لام مجبور - منافي الجوع

مرت عمي، يا مرت عمي.

هكذا كان يناديها حين يضربه الأولاد أو حين يلاحقه كلب الجار العجوز الذي يلتهمها بنظراته كلما عبرت الطريق أمامه أو كلما رآها تهرع ملهوفة نحو هذا الصبي الصغير الذي تحولت شقاوته إلى مرارة ممتعة فيها من العبء ما ينهك، وفيها من اللذة ما يُنسي شقاء ما كان.

تركض بلهفة نحوه، تضرب الأولاد، تسب أمهاتهم اللواتي ما إن يرينها قادمة حتى يخبئن أطفالهن اتقاء لشر حسدها إذا حسد، تمسكه من يده وتأخذه إلى أمه، تقول مبتسمة وهو مختبئ في ظل يدها:

حفر حفرة لهم فوقع فيها وضربوه كما يُضرب البغل.

فترد أمه حانقة:

بغل كأبيه.

ثم تضحكان فيغافلهما ويركض إلى الحاكورة المجاورة ليقطف من طماطمها المزروعة فيها ما يرمي به المارة من فوق سطح الدار، طبعاً بعد أن يهرسها جيداً فيتمكن بذلك من تلطيخ الملابس التي تصيبها فيشبع ضحكاً وتعود زوجة عمه للدفاع عنه من جديد.

كانت علاقته بها غريبة، متعلق بها أكثر من أمه التي ضاقت ذرعاً بشقاوته، وأكثر من أبيه الذي بدا عليه الانشغال في موضوع الهجرة إلى أميركا، كان في السابعة حين تزوجها عمه وهي في الخامسة عشرة غير أنه سرعان ما تزوج بغيرها وأنجب الأولاد ثم تركها زهرة على أطراف واحة في صحراء قاحلة، لا ماء الواحة قريب ولا مطر السماء يهطل فترتوي! أحياناً، كان يراها تبكي وحيدة في دار عمه في الأيام التي ترسل فيها أمه بعض الطعام في أطباق مغطاة كي لا يرى ما بداخلها أحد.

لم تكن دموعها تنهمر على خديها إنما في قلبه الصغير، وهو يرى المرأة التي تدافع عنه مهزومة أمام شبح جوع غير الجوع الذي يعرفه! تراه فجأة قربها فتضمه وتبدأ بالبكاء حتى تهدأ وهو يرتجف لا يعرف كيف يوقف الخوف في قلبه والجوع في جوفها.

ثم جاء موعد الرحيل ،كان لرحيله هول مروع كقذيفة هاون فتتّها ولم يقتلها بل ظلت تمضي الأيام في غض البصر عن الأطفال الآخرين وما من طيف طفل يصغرها بثمان سنوات يشغل حاضرها عن مجهول مستقبلها الجائع.

يوجد شبح في دار العائلة القديمة، والمهجورة منذ أن هاجر سكانها إلى أميركا، باب الدار موارب، وصوت ماء يتدفق من صنبور المغسلة العتيقة الموجودة في فسحة الدار، أرعبها الصوت حيث ظنت أن الجن قد سكنوا المكان فهو مهجور منذ زمن غير أن قراءتها للمعوذات قد هدأت روع قلبها المنهك، فكرت أن تتخذ من هذا الأمر حجة فتطرق باب بيت ضرتها- أم الأولاد- علّ زوجها الورقي يتذكرها ولكن تكشيرة الأخيرة وإخفاء الأطفال عنها منعاها عمّا عزمت عليه، تشجعت وفتحت الباب على آخره فسحرتها عضلاته! من يكون هذا الشاب الذي خلق من العدم في الدار القديمة التي حولتها من امرأة تضج بالحياة إلى صورة بالأبيض والأسود ما تزال تتنفس، جاءها الجواب عميقاً من ماض عتيق لم يكن فيه هشيم نار تشتعل كما يحدث الآن:

مرت عمي!

رمى المنشفة من على كتفيه وهرع بلهفة مشتاق نحوها، احتضنها وهي مأخوذة بسحر ذراعيه... احتضنها كما لم يفعل زوجها منذ زمن طويل... أطفأ نار شوقه إليها وأشعل سعيرها الخامد تحت أثواب العفة!

قالت له:

هذا أنت؟ لم أعرفك! لم تعد ذلك الصبي الذي يحتمي بي من الخوف المتربص خلف جدران القرية الحجرية.

تغلغلت رائحته القوية من أنفها حتى أعمق نقطة فيها...

سألته وهي تنظر إليه:

كيف حال أمك؟ استقريتم هناك وتركتموني هنا أهرب من الألسنة والدعوات المشفقة لي بالإنجاب.

بادلها ذات النظرة الحارة وقال لها بشوق:

أكثر ما كنت أشتاق إليه هو دفء ثوبك لأحتمي به من غربة تلك المدن الموحشة، هناك... يحميك القانون من الاعتداء والضرب ولكنه بارد لا توجد فيه لهفة صوتك.

قالت مبتسمة بعد أن عاد بها خيالها من رحلته المؤقتة إلى بلاد الموسيقى والرقص في الطرقات ، قالت:

لابد أنك حفرت الحفر فوقعت فيها وضربوك.

قاطعا مكملاً العبارة عنها: _ كبغل...

تنبها إلى الصنبور الذي تركه مفتوحاً، يغدق على المغسلة بمائه فتبتلعه وتطلب المزيد ولاشيء يروي عطشها، نهض ثم أغلقه وراحت هي تراقبه وهو يكمل حلاقة ذقنه وتقول في نفسها... أي ريح عاتية هذه التي اقتلعتني وطارت بي إلى سماوات لم أعرفها من قبل؟

جلست قربه على طرف السرير ووضعت رأسها على كتفه العاري ثم قالت:

أتذكر كيف كنت تختبئ خلف ظهري عندما كان يضربك الأولاد؟

أجل.

أتذكر عندما كنت تنام في سريري طوال الشتاء في طفولتك؟

ما أوصلنا إلى هنا إلا الذكريات.

ابتعدت عنه وقد غمرتها رعشة خفية:

ماذا تعني؟

عانقها هارباً من هواجسه وسألها:

إلى متى سنظل نسرق شوقنا من سرير عمي؟

لم تعد تحتمل كتمان خبرها السعيد عنه:

طلقني عمك؟

ابتعد عنها فرحاً:

طلقك؟

أجل...

غداً نتزوج.

ثم عاد ليغمرها الطوفان مرة أخرى فغرقا في الحب الذي كان محرماً قبل لحظات.

بعد شهور جلس في فسحة الدار القديمة يستعيد في ذهنه عبارة أمه في الطرف الآخر من الدنيا والتي باتت تنتمي لمجتمع آخر:

لست ولدي ما دامت هذه العاهرة على ذمتك.

أخذ سيجارة وراح يدخن، لم تنفع محاولات أمه ولا عمه في أن يوقفا هذه الارتباط، هي الآن نائمة فوق سرير الأجداد، وغارقة في نومها بعد سكرتها العشقيّة معه فوق مئة عام مضت، فهل ستحيى مئة عام أخرى، ما الذي تغير؟ هل هي هالة الذكريات فوق أرض الأجداد ما شدّته؟ أم أنه الخيط الذي جذبه للعودة إلى منزل العائلة وزيارة قبور الأسلاف حيث جذوره؟
هذه المرأة هي الجسر الذي مدته أحلامه من أميركا إلى قريته النائمة فوق سفح الجبل؟ رمى السيجارة من يده وخرج من الدار هائماً بين أزقة البيوت التي نبذته منذ أن تزوجها... علّ هذا الضيق في صدره يتركه بسلام.

أمضى ليال طوال يملأ قربتها الفارغة ورحمها لم يتحرك ولكن لا أجمل من زهر الزيزفون غير أنه لا يثمر في هذه البلاد، ما أقسى أن تكون امرأة في بلاد عتيقة لا تنجب إلا قهراً ولا تلد سوى موتها المتكرر مع كل سكرة تظنها أنها الحياة بكل متعها!

بدأ يضرب رأسه بالحائط مردداً:

أريد ولداً، سأتزوج.

فج رأسه... ركضت نحوه محترقة بلهفة، دفعها فسقطت أرضاً وثقب قلبها بنظرته التي لم تعهدها من قبل:

أنت السبب...

قالت برجاء:

لا تتزوجها... لا تتزوج...

قبلت يده... سحبها... فأضافت بلوعة:

لا تتركني كما فعل والدها؟

انفجر غاضباً، ورماها أرضاً، جلس فوق ساقيها، أمسك يديها بيد واحدة وأخذ يضربها ليفرغ فيها غلّ سنواته في جسدها المترهل، وهمسات أهل القرية خلف ظهره، ومقاطعة والديه وبصاق عمه عندما سمع بخبر زواجه من طليقته، ووجه ابنة عمه الذي أحرق كيانه حين لمحه، ووجع غربته هناك وهنا... ذيل الكلب أعوج!

أوجعتها الكلمات فأغمي عليها، حملها إلى السرير... مسح آثار الدماء حول فمها ثم غادر...

تزوج ابنة عمه.

غسل عاره حين أنجبت له الولد.

تصالح مع عائلته.

ذبح عمه الذبائح على شرفه.

وتركت هي بيت العائلة وعادت إلى المنزل الطيني- منزل أمها المنبوذ مثلها...

سنوات أخرى مضت، وقد كستها أقذار عارها، تسير في القرية غريبة ومقهورة وجائعة منادية بأعلى صوتها:

جائعة...

ولكن ما من مجيب!

لم تأكل منذ أيام، هل تذهب إلى بيته؟ لا... ستطردها ضرتها وستبعد أطفالها عنها، ولكن الجوع دفعها...

وصلت إلى الدار العتيقة، رأت أطفاله يلعبون ويتشاجرون، لم يركض أحدهم نحوها ليحتمي في ظل يدها من مكر الآخرين! رأتها ضرتها فأمرت الأولاد بالدخول ثم صفقت الباب في وجه العجوز التي تقول بأنها جائعة.

كان جالس في فسحة الدار يدخن وابنته الصغيرة على حجره، رأى زوجته غاضبة فقال:

دعيهم يلعبون يا امرأة.

ليلعبوا هنا أمام ناظري أفضل.

تداعى صوتها إلى أذنيه تنادي من الخارج، صوت قادم من ماض تحول إلى نسيان، لقد فهم عزف جوعها...

جائعةةةةةةةةةة.....

لاحظت زوجته شروده، ففتحت الباب ودفعتها أرضاً، فهرع نحوها حين ضربته ريح الشفقة، ونهر زوجته وأمرها بأن تحضر لها طعاماً.

ساعدها على النهوض بحنانه القديم، أو ربما هكذا خُيل لها، حادثها ولاطفها ثم قال:

عودي إلى البيت.

عُد معي.

عادت زوجته ومعها صحن طعام مُغطى بقطعة قماش متسخة، أعطاها الصحن بيده التي ظنتها حانية، كررت طلبها:

تعال معي إلى البيت.

حاولت الزوجة أن ترشقها بالسُباب غير أنه أمرها بالعودة إلى أولادها ثم التفت نحو العجوز قائلاً:

_إن شاء الله!

ودخل المنزل الكبير تاركاً الصحن معها فوضعته على الأرض، وعادت أدراجها، غير أن نسمة صيفية هبّت وكشفت الغطاء فظهر العفن وقد غطى ما بقي من الطعام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى