وفاء عبد الرازق - امرأة بزِيِّ جسد

أرفع رأسي أنزعه كقبـَّعة قديمة، أضعه على طاولة الطعام قرب سلـّة الفاكهة، أتركه يتفرج على ألوانها الزاهية، زاهية حقا لأني كل يوم اشتري الفاكهة طازجة والخضار كذلك، أتأمله كيف يدير عينيه عن الفجل، يغمضهما ويعيد تلصصه على خريطة الطاولة.

لا يعجبه النوم كما لا تعجبه الراحة ولأنه لم يتركني أهدأ لحظة في حياتي انتزعته من رقبتي وتركته يتأمـّل، فقط يتأمـَّل، لا يستطيع أن يأكل أو يشرب، فقد النطق تماماً، تدلـّى شعري على الطاولة، الشعر ذاته الذي كان بأشرطة بيض يقود حلم حقيبته المدرسيـّة إلى المجرّات، إلى صرخة أخرى بينها وبين السفن إشارة إبحار.

العينان الأسيرتان، جسران يعبر عليهما القادم والغادي. ينبوعان ينهضان صباحا يُرضعان الصبر ليكبر، يكبر صمته المرير، يتسع، يتسعان مثله يتسابقان لإرواء وسادة السرير.

جبين أُدلـِقَتْ عليها الفوانيس، أضاءت جدران الغرفة، جدران الصالة، المطبخ، الحمام والحديقة، باب البيت من الخارج وعتبة الدار، هلـَّلت للصامت حتى نطق، ضحكت للمتكدر إلى حد ثرثرة ضحكه، برقت لغيم محتاج، رعدت بصدر مقهور كابتسامة وبكت. بكت وحدها دون تلك القبيلة، دون ذلك الضجيج الذي أنضب زيتها، ازرقـَّت التجاعيد أمواجاً وانسكبت بنفسها، شاطئ وجبين.

شفتان ياقوتتان جمعتا الضدَّ بالضدِّ، بين الشعر الأسود وبريق البشرة لمعتا قلباً، أغنية، عصفوراً توّاقاً لقـُبلة، صحناً احتوى لؤلؤ الدمع، صُفرة ذبول بعد اشتهاء وشُرفة، واكتشفتا فجأة أنهما بلا وعاء يحتويهما كدمع.

ميزة المنخار حاسّته لاكتشاف الروائح عن بعد وتمييز أطيبها وإن كمش نفسه للغريب أو الكريه منها أو المشبـّع بالتوابل، خلافه الدائم مع العين اليسار لا ينقطع هي لها حساسيتها من الروائح وهو له رغبته باكتشافها.
كانا يلجآن لحاجبين سوداوين في الكثير من خلافاتهما ودائما ترثي لهما وجنة يمين، تضحك عليهما وجنة يسار ويستهزئ حنك مدوّر لصغر عقليهما واستمرارهما بالشجار.

اليوم نزعتهم كلهم، تركتُ راسي يتحمل بلاءه لوحده، أعددتُ لي كوب قهوة وجلستُ قبالته أحتسيها على مهل، تذكرتُ شيئاً فاجأني بيد اليمين التي عبثت زمناً دون اكتراث لكتفي ترفع ثقلاً أكبر منها، تضع ثقلا يزيد وزنها بعشرات الكيلوات، لم تطلِ أظافرها كما تفعل السيدات المدللات،عاتبتها الأصابع كثيراً بنفس القدر من العتب توسلت عروقها الرفق، تلك العابثة تذكرتها الآن، الآن بعد حموضة الأعوام أتذكرها ؟
لا بأس سأنزعها هي الأخرى قرب رأسٍ تحكُّ شعره وتصفعه.

أنتِ غير الصالحة إلا للحمّام هكذا أدَّبوكِ أهلكِ وأعطوكِ قدْركِ، معطوبة منذ خـُلقتِ وتهوين عبودية البراز. لا أحب العبودية أمقتها ألعنها في الليل أدعو في الصباح أدعو أن يصيبها الله بالبهاق، أبصق عليها أرجم زانية المراحيض أرجمها حتى الموت وأنزعها لتتصارع مع شقيقتها اليمين على موضع فارغ قرب رأس عفن.

لا أحبكما، أنتما حماران يسوقكما جسد ورأس، حماران للحمولة والجري، تجريان هرباً من ثقل تحمّل عراك الأيام وعقابها المجرم، قدمان غصتما في والوحل ولا تكلاّن، إن تعبتما تتوقفان، ليس لاستراحة أو تخاذل إنما لتعودان ثانية من أول الطريق هاربتان برأس يدور في دوامّة أفكاره وخذلانه وقهره تجوبان الشوارع لينسى ويهدأ ممَّن هما عبدان له.

لستُ بحاجة لحمارين، أخلعكما راضية لا تفرحان لن أضعكما على الطاولة لن أريحكما، سأعاقبكما وقوفا وظـلاّ حيث أنتما فالحمير تنام واقفة، خذا غفوة وأعطيا جلدكما استراحة من جـَلد السوط.

ما حاجتي لأمعاء مملوءة بالغازات والسموم ومنتفخة بأوجاع لا ترضخ لمهدئات ومسكّنات، انزلي عنـِّي وجاوري معتوهاً أهديته عطوري وملابسي وقمصان نومي مسودة مذكراتي زينتي خواتمي أقراطي، قدمت له كل مالي قرباناً ليهدأ وينام ولو ساعة في الليل هذا الرافض المغرور شبكتْ له أعوامي باقة ورد فقط يستقر ساعة، حلّفته بظلال امرأة مكدودة، أقسمتُ عليه بحق الأمهات فقط ساعة، لحظة، لحظة ولو غير حقيقية. رافضٌ أرفضه الآن وأرفض من ساعده، اغربا عني واركنا حيث أنتما إلى زاوية قرب فتحة النافذة لتعصف بكما الريح.

قلبٌ منخل عبثا أحادثك دعني أنفخك، هـُفّ، اغرب.
مغرم مجنون حطَّ من قدري جنونك وأنقص قيمتي، تفّ عليك.

أُف أنا الآن حُرّة لي ثديان رجوتهما زمناً ألاَّ يخذلاني أعرف أنهما يقاسمانني ذاتي، نصفي الأبيض ونصفها الأبيض هو الآخر ناصفني تسلل الماء إلى أعماقنا.

اليوم لستُ وحدي، أنا على قمـّة شجرة، عشيِّ ثديان، نقرأ بحريـّة عن امرأة كانت بزيِّ جسد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى