يحيى عبابنة - شهيدة الطيارة

شهيدة تنظر بعينيها الذاهلتين إلى حائط الشهداء، صاروا الآن معلَّقين على الجدران، ينظرون إليها معلِّقين ابتسامة سرمدية لا تنتهي، ولا تتغير مساح على الشفاه.
كان الشهيد الأول باهت الملامح... عيناه الواثقتان تضعضعت نظراتهما تحت وطأة الزمن، أربعة وثلاثون عاماً على الشهادة، كانت كفيلة بمحو أطراف شفتيه وحواف شاربيه... كانت شهيدة دائماً تخاطبه وتلجأ إليه قبل أن تتمدّد تحت الجدار البارد البليد صورة رابعة... وكأنها الآن لم تعد تعرفه... كانت في خيالها معه دائماً خجلى مترددة، كمن طارت منها القبلة الأولى على جناح طائر طريد...
(1)
محسودة شهيدة في يوم خطبتها، أقسم خطيبها على تمييزها على سائر عرائس البلدة.. سيكون جهازها من العاصمة، وهو أمر لم يكن بمقدور بنات البلدة أن يبحن به خارج حدود الأمنيات الكسيحة... ملابس وأطقم من العاصمة.. احمّرت وجنتاها عندما فتحت الحقائب لتعرض على أسراب البنات حاجياتها التي حملتها. كانت إذا وصلت إلى الملابس الداخلية تحسّ بخجل ممزوج بفرح العذراى البريء..
-متى الدخلة؟
-... ....
وتجيب أمها: في الجمعة القابلة..
وتخلو شهيدة إلى أمها محرجة محبورة... "الأولاد يا شهيدة وتد المرأة الذي يثبتها في بيت زوجها... قطف عيالك إن شاء لله كبير.. كل سنة طفل، الأطفال أوتاد المرأة في بيت الزوج".. وتتخضب وجنتاها بدماء الخجل..
***
أول حبّات عنقودها صبية كالقمر.. قال أبوها: النجمة الثانية هي هذه الطفلة، ليكن اسمها نجمة...
وكانت الحبّة الثانية ولداً.. فلقة قمر.. ألمّ يغمره الفرح في يوم ميلاده كان طفلاً لم يتعرّف إلا إلى رشقة اللبن في بداءاته من صدر أمه، عندما ودّعهم والدهم، زوج شهيدة، إلى الأرض المحروقة حبّاً ووجداً وصلاة كان عدوان حزيران يصبُّ سياط الغدر على أرض الوطن الحزين...
(2)
-سيعود يا بنتي.. سيعود إلى ولديه!
-يا أمي! قلبي قريب من حلقي يكاد يقفز منه، وأحسّ أن قطف العيال قد جفّ وانتهى!
-قال الله ولا فالك! بومة!
وانتظرت شهيدة مع أهل البلدة كلّ من غابت صورته.. عاد كثيرون ممن غابوا، ولم يعدْ كثيرون...
كان من الذي غابوا عن العيون، وتحوّلوا صوراً مشنوقة على الجدران... "كان موحشاً... وساكناً.. كالموت.. وعندها وصل ناس كثيرون، كلهم أحياء إلا هو... وبكى بعض الذين جاءوا، وكلّ أهل البلدة... إلا صغيرة، فما كان يعرف شيئاً".
***
قيل إن شهيدة ظلّت أياماً مفتوحة العينين، مذهولة الملامح، وقيل إنها أخيراً، وبعد أن علَّقوا صورته على جدار الشهادة، تمكنت من استدرار دمعها، وقيل إن صيحتها في ذلك اليوم بلغت أعماق الصحراء، واخترقت الأودية السحيقة المجاورة، وقيل أيضاً إن الطيور التي كانت تسكن في تلك الأودية، قد أصابها الهلع والذعر، فتدافعت في الجوّ، وطارت غرباً حتى تجاوزت خطوط النار، فتلقفتها نيران الغزاة، فخرت صريعة تعانق التراب.
(3)
كانت الصورة الثانية مزهوة بشفاهٍ توتٍ، وعينين طفليتين، وشعرٍ زاخر بالحياة... وجناتٌ كالتفاح تكاد تُشِعُّ.. كانت صورة نجمة..
"قيل إنّ أمها شهيدة لم تحاول الابتسام إلا لأن نجمة صارت عروساً جميل وقالت لها شهيدة بعد عقد قرانها: قطف عيالك إن شاء الله بعدد الحصى يا نجمة، فاحمرّ وجهها، وتخضبت بدماء الحياء التي زادت من عنفوان شبابها وغصة في حلقها ذكّرتها بأبيها الشهيد.."
-يا أمي! كيف أفارقك وأفارق أخي؟
-... ....
لم تكن شهيدة تطيق سماع كلمة الفراق، لذا فقد صمتت، وبعد أن فارقها كلّ شهيد مع الراحل الحبيب... مات كلّ شيء مع الراحل الحبيب... مات كلّ شيء إلا صورته المؤطرة، أدارت وجهها، وأتاحت للريح الغربية أن تمسح دمعتين، أصرتا على الانحدار مع الوجه الحزين..
****
برد الشتاء يَحُدُّ من التجهُّز ليوم الفرح.. ونجمة تصرّ يومها الأخير على الاستحمام: "سأخلو اليوم بجيبي"...
- برد يا نجمة... وأنت عروس!
- لا بأس يا أمي، لا بأس يا شهيدتي..
***
دخلت نجمة تحمل مدفأة الكاز إلى الحمام.. "حقاً إنها مدفأة لا تكاد تدفئ نفسها... ولكنها مدفأة على أي حال".
وفي الحمام المغلق بإحكام.. غنت نجمة أغنية عاشقة... ثم راحت تحلم في الذي سيكون...
"كانت المدفأة في أثناء ذلك تمدُّ ذراعيها القاسيتين، وتحتضن العروس وطالت مخالبها، وبرزت أنيابها حادة قوية.. نجمة تستسلم لها بحذر يكاد يون لذيذاً..
ضاع الزمن... أجل، ها إنني الآن بين يدي حبيبي.. إنه هو... أريد أن أنام..أريد أن أنام يا أبي بين يديك.."
***
كلّ شيء مات في تلك اللحظة المجرمة... أحلامها.. وأحلام شهيدة.. قطف العيال، وفرحة خطيبها الذي جاء باسماً... طرقاتهم على بابها، شعرها المبلول المنتظر، أصابعها المتشنّجة، وصورتها على الزجاج المشبع بالبخار... أذرع المدفأة المجرمة، واندهاش العريس.. و ....
(4)
صورة أخرى إلى جانب صورة الأب الشهيد، ملوّنة مليئة بالارتواء، وعينان لا تكُفّان عن التطلع والنظر... وخوف ليس له آخر...
"يفارقها الخوف لحظة واحدة.. صار ولدها أملها الأخير ضابطاً كأبيه وله سيارة يصرّ دائماً على اصطحابها معه".
- يا بني! تزوّج، شوف لك بنت حلال.
-إرضاء لك، سأبحث عن بنتي حلال!
وينفلت ضاحكاً بصوت طروب...
"وقفت شهيدة أمام مدخل الدار، وراقبت استدارة سيارته الصغيرة، وحركة أصابعه الجميلة... سلام يا أمي".
لم يطل انتظارها هذه المَرّة.. ضجيج يملأ أسماعها.. غبار وتراب يشق عنان السماء، نعش يحمله أهل البلدة مذهولين... صورة أخرى تقف على حائط الشهداء.. وعينان مبتسمتان أبداً، تشعّان براءة، وشفتان توشكان على الحديث.. وشهيد لا يستطيع الانفلات من صورته الساحرة.
***
آخر الشهداء
قيل إن شهيدة في هذا اليوم، الحادي عشر من حزيران.. وفي اليوم نفسه الذي استشهد فيه الشهيد الأول.. صاحت صوتاً هائلاً، فبلغ صوتها أعماق الصحراء، واخترق الأودية السحيقة المجاورة، ولكن الطيور هذه المرة لم تُصَب بالفزع، ولم تهرب من الوادي، لأنها لم تكن موجودة منذ ذلك اليوم. وقبل إن عتب شهيدة على هجرة الطيور كان كبيراً، وإنه دفعها إلى الطيران، وذكر من شاهدها لآخر مرة، أن أجنحتها قد طالت ورفرفت فوق الأودية، وصوتها الحزين يتردد بين الجبال، إلى أن وصلت إلى الأرض الحزينة،وإن بنادق الغزاة قد صُوِّبت باتجاهها، وإنها سقطت على الأرض. وقيل إن الصحف الغربية نشرت في اليوم التالي صورة لامرأة لها أجنحة، وقد أشبع وجهها بالتراب والدماء، ولكن عينيها كانتا مبتسمتين، غير أنها في هذه المَرّة لم تجد من يضع لها صورة إلى حائط الشهداء...


د. يحيى عبابنة
28/3/2001

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى