعد سلام مقتضب، يمضي كل منكما في طريقه دون أن تعرض عليك الركوب معها، ودون الاتفاق على لقاء آخر أو حتى تبادل أرقام الهواتف المحمولة.



أيمن مصطفى الأسمر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى