فوزي الزمرلي - في شعرية رواية "حدّث أبو هريرة قال" لمحمود المسعدي

شرع محمود المسعدي - خلال النصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين - في نشر نصوص سرديّة على شكل الأحاديث والأخبار الأدبيّة فنسبها بعض النقّـاد إلى الأقصوصة تارة وإلى الحديث الأدبي تارة أخرى. وفي فجر السبعينات أصدر كتابا موسوما بـ"حدّث أبو هريرة قال" حوّر فيه ترتيب تلك النصوص وأضاف إليها نصوصا أخرى، وحمل أبا هريرة على الاضطلاع بالأدوار التي سبق لأبي دريرة أن اضطلع بها في قسم من الأحاديث ليربطها كلها بحياة شخصيّة رئيسيّة واحدة. وبما أنّه أعرض عن نسبة كتابه إلى جنس أدبيّ معيّن، لقلّة اكتراثه بالتصنيفات الأجناسيّة، رغم ما لذلك الكتاب من صلات ظاهرة وخفيّة ببعض ألوان التراث السردي العربي المتعلّقة بالحكي الحقيقي وبالفنّ القصصي الغربي المتعلّق بالحكي التخييلي، فإنّ مسألة انتمائه الأجناسي استحالت إلى مجال من مجالات البحث الخصبة.
والحقّ أنّ حظّ تلك المسألة في الدراسات المتّصلة بآثار المسعدي لم يكن متساويا، إذ من الدارسين من سلّم بنسبة كتاب "حدّث أبو هريرة قال" إلى الجنس الروائي، وكأنّ الأمر من تحصيل الحاصل، ومنهم من حلّل بعض خصائصه الأجناسيّة من دون اعتماد نظريّة الرواية ونظريّة الأجناس الأدبيّة فحجب نصيّته الجامعة (Architextualité). ومنهم من وقف على تلك المسألة بالذّات في نطاق اهتمامه بتحديد علاقات آثار المسعدي بمسألة الأجناس الأدبيّة ليبرهن على ضعف صلة ذلك الكتاب بمنظومة الأجناس التقليديّة. وفضّل بعضهم الآخر صرف نظره عن تعقـّـد تلك القضيّة ليعتني بالأفكار التي بلورها المؤلف في ذلك الكتاب.
ولا غرابة في ألاّ يتّفق الدارسون على تصنيف كتاب المسعدي الذي نحن بصدده أو على تصنيف قسم كبير من الآثار الأدبيّة الأخرى، بما أنّ المعايير التصنيفيّة تتنوّع باختلاف الدارسين في ضبط العناصر المميّزة لكلّ أثر من الآثار الأدبيّة، وتفضي بالتالي إلى إدراجها في خانات أجناسيّة مختلفة. من ذلك أنّه يجوز لنا الاقتصار على إنماء نصّ معيّن إلى طبقة النصوص الرّوائيّة بإبراز اشتراكه معها في النهوض على الأركان المحدّدة لذلك الجنس الأدبي. كما يمكن لنا الاستناد إلى احتفال ذلك النصّ ذاته بفنّيات التراث السّردي لندرجه في طبقة الروايات التأصيليّة المشكّلة لجنس روائي فرعي. وإذا ما انفتح ذلك النصّ نفسه على العناصر العجائبيّة ووظّفها للاضطلاع بأدوار تمثيلية Exemplifiante))، فإنّ ذلك يبرّر نسبته إلى طبقة النصوص المؤسّسة للأدب العجائبي.
فمن الطبيعي ـ إذن ـ أن يختلف النقّاد في تصنيف الآثار الأدبيّة المتميّزة بثراء أجناسي، نظرا إلى تباينهم في استخلاص الأركان التي تشكّل في تقدير كلّ واحد منهم معيارا تصنيفيّا صارما. ويعود اختلاف سائر القرّاء في تقبّل الآثار الأدبيّة وتصنيفها إلى تباين آفاق انتظارهم. ذلك أنّ آفاق انتظار القرّاء تتلوّن ـ حسب ما أثبته أمبرتو إيكو Umberto Eccoـ بلون المدوّنة التي تمكّنوا من الاطّلاع عليها وحجمها، ممّا يؤدّي إلى تغيّر عمليّة تقبّل الآثار الأدبيّة وتصنيفها من قارئ إلى آخر. بل إنّ تلك العمليّة كثيرا ما تتبدّل لدى نفس القارئ باتّساع حقل المدوّنة التي شكّلت أفق انتظاره الأوّل وتنوّع عناصرها. ومن أجل كلّ هذا تباينت مشارب مصنّفي الآثار الأدبيّة التي تمرّدت على أجناسها الصافية، وفجّرت جدلا حادّا لا سبيل إلى التوفيق بين أصحابه.
وليس من شكّ في أنّ التصنيف الأجناسي ليس عمليّة شكليّة بقدر ما هو مسلك قويم إلى تحديد أدبيّة النصوص الإبداعيّة واستخلاص دلالاتها وإظهار قيمتها. فلا جدوى من إنماء النصوص الأدبيّة إلى النصوص المنخرطة في أجناس معيّنة ما لم تهدف تلك العمليّة بالأساس إلى تمهيد السبيل إلى قراءتها في ضوء تلك الطبقة للوقوف على علاقاتها بعناصرها الأجناسيّة، وإظهار وجوه عدولها عن خصوصياتها وتحديد إضافاتها النوعيّة إلى عيون الآثار المنتمية إلى تلك الأجناس الأدبيّة، كما هو الشأن عند تحديد أغراض القصائد لقراءتها في ضوء طبقات القصائد المنتمية إلى تلك الأغراض بالذّات.
وهكذا تعدّدت عوامل الاختلاف في تصنيف الآثار الأدبيّة، واتّضح لنا أنّ آفاق انتظار قسم من الذين يضرمون نار ذلك الخلاف قد تتسبّب في تصنيف الآثار الأدبيّة تصنيفا يطمس علاقة من علاقات تعاليها النصّي (Transtextualité) المسهمة في بلورة شعريّتها، وتحجب جانبا من خصوصيّاتها. فضيق أفق الانتظار الناجم عن الزهد في الرجوع إلى البحوث التنظيريّة والتطبيقيّة لمعرفة العناصر الرّئيسيّة المشتركة بين كلّ طبقة من طبقات النصوص المحدّدة لجنس أدبيّ معيّن، وللوقف على النظم الأجناسيّة التي تخضع لها النصوص المركّبة قد يحمل على الذهاب إلى أنّ الآثار الأدبيّة الحديثة تمرّدت على مقولة الأجناس الأدبية، ويصرف النظر عن الكثافة الدلاليّة والأجناسيّة التي تميّزت بها بعض الرّوائع، ويسفر عن النتائج التي أشرنا إليها سابقا. وكثيرا ما يختلف الدارسون في تصنيف الآثار الأدبيّة بسبب تباين وجهات نظرهم إلى العناصر الرئيسيّة المتحكّمة فيها فيحتدّ التنافر بين البحوث، وتتنوّع ـ في الآن نفسه ـ مجالات التأويل.
ولمّا كانت تصنيفات كتاب "حدّث أبو هريرة قال" متّصلة بتلك القضايا الشائكة، ومتباينة تباينا دالاّ على ثراء خصوصيّاتها، وصعوبة الإحاطة بنصيّته المصاحبة
(Paratextualité) ونصيّته الجامعة، فإنّ ذلك يفتح ـ في تقديرنا ـ مجالا من مجالات البحث الخصبة. ولهذا، فإنّنا سنرجع إلى أهمّ الدراسات التي أشارت إلى جنس ذلك الأثر لنضبط مواقف أصحابها ونحدّد نقاط اختلافهم، ونبرز بعض الجوانب الكفيلة في نظرنا بالكشف عن الخصوصيّة الأجناسيّة لذلك الكتاب وبلورة وجه من وجوه تلك المسالة التي مازالت تحتاج إلى تضافر الجهود للإحاطة بمختلف جوانبها.

***

وجهـات المصنّفيـن :
لا جدال في أنّ لتوفيق بكّار فضل السبق في تحليل كتاب "حدّث أبو هريرة قال" ودلالاته في بعض دروسه الجامعيّة، وفي المقدّمة التي وضعها له عندما تولّى نشره في سلسلة "عيون المعاصرة" التي يشرف عليها. ولئن استعمل عبارة "قصّة" في قسم من حديثه عن ذلك الكتاب، فإنّه لفت الانتباه - بصورة خاصّة - إلى انتمائه إلى الجنس الروائي وانخراطه في موجة تجديد الرواية العربيّة، ولمّح إلى أمارات تجذّره في التراث العربي الإسلامي بالإشارة إلى صلاته بالأحاديث.
أمّا محمود طرشونة فقد ذكر أنّ ذلك الكتاب "ينتمي إلى الأدب القصصي ويُعتَبر في نفس الوقت امتدادا للقصص العربي القديم وإحياء وتجديدا له". ثمّ أثبت أنّ اعتماده على أركان القصّ وأدواته قد أكّد له انتماء نصّ "حدّث أبو هريرة قال" إلى الجنس الروائي واتّسامه بحداثة "ما كانت الأحاديث والأخبار التي تقوم الرواية على أشكالها لتعرف شيئا منها".
ورغم أنّ خالد الغريبي لم يهدف إلى دراسة علاقة "حدّث أبو هريرة قال" بمسألة الأجناس الأدبيّة، فإنّه نفى صلته بالقصّة بمفهومها الغربي المعاصر الصرف، لأنّ مؤلّفه شاء له ـ حسب قوله ـ "صياغة نهلت من أشكال الرواية القديمة ونقل الكلام في أعرق صورة له وأقدسها". وإثر ذلك خلص إلى أنّه "مزج في نوعه الأدبي الحديثَ كشكل تعبيري غاية في العراقة بأشكال قصصيّة صيغت في أحدث صورها من حيث منطق ترتيب الأحداث وتركيب الأزمنة تقديما وتأخيرا".
وقد انتبه مصطفى الكيلاني إلى أهميّة الأسلوب في "حدّث أبو هريرة قال" باستناده إلى الدراسة التي ذكر فيها محمد اليعلاوي أنّ "محمود المسعدي متأثّر بالقرآن تائق إلى إعجازه". وفي ضوء ذلك أشار إلى "أنّ دراسة هذا الأثر إن لم تبحث في المعاجم وأصولها فإنّهـا تبقى انطباعيّة المنطلق والمناهج سطحيّة التحليل والتأويل والاستنتاج". وبعد أن وقف على بعض تلك الأصول ودرس قسما من جوانب الكتاب الفنّيّة انتهى إلى أنّه يمثّل "محاولة في البحث عن كتابة روائيّة عربيّة" تجاوز فيها صاحبها المحاكاة التراثيّة كما تبدّت في الكتابات النهضويّة الأولى ولم يغرق في التبعيّة النمطيّة الغربيّة".
ولمّا لاحظنـا أنّ قسما من تلك الدراسات قد أشار إلى أنّ تجذّر كتاب المسعدي في التراث لا ينفي انتماءه إلى الجنس الروائي، فإنّنـا استندنا إلى نتائجها لتحليله ضمن بحث بعنوان "مظاهر تأصيل الرواية التونسيّة"، ساهمنا به منذ عقد من الزمن في أعمال ملتقى الروائيين العرب الأوّل بقابس. ولئن انتهينا في ذلك البحث إلى أنّ العناصر الأجناسيّة التي نهض عليها نصّ "حدّث أبو هريرة قال" تثبت ريادته لنزعة تأصيل الرواية العربيّة، فإنّنا ندرك اليوم أنّنا لم نتعمّق في تلك الظّاهرة المتشعّبة تعمّقا كافيا، نظرا إلى حرصنا - آنذاك - على إبراز العلاقات التي ربطت رواية المسعدي ومجموعة من الروايات التونسيّة الأخرى بالتراث السردي العربيّ.
وبما أنّ صلة آثار المسعدي بمسألة الأجناس الأدبيّة صلة معقّدة، فإنّ محمد القاضي خصّص بحثا موسوما بـ"الكتابة عند المسعدي ومسألة الأجناس" ليدرس تلك الظاهرة باعتماد البنى والمضامين والعناصر النصيّة المصاحبة للمتون. وقد كان لكتاب "حدّث أبو هريرة قال" نصيب هامّ في تلك الدراسة، إذ أنّ صاحبها نظر إليه من الزاوية التي أعلن عنها، بعد أن نقد قسما من البحوث المتعلقة به.
وليس من شكّ في أنّ تحديد الأجناس الأدبيّة التي تنتمي إليها الآثار السرديّة عمليّة عويصة، نظرا إلى أنّ علاقة نصّ من النصوص السرديّة بجنسه الأدبي علاقة مجرّدة وضمنيّة لا تنطق بها ـ في أفضل الحالات ـ سوى إشارات نصيّة مصاحبة. وإذا كان من الطبيعي ألاّ تفصح المتون عن أجناسها الأدبيّة، فإنّ المصاحبات النصيّة تتضمّن ـ حينا ـ مواثيق أجناسيّة وتمسك - حينا آخر - عن التصريح بنسبة المتون إلى جنس من الأجناس الأدبيّة. ومع هذا، فإنّ من النقّاد مَن يصادق على المواثيق الأجناسيّة التي تتخلّل بعض المصاحبات النصيّة قبل اختبار المتون المتعلّقة بها، ومنهم من يظهر قلّة اكتراثه بها، رغم أنّ "الإدراك الأجناسي يوجّه في جانب عظيم أفق انتظار القارئ ويحدّده، ومن ثمّ فهو يوجّه تحليل الأثر ويحدّده".
ولكن، بما أنّ المسعدي لفت انتباه القرّاء إلى مضامين آثاره الإبداعية ليدلّهم على تعلّقها بقضايا إنسانية خالدة ولم يعقد معهم ميثاقا سرديّا واضحا لإيمانه بأنّ الفروق بين الأجناس الأدبية فروق شكليّة، وذهابه إلى أنّ معاني المصطلحات المتعلّقة بالأجناس الأدبية معان غامضة، فإنّ القاضي لم يجد بدّا من التعويل على بنية كتاب "حدّث أبو هريرة قال" ومضمونه ليتبيّن علاقته بمسألة الأجناس الأدبية. و قد ذكر أنّ أحاديث المسعدي "تتّصل جميعا بشخصيّة أبي هريرة وتروي مغامراته أو مسيرته الوجوديّة" بالجزيرة العربية، و لاحظ أنّها "انطلقت من ولادة أبي هريرة المجازية وانتهت بوفاته"، رغم أنّها لم ترد في الكتاب مترتّبة ترتيبا زمنيا. إلا أنّ تلك العلاقة بين الأحاديث لا تجعل منها – حسب رأيه – فصولا متعاقبة في رواية "ذلك أنّ المسعدي اختار فيها أن ينسج على منوال جنس أدبي قديم هو الخبر، وهو وحدة سردية مستقلّة. فهذه الأخبار أشبه ما تكون بما نجده في كتاب "الأغاني" حيث يكون أهمّ عناصر التوحيد بين الأخبار اتصالها بشخصيّة واحدة، وإن كنّا نلمح بصفة عامّة أنّ الأصفهاني يعمد في أكثر الأحيان إلى مراعاة التطوّر الزمني ما أمكن".
وعلى ذلك الأساس أقرّ محمد القاضي بصعوبة "تحديد إطار أجناسيّ" نستطيع من خلاله أن نقرأ "حدّث أبو هريرة قال" قراءة "مطمئنّة إلى اندراجه في جنس أدبيّ معيّن"، وأعرب عن عدم اقتناعه بالحجج التي برّر بها توفيق بكّار ومحمود طرشونة انتماء ذلك الكتاب إلى الجنس الرّوائي. بل إنّه رأي في كلام توفيق بكّار عن النصّ والنصّ الأدبي والكتابة والإنشاء القصصي عند تعرّضه لكتاب المسعدي برهانا على حيرته في تنزيله "منزلته من سلّم الأجناس"، لأنّ ذلك يعكس ـ حسب قوله ـ "تقلقل هذا النصّ في موضعه وجنوح صاحبه فيه إلى تنكّب السبل المطروقة".
إنّ تلك النتائج التي توصل إليها القاضي قد جعلته يذهب إلى أنّ متون المسعدي ومصاحباتها النصيّة نهضت على التأليف بين قطبين أساسيّين تجلّت ملامحهما في جدليّة الماضي والحاضر والشرق والغرب والنثر والشعر، وأقنعته بأنّ تلك الجدليّة هي السبيل إلى فهم مسألة الكتابة عند المسعدي. ومن ثمّ قرأ العلاقات التي ربطت نصّ "حدّث أبو هريرة قال" بالشعر والقرآن في ضوء أقوال المسعدي فأدرك أنّ كتابته "تطلب الاندراج في العصر والتجذّر في الهويّة". وقد انتهى إلى أنّ "الاندراج في العصر يحملها على ركوب منظومة الأجناس الغربيّة المعاصرة والتجذّر في الهويّة يقتضيها أن تتبنّى منظومة الأجناس العربيّة القديمة".
والحقّ أنّ القاضي لم يحلّل بنية الكتاب في ضوء نظرية الرواية ليبرّر اختلافه مع الدّارسين الذين نسبوه إلى الجنس الرّوائي، ولم يستند إلى العناصر الأساسيّة المشتركة بين طبقة نصوص الأخبار ليقف على مدى صلة نصّ المسعدي بذلك الجنس الأدبي التراثي. كما أنّه لم يستند إلى نظريّة الأجناس الأدبيّة ليفحص علاقات ذلك النصّ بجنسين متنافرين، وإنّما ذهب إلى أنّ الكتابة عند المسعدي "تتنزل خارج منظومة الأجناس التقليديّة لا الأجناس مطلقا. فلا يمكننا أن نقرأها بمعزل عن الخبر والرواية والمسرح والأقصوصة والشعر، ولكنّنا لا يمكننا أيضا أن نقرأ أيّا منها من خلال جنس واحد من هذه الأجناس". وإثر ذلك خلص إلى أنّ شيوع القرآن في نصوص المسعدي ـ على الحقيقة وعلى المحاكاة ـ يمثّل دليلا على أنّه "مصطلح قرائي أساسي تنصهر فيه سائر الجدليّات التي عبّر عنها أدب المسعدي".
وقد عجز صلاح صالح عن تصنيف كتاب "حدّث أبو هريرة قال" عجزا مطلقا، إذ أنّه عدّه من ناحية عملا "تميع فيه هويّته الشكليّة بين القصّة القصيرة والرواية والتأمّل ذي الطابع الفلسفي الانتقادي"، واعتبر من ناحية أخرى أنّ صلته بأساليب المحدّثين التراثيّين لا تنفي "قابليّة انتسابه للفنّ الروائي" بما أنّ "جميع الذين تناولوه تناولوه بصفته رواية" على حدّ قولـه.
واضح من كلّ هذا أنّ عمق القضايا التي تعلّق بها كتاب "حدّث أبو هريرة قال" وثراء فنيّاته السرديّة، وتعقّد علاقاته بمسألة الأجناس الأدبيّة قد شدّت انتباه النقّاد وعلى رأسهم أساتذة الجامعة التونسيّة، وقادتهم إلى تحليل محتواه وأسلوبه. وقد مثّلت مسألة انتمائه الأجناسي محورا من المحاور الرّئيسيّة التي شغلت أولئك النقّاد وباعدت بين نتائجهم. فقد اتّفقـوا على ذكر صلة ذلك الكتاب بالرواية والأحاديث والأخبار الأدبيّة في الآن نفسه، واختلفوا في تحديد درجة تلك الصلة ونوعها، لأنّ منهم من لم يخصّص بحثه لدراسة تلك المسألة، ومنهم من اكتفى بالإشارة إليها إشارات دالّة على أنّه يعتبرها من القضايا العويصة، ومنهم من جوّد فيها النظر تجويدا أقنعه بأنّ علاقته بالجنس الرّوائي وبجنس الخبر لا تفضي إلى الإحاطة بخصوصيّاته، ودلّه على أنّ العنصر المهيمن على شكله ومحتواه يتجلّى في مستوى آخر من مستويات القراءة. ونتيجة لكلّ ذلك ظلّت بعض علاقات التعالي النصّي الكاشفة عن شعريّة "حدّث أبو هريرة قال" في حاجة إلى فتح آفاق أخرى لإنارة جوانبها المعتّمة.
عتبات "حدّث أبو هريرة قال" :
إنّ فروع المصاحب النصّي(Paratexte) الحافة بالمتون السرديّة كثيرا ما تتشعّب تشعّبا، وتعسف القرّاء بمعلومات شتّى توجّه عمليّة التلقّي وتدلّ على متانة العلاقة الخفيّة التي تنسجها مع تلك المتون. ممّا حمل أعلام الشعريّة المحدثين على اعتبار العلاقة النصيّة المصاحبة من علاقات التعالي النصّي التي تنهض عليها شعريّة الآثار السرديّة، ودفع طائفة منهم إلى تجويد النظر في جميع فروعها لتبيّن خصائصها وتحديد وظائفها وإبراز أنّها تمثّل عتبات منفتحة على المتون السّرديّة المتعلّقة بها.
وبقراءتنا لهوامش "حدّث أبو هريرة قال" اتّضح لنا، مثلما اتّضح لبعض الدّارسين قبلنا، أنّ تلك الهوامش لا تشفّ في مستوى السّطح ولا في مستوى العمق عن مقصديّة المسعدي الأجناسيّة، بما أنّه وظّفها ليشير إلى بعض العوامل المؤثّرة في تكوينه ويحدّد الظروف التي أنشأ فيها ذلك الكتاب ويبرز قضاياه الجوهريّة ويدلّ على قصّة مخطوطه. أمّا العناصر النصيّة المصاحبة التي تضمّنتها محاضرات المسعدي وحواراته الأدبيّة، فإنّها أشارت إلى مظاهر الاختلاف بين أطوار مسيرة أبي هريرة، وبيّنت أنّ قضايا ذلك الكتاب قد بُسطت "في شكل قصّة إنسان عاش حياته واضطلع بتجربته الوجودية وتقلـّـب بين أطوار مغامراته الإنسانيّة من أوّلها إلى آخرها". وإن كان هذا الكلام لا يفصح عن مقصديّة أجناسيّة محدّدة، فإنّه يدلّ على أنّ المسعدي أخضع مسيرة حياة أبي هريرة لبرنامج سرديّ واضح ليمثّل مسائل معرفيّة مجرّدة. ومن شأن ذلك البرنامج أن يفرّع الحبكة ويضخّم حجم النصّ ويمتّن صلته بطبقة النصوص الروائيّة.
والحقّ أنّ حديث محمود المسعدي عن تأثّره بروايات الروائي الرّوسي دوستويفسكي
(Dostoïevski)، واطـّلاعه على المراحل الأولى التي قطعتها الرواية العربيّة، ووقوفه على فنون القصّ الحديث تُعرب عن إلمامه بالأجناس السرديّة الغربيّة التي انفتح عليها الأدب العربي الحديث. لكنّ ذهابه إلى أنّ المهتمّين بالأدب السردي العربي لم يستعملوا عبارة "قصّة" استعمالا اصطلاحيّا وإنّما أطلقوها على مختلف ألوان الحكي يشي بسبب امتناعه عن إنماء نصوصه السرديّة إلى جنس أدبي مخصوص. وآية ذلك قوله : "القصّة أقصوصة الصحف السيّارة. وهي الرواية تستغرق كتابا، وهي قصص ألف ليلة وليلة. وهي الشكاة تُرفع إلى الأمير وهي "قصّة رأس الغول" وهي كلّ ما تشاء. وما دام الأمر على مثل هذا الغموض فلكم الحريّة في أن تجعلوا القليل الذي كتبت في أيّ هذه الأنواع شئتم إن كان لا بدّ من التصنيف الشكلي".
إنّ هذه العناصر النصيّة المصاحبة التي تنمّ عن قلّة اعتناء الدّارسين العرب بضبط المصطلحات السرديّة لا تنفي ـ فيما نقدّر ـ وقوف المسعدي على بعض ما يميّز الرواية من سائر الأجناس الأدبيّة. فإشارته إلى أنّ عبارة قصّة أُطلقت ـ أيضا ـ على "الرواية تستغرق كتابـا" تدلّ على وجه من وجوه الرواية. وليست تلك السّمة المتعلّقة بالجانب الكمّي قليلة الشأن، بما أنّها ناجمة عن توفّر قسم من العناصر الأساسيّة التي ينهض عليها النصّ الرّوائي. فكثرة عدد الشخصيّات وتفرّع الحبكة واتّساع الأطر الجغرافيّة التاريخيّة تشكّل جانبا من أهمّ الجوانب التي تميّز جنس الرواية من سائر الأجناس السرديّة المجاورة لها، وتؤدّي بالضرورة إلى تضخّم حجم النّص الروائي. ولنا في استعمال عبارتي "قصّة قصيرة" و"أقصوصة" لوسم جنسين أدبيين مجاورين للرواية أمارة واضحة على أنّ اختلاف أركانهما عن أركان الجنس الروائي يؤثّر في حجميهما. ولهذا أشار عز الدين إسماعيل إلى أهميّة تلك العلاقة بقوله "إنّ الحيّز الضيّق يؤثّر في اختيار الموضوع وطريقة السرد وبناء الحادثة والصياغة اللفظيّة وكذلك في الصّورة العامّة للعمل الأدبي".
وقد تضمّنت عتبات كتاب "حدّث أبو هريرة قال" ـ فضلا عن ذلك ـ ميثاق معارضة لمّح إلى علاقته بالتّراث السردي العربي، وأكّد انتماءه إلى الحكي التخييلي تأكيدا نفى بصورة قطعيّة انتسابه إلى الأحاديث أو إلى الأخبار. ومن الشواهد على ذلك قول المسعدي إنّ كتابه يشتمل على "قصّة شخص خيالي، غير الصحابي رضي الله عنه، في شكل سلسلة أحاديث بأسانيدها الخياليّة أيضا على غرار أحاديث الأدب القديم".
وهكذا تُوهم المصاحبات النصيّة في مستوى السطح بخلوّها من ميثاق روائي، وتبين في مستوى العمق عن أهمّ ملامح ذلك الميثاق. ذلك أنّ إشارة المسعدي إلى أنّ المحتوى السردي لكتابه يتعلّق بقصّة حياة شخص خيالي من بدايتها إلى نهايتها في شكل سلسلة من الأحاديث تثبت انتماء نصّه إلى الحكي التخييلي، وتلفت الانتباه إلى أنّه ربط الأحاديث بعضهما ببعض حتّى يخضع أحداثها لتحقيق برنامج سرديّ مخصوص. أمّا كلامه عن التغيّر العميق الذي طرأ على حياة الشخصيّة الرئيسيّة في نهاية مسيرتها الوجوديّة، فإنّه يشي بتفرّغ الحبكة السرديّة واتّساع إطارها الجغرافي والتاريخي، ويشفّ عن بعض الوجوه الأخرى التي تربط نصّه السرديّ بطبقة النصوص المنتمية إلى الجنس الروائي.
ولهذا، فإنّ تلك العناصر النصيّة المصاحبة تبرز - في تقديرنا - أنّ مقصديّة محمود المسعدي الأساسيّة تعلّقت بتأليف نصّ سرديّ ناهض على الأركان الرّئيسيّة التي تنهض عليها طبقة النصوص الرّوائيّة، رغم أنّه ضمّن تلك المصاحبات النصيّة ميثاقا سرديّا أبان عن أنّه عارض أحاديث الأدب القديم، وأقام نصّه على شكل وحدات سرديّة مستقلّة بعضهـا عن بعض بأسانيدهـا ومتونها.
وإقرار محمود المسعدي بأنّ رواة أحاديثه وشخصيّاتها الرّئيسيّـة من صنيع الخيال يؤكّـد خضوع كتابه للشرط الأوّل الضروري الذي يبيح انخراطه في جنس من أجنـاس الحكي التخييلي، ويقطع بالتالي صلته بجنسي الحديث الأدبي والأخبار، بما أنّ النصوص المنضوية فيهما تنتمي إلى الحكي الحقيقي، وتلحّ على إظهار تميّزهـا من النصوص المنتمية إلى الحكي التخييلي. وممّـا يدعم ذلك أنّ "ارتباط الخبر ـ في أصله ـ بجملة الأحداث التي وقعت أو أقوال صدرت عن أشخاص معلومين قد جعله يتميّز من أنواع أخرى من الإنتاج الأدبي من قبيل الخرافات والأساطير"، فضلا عن أنّ الروّاة حاولوا ـ في جلّ الحالات ـ المحافظة على تلك الخصيصة التي تتسم بها الأخبار "لأنّ دور الخبر أن يظلّ تابعا للواقع ينقله ولا يوجده".
ومن هنا فإنّنا لا نستبعد أنّ محمود المسعدي أقام نصّه السردي على أركان الجنس الروائي الغربي وتكتّم على ذلك في محاضراته وحواراته الأدبيّة، ووسمه ـ أيضا ـ ببعض سمات أحاديث الأدب العربي القديم ثمّ نفى انتماءه إلى جنسها الأدبي ليظهر خصوصيّة كتابته السرديّة، ويلفت النظر إلى اختلافها عن الرواية الغربيّة وعن الأحاديث الأدبيّة العربيّة في الآن نفسه.
وبما أنّ التأكّد من ذلك يتوقّف - أوّلا وقبل كلّ شيء - على اختبار بنود تلك المواثيق السرديّة باستخلاص الخصائص الأجناسيّة التي تضمّنها متن "حدّث أبو هريرة قال"، فإنّنـا سنتوسّل بنظريّة الرواية ونظريّة الأجناس الأدبيّة وببعض البحوث المتعلّقة بالخبر الأدبي لرصد أجناسيّة ذلك المتن السردي، وفحص نصيّته الجامعة، وإبراز دورها في بلورة وجه من وجوه شعريّته. وينبغي علينا ألاّ نعتبر مظاهر اتّصاله بالأحاديث والأخبار الأدبيّة حائلة دون انتسابه إلى الجنس الروائي، إذ أنّ ذلك لا ينفي نهوضه في مستوى العمق على الأركان المشتركة بين طبقة النصوص الروائيّة.
إنّ اتّصال الأثر السردي الواحد بجنسين أدبيين أو أكثر أمر شائع في الأدب الحديث والمعاصر - بصورة خاصّة - ولا يدعو إلى الاستغراب، بما أنّ كلّ أثر ينتمي - من ناحية - إلى جنس أدبيّ، أي أنّه "يفترض أفق انتظار بمعنى مجموعة من القواعد السابقة الوجود لتوجيه فهم القارئ (الجمهور) وتمكينه من تقبّل تقييمي. وذلك لا يمنع اتّصاله بجنس ثان أو بعدّة أجناس أخرى، إذ "يمكن للأثر نفسه - كذلك - أن يسمح بتناوله من زاوية مظاهر أجناس عديدة". ومن أجل هذا رصد الشعريّون العنصر المهيمن الذي يحكم نظام تلك الآثار المركّبة ليتمكّنوا من "التمييز بين بنية جنس ذات وظيفة مستقلّة (أو مكوّنة) وأخرى تابعة (أو مصاحبة)".

تمثيل الجنس الرّوائي :
إنّ إشارات العتبات التي وقفنا عليها إلى ارتباط متن "حدث أبو هريرة قال" بالحكي التخييلي والحكي الحقيقي، وصمتها عن تحديد جنسه الأدبي تنطق بميل محمود المسعدي إلى تكييف أفـق انتظار القرّاء لحملهم على مقاربة نصّه السردي من الزاوية التي يفضّلها هو نفسه : أي من الزاوية التي تنير مضمونه، وتظهر تميّزه من الرواية الغربية وأحاديث الأدب العربي القديم. غير أنّ بنود المواثيق الصريحة والضمنيّة التي تخلـّلت تلك النصوص المصاحبة لا تدلّ بالضرورة على خصوصيّة "حدّث أبو هريرة قال" الأجناسيّة، بما أنّ من المؤلفين من يعلن عن مقصديّة أجناسيّة معيّنة ويعجز عن تحقيقهـا فيطعن فيها قسم من الدّارسين ويربطون أثره بجنس لا صلة له بتلك المقصديّة، ويذهب قسم آخر منهم في تصنيف ذلك الأثر نفسه مذاهب شتّى. بل إنّ ذلك الأمر كثيرا ما يتفاقم عندما تخترق الآثار الأدبيّة حدود أجناسها لتوسّع حقولها. ولهذا ألحّ عدد من أعلام الشعريّة على إبراز دور المدوّنات التي تشكّل آفاق انتظار القرّاء في تحديد ملامح الأجناس الأدبيّة وتصنيف النصوص ليدلّوا على عامل رئيسي من عوامل تعقّد تلك المسألة.
وبما أنّ المصاحبات النصيّة والنصوص النقديّـة المتعلّقة بمتن "حدّث أبو هريرة قال" قد أبانت عن أنّه لا ينتمي إلى جنس أدبيّ واحد، فإنّ ذلك يشي بتعدّد المداخل الهادية إلى خصوصيّاته، ولا ينفي انتماءه إلى الجنس الرّوائي، رغم إعراض مؤلّفه عن عقد ميثاق روائي صريح مع القرّاء. فاشتراك المصاحبات النصيّة مع المتن المتّصل بها في الدّلالة على اندراج كتاب المسعدي في حقل الحكي التخييلي، وتعلّق محتواه السردي بمختلف المراحل التي عاشتهـا شخصيّة رئيسيّة واحدة يثبتان تمثيله لخصيصتين من خصائص الجنس الرّوائي، ويغريان بفحص عناصره الأجناسيّة لتبيّن مدى نهوضه على الأركان المشتركة بين طبقة النصوص الروائيّة.
وينبغي علينـا ألاّ نعتبر عجز الدّارسين عن وضع تعريف جامع مانع للرواية دليلا على إنكارهم وجود ذلك الجنس الأدبي، أو على أنّ المراحل الكبرى التي قطعتها الرواية قد بدّدت الخصائص العامّة المميّزة لها. فمنظّرو الأدب السردي الذين توسّلوا بالقياس قد قارنوا النصوص السرديّة بعضها ببعض، واستخلصوا العناصر الرّئيسيّـة المميّزة بينها، ثمّ صنّفوها إلى طبقات باعتماد السمات المشتركة بين كلّ طبقة من تلك الطبقات. ومن ثَمّ حدّدوا الشروط الكافية والضروريّة التي تبرّر انتمـاء كلّ مجموعة منها إلى جنس أدبي مخصوص، وانتهوا - على سبيل المثال - إلى أنّ طبقة النّصوص السردية المنتمية إلى الجنس الرّوائي تشترك في تمثيل خصائص ذلك الجنس الأدبي نفسه.
إنّ متن "حدّث أبو هريرة قال" قد مثّل ـ مثلما أسلفنا ـ خصيصتين رئيسيّتين من خصائص الجنس الرّوائي فمهّـد سبيلنا إلى الوقوف على بقيّة عناصره الأجناسيّة الدّالّـة على أنّه مثّل ـ فعـلا ـ جلّ العناصر الرّوائيّـة الرّئيسيّـة تمثيلا يؤكّد انتماءه إلى الجنس الروائي. ولنا في علاقة النهاية بالبداية أمارات دالـّة على ارتباط متن كتاب المسعدي بطبقة النصوص الرّوائيّة. ذلك أنّ عزوفه عن النّظام الزمني التعاقبي، على غرار جلّ الروايات الحديثة والمعاصرة، لا يخفي السلك الناظم لمسيرة الشخصيّة الرئيسيّة التي قطعت أشواطا عسيرة، وجابت مسالك متفرّعـة انتهت بها إلى تغيّر جذريّ، برّرته العوامل التي أثّرت في كيانها وحدّدت وجهتهـا وعلّلت مصيرهـا تعليلا جعل علاقة النهاية بالبداية في النصّ الذي نحن بصدده مماثلة للعلاقة الرّابطة بين ذينك الجانبين في سائر النصوص الروائيّة.
وحسبنا أن نشير في هذا المقام إلى أنّ قراءة ذلك الكتاب باعتماد مستوى الخبر ومستوى الخطاب تظهر لنا أنّ أبا هريرة فزع من الموت منذ فجر شبابه، ولم يفلح في فهم سرّ الوجود فكتم حيرته وخضع لتقاليد مجتمعة إلى أن اكتشف ذات يوم وجها جديدا للحياة عصف باطمئنانه وبعثه من جمود كجمود القبر. ومن ثمّ سقط إيمانه واتّقدت حيرته واشتاق إلى إطفاء لظى الشكّ اشتياقا دفعه إلى خوض تلك التجارب المعرفيّة التي انتهت كلّها بالفشل، نظرا إلى تعويله المطلق على حواسّه العاجزة عن فكّ ألغاز الغيب. وعندئذ قوّم مسيرة حياته وأدرك أسباب ضلاله واستعدّ للانقطاع عن الدنيا فاهتدى إلى نبع الخلاص.
وتظهر الحركة السرديّة المتحكّمة في نصّ "حدّث أبو هريرة قال" وجها آخر من وجوه اتّصاله بطبقة النصوص الروائيّة، إذ أنّ الراوي المضمر قد طوّر الأحداث بالنزوع إلى تفريعهـا، وإثارة قضايا أساسيّة وقضايا ثانويّة موصولة بها، ونسج خيوط حبكات متوازية حينا ومتشابكة أحيانا. وتلك الخصيصة هي التي تمكّن الرواية من قطع مراحل حاسمة والتدرّج بها حتّى تبلغ النهاية المرصودة، من دون أن تباغت القرّاء. ويمكن لنا أن نثبت تحكّم ذلك العنصر الرّوائي في متن كتاب محمود المسعدي بالإشارة إلى أطوار علاقات أبي هريرة بأبي المدائن وظلمة وريحانة وأبي رغال، ورصد مظاهر اليأس التي كدّرت حياة تلك الشخصيّة الرّئيسيّـة بعد فشل كلّ تجربة من تجاربهـا المعرفيّة، وتبيّن بواعث حرصها على معانقة الحقيقة المطلقة، والوقوف على ظروف تخلّصهـا من حيرتها بعد أن أنفقت سنوات من حياتها على دروب البحث.
ولمّا كانت الشخصيّات الروائيّة الرّئيسيّـة متميّزة من شخصيّات النصوص السرديّة المنتمية إلى الأجناس الأدبيّة المجاورة للجنس الرّوائي بكثرة عددهـا وتشابك العلاقات الرابطة بينها وبين الشخصيّات الثانويّة، وكذلك بتنوّع العوامل المؤثّرة فيها وبماضيها الفاعل في حاضرها ومستقبلها، فإنّ اتّسام الشخصيّات الرّئيسيّـة في كتاب "حدّث أبو هريرة قال" بتلك السمات نفسها يثبت أنّه مثّل خصيصة أخرى من خصائص الجنس الرّوائي الأساسيّة. فقد دلّت الأحداث السرديّة على الظروف التي جمعت بين أبي هريرة وأبي المدائن من ناحية، وبين ريحانة وأبي هريرة من ناحية أخرى، وأوقفتنا على العوامل المتحكّمة في سلوكهم جميعا، وكشفت عن علاقتهم بالشخصيّات الثانويّة، ودلّتنا على الأسباب التي حدّدت مصير كلّ واحد منهم، ممّا دعّم نسبتهم إلى الشخصيات الرّئيسيّـة التي تحتفل بها الرّوايات.
ومن أجل كلّ هذا اتّسعت الأطر الجغرافيّة التاريخيّة في كتاب "حدّث أبو هريرة قال"، وكثر عدد الشخصيّات المشاركة في أحداثه، وتشابكت حلقات الوحدات السرديّة فتعقّدت الحبكة، وتضخّم حجم النصّ تضخّما شفّ ـ مثلما أسلفنا ـ عن وجه من وجوه صلاته بطبقة النصوص المنتمية إلى الجنس الروائي. غير أنّ تعاضد تلك العناصر على تمثيل الجنس الروائي لا يحجب الاختلاف الشكلي الواضح بين نصّ المسعدي وسائر النصوص الروائيّة في الأدب العربي والآداب الأجنبيّة. ذلك أنّ المسعدي عارض أحاديث الأدب القديم بإنشاء وحدات سرديّة منفصل بعضها عن بعض انفصالا شكليّا، وأثبت أسانيدها وعناوينها الفرعيّة وفتحها على متناصّ غزير العناصر.
ومعارضة محمود المسعدي للون من ألوان التراث السردي العربي لا تنفي نسبة نصّ "حدّث أبو هريرة قال" إلى الجنس الرّوائي، إذا ما ثبت أنّ العناصر الأجناسيّة الرّئيسيّة الجامعة بين النصوص الرّوائيّة هي التي تحكّمت في تكوينه. ذلك أنّه لا يتسنّى لنا نسبة أيّ نصّ من النصوص السرديّة إلى طبقة النصوص الروائيّة إلاّ متى هيمنت عليه العناصر الأجناسيّة الرّوائيّة هيمنة نوعيّة لا هيمنة كمّية، ونظرنا إليه في كليّته من دون أن نأخذ بعين الاعتبار جوانبه الجزئيّة. أمّا إذا اعتمدنا المحتويات السرديّة التي تضمّنتها النصوص الروائيّة والتفتنـا إلى شبكات عناصرها الشكليّة الجزئيّة، فإنّ ذلك يوقفنا بالضرورة على مظاهر تنافرها التي حيّرت بعض الدّارسين وحملتهم على الإقرار بعجزهم عن تعريف الرواية وضبط حدود جنسها الأدبي.
ولا جدال في أنّ الرّوائيين الذين خضعوا لمختلف العناصر المؤسسة للجنس الرّوائي خضوعا مطلقـا وحرصوا على الوفاء لها وامتنعوا عن اختراق حدودها لم ينشئوا سوى روايات باهتة القيمة. أمّا الرّوائيّون المجيدون، فإنّهم خضعوا للجنس الرّوائي على ما هو عليه، ووسّعوا حدوده في الآن نفسه بتوظيف بعض خصائص الأجناس الأدبيّة وغير الأدبيّة، واستعمال تقنيّات الفنون الجميلة ففتحوا بذلك منفذا إلى تجديد الكتابة الرّوائيّة والخروج بها عن المسلك الكلاسيكي الذي تشبّث أصحابه بالجنس الرّوائي الصافي. ومن هنا نزعم أنّ نهوض كتاب "حدّث أبو هريرة قال" في مستوى العمق على الأركان الروائيّة الرئيسيّة، وتلوّنه في مستوى السطح بلون فنيّات التراث السردي العربي يشفان – من ناحية – عن تميّزه من أنماط الرواية السائدة في الأدب العربي الحديث والمعاصر ومن أنماط أجناس التراث السردي العربي في الآن نفسه، ويدلاّن من ناحية أخرى على تعقّد أجناسيّته.
ولهذا، فإنّه لا يجوز لنا إنماء ذلك الكتاب إلى أحاديث الأدب العربي القديم وأخباره إلاّ بعد اختبار ميثاق المعارضة بفحص العناصر الدّالّـة على اتّصاله بالتراث السردي العربي، وضبط علاقاته بالعناصر الرّوائيّة التي هيمنت على بنية ذلك المتن السردي برمّته.

معارضة الأحاديث والأخبار :
إنّ ميثاق المعارضة الذي تضمّنته عتبات "حدّث أبو هريرة قال" يشي بأنّ محمود المسعدي استخلص من مدوّنة سرديّة تراثيّة لغتها المخصوصة واتّخذها منوال محاكاة ليلوّن نصّه السردي ببعض ألوانها، أو ليدرجه في جنسها الأدبي. ولمّا كان ذلك الكتاب مبنيّا على شكل سلسلة من الأحاديث بأسانيدها ومنفتحا ـ في الآن نفسه ـ على متناصّ تراثيّ متنوّع، فإنّ ذلك يظهر أنّ المعارضة وطّدت صلته بمدوّنة تراثيّة غزيرة العناصر، ووسمته ببعض سماتها الأسلوبيّة، وجذّرته في محلّيته تجذيرا دلّ على أنّ محمود المسعدي قد صنع لنفسه ـ حسب قول محمد اليعلاوي ـ "أسلوبا يأخذ من القدماء ولطف المحدثين ويضيف إليهما شيئا خاصّا به لا نعلمه إلاّ له: وهو ما قد نسمّيه بالكتابة المسعديّة".
ومع هذا، فإنّ صور الرّواة في أسانيد تلك الأحاديث وبنية متونها ومحتوياتها السرديّة تكشف عن أنّ أضرب المعارضة لم تفض إلى نهوض كتاب "حدّث أبو هريرة قال" على العناصر الأجناسيّة الرّئيسيّة التي تنهض عليها مدوّنة أخبار الأدب العربي القديم. فقد اشتمل ذلك الكتاب على اثنين وعشرين حديثـا روتها شخصيّات خياليّة شارك بعضها في الأحداث وظلّ بعضهـا الآخر غريبا عنها، ممّا يثبت أنّ الرّاوي الحقيقي لجميع تلك الأحاديث راو مضمر أنشأ أولئك الرواة إنشاء، مثلما أنشأ جميع الشخصيّات المشاركة في الأحداث، وأجرى على ألسنتها ما شاء من أقوال ونسب إليها ما شاء من أفعال لينفّذ برنامجا سرديّا مخصوصـا. وليس ذلك الراوي إلاّ دورا تقمّصه محمود المسعدي نفسه على غرار جميع الرّوائيين.
إنّ احتفال كتاب "حدّث أبو هريرة قال" بأحداث وشخصيّات خياليّة قد أدرجه في حقل الحكي التخييلي، وجرّده بالتالي من أهمّ العناصر الأساسيّة التي تجمع بين النصوص المنخرطة في مدوّنة الأخبار الأدبيّة التراثيّة، بما أنّ الغالب على تلك الأخبار "أنّ الذي ينقلها إلينا غير الذي ينشئها أو هكذا يقال لنا على الأقلّ". وخاصّة لأنّ أولئك النقلة يؤكّدون أنّهم يتحمّلون تلك النصوص "سماعا أو إجازة أو مكاتبة أو قراءة أو وجادة أو بغيرها من الوسائل" ليظهروا أنّ دورهم ينحصر "في أدائها إلينا على الصورة التي وافتهم بها".
والناظر في بنية أحاديث المسعدي يلاحظ أنّها انفصلت شكليّا بعضها عن بعض، وترابطت مضمونيّا وحدثيّا ترابطا مكّنها من رصد مسيرة حياة أبي هريرة بالوقوف على منطلقات تجاربه الوجوديّة ونهاياتها، وتصوير الظّروف التي جمعته ببقيّة الشخصيّات الرّئيسيّة والثانويّة، وتحديد العوامل التي دفعته إلى الانفصال عنها، والكشف عن سبيل نجاته من الضلال بعد أن خاض تجربة الحسّ وتجربة العلّة والتجربة الاجتماعيّة والتجربة الدينيّة. في حين "أنّ الأخبار تنزع من حيث بنيتها إلى البساطة، إذ هي في أكثر الأحيان كلام ينقل كلاما. لذلك كان حظّ الأخبار المركّبة ضئيلا".
إنّ الخصائص التي أشرنا إليها كافية في تقديرنا لإثبات أنّ الجوانب الشكليّة المتمثّلة في إقامة تلك الأحاديث على أسانيد ومتون منفصلة ظاهريّا بعضها عن بعض، وتنويع أسماء رواتها ومزج النثر بالشعر ومعارضة أسلوب القرآن قد أسهمت في ربط كتاب "حدّث أبو هريرة قال" بالتراث السردي العربي، من دون أن تسفر عن إدراجه في طبقة النصوص التي تضمّ أخبار الأدب العربي القديم. ورغم هذا، فإنّ إعراض محمود المسعدي عن إقامة نصّه السردي على الأركان الرّئيسيّة التي تنهض عليها طبقة النصوص المنخرطة في جنس الخبر الأدبي التراثي قد غذّت ذلك النصّ بكثافة أجناسيّة أبانت عن خصوصيته. ومن هنا يتّضح لنا أنّ كتاب "حدّث أبو هريرة قال" قد مثّل خصائص الجنس الرّوائي ليندرج في حقل ذلك الجنس الأدبي الدخيل على الأدب العربي الحديث، وحوّله بطريقة تظهر حرص كاتبه على تأصيله في تراثه.

تحويل الجنس الرّوائي :
إنّ آفاق انتظار بعض الرّوائيين المبتدئين أو ضعيفي المواهب السرديّة قد تتسبب في دفعهم إلى التشبّث بالأركان الرّئيسيّة التي تقوم عليها طبقة النصوص الرّوائيّة لإظهار تمكّنهم من النسج على منوالها، في حين أنّ جلّ الروايات تشفّ عن قدرة أصحابها على التوفيق بين تمثيل الجنس الرّوائي وتحويله، نظرا إلى أنّ "المكوّن الأجناسي لنصّ ما، لا يكون أبدا (باستثناء حالات نادرة) مجرّد نظير للنموذج الأجناسي المكوّن بواسطة النصوص (المفترض أنّها سابقة) التي ينتمي النصّ إلى سلالتها". بل إنّ نظام التحويل الأجناسي هو الذي يترجم عن تمكّن الرّوائيين الأعلام من توظيف الأجناس المجاورة للجنس الرّوائي أو القصيّة عنه، والتوسّل بتقنيّات قسم هامّ من الفنون الجميلة لبلورة قضاياهم وإبراز قدرتهم على تجديد الفنّ الرّوائي وفتح آفاقه.
ومن أجل هذا، فإنّنا نعتبر أنّ الأمارات الأجناسيّة الـدّالّة على تلوّن كتاب "حدّث أبو هريرة قال" ببعض ألوان الأحاديث والأخبار الأدبيّة قد اضطلعت بوظائف مصاحبة للوظائف التي اضطلعت بها العناصر الأجناسيّة الروائيّة، وترجمت عن خضوع ذلك النصّ لنظام التحويل الأجناسي. فقيام الأحاديث على أسانيد ومتون، وانفتاحها على متناصّ تراثيّ، وانفصالها بعضها عن بعض توهم بنسبتها إلى التراث السردي العربي. والحال أنّ محمود المسعدي طوّع تلك العناصر للنهوض بأبرز الوظائف التي تنهض بها فنيّات القصّ الغربي. ذلك أنّه توسّل بها ليسبر نفسيّات بعض شخصيّات عالمه السردي الخيالي، ويكشف عن أحاديثها الباطنيّة ويجذّرها في بيئتها، ويخلّص السرد من رتابة النظام الزمني التعاقبي ويفتحه على أصوات عديدة.
فقد أنشأ المسعدي أشعارا ونسبها إلى شخصيّات خياليّة ليستعيض بالشعر عن بعض أدوات القصّ الحديثة، ويجذّر كتابه في التراث السردي العربي في الآن نفسه. من ذلك أنّه سبر خوالج أبي هريرة، وبرّر تغيّر موقفه من تجربة الحسّ بذكر أنّه قال لريحانة في موقف حواري : أتعلمين "أنّه في بعض أحياني :

تراكـضُ لدى قلبـي = خيول كرؤى السّحـر
يُدوّي عصفُها الدنيـا = ويـذرو جبل الصخر
فيشتدّ على روحــي = جموح في دمي يجري
أمرُّ من ضنى الحبّ = وأدهى من عنا الصبر"

وبواسطة الشّعر أعرب الراوي المضمر عن فشل العقل والروح في تخليص أبي هريرة من حيرته، ودلّ على أسباب ميله إلى خوض التجربة الاجتماعيّة، ثمّ صوّر استعداده للفناء في المطلق وفرحه بالاهتداء إلى نبع الحقيقة.
وقد تضمّن "حديث الطين" متناصّا قرآنيّا أبان عن أنّ أبا هريرة تقمّص شخصيّة الإنسان الأقوى ليختبر الفكرة الرّئيسيّة التي بلورها نيتشه في كتاباته الفلسفيّة. ذلك أنّ الراوي المضمر أشار إلى أنّ أبا هريرة رأى في منامه قوما "يعجنون طينا ويجعلون الحجر على الحجر فيشدّون به فيتّخذون صروحا"، ثمّ سمع مرتّلا "يتلو بقراءة حمزة :
يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري. فأوقد لي يا هامان على الطّين فاجعل لي صرحا لعلّي أطّلع إلى إله موسى. وإنّي لأظنّه من الكاذبين". وإثر ذلك ذكر الرّاوي أنّ أبا هريرة قام إلى أحياء العرب وبقي فيهم سنتين، رغم إقراره بحماقة تلك الرؤيا وغرورها.
أمّا ترتيب الأحاديث فقد دلّ على أنّ الراوي المضمر أعرض عن إخضاع الوحدات السرديّة لنظام زمني تعاقبي، حرصا منه على بثّ التوتّر في حركة السرد وضبط العوامل الفاعلة في مواقف الشخصيّات الخياليّة. من ذلك أنّه أسند "حديث المزح والجدّ" إلى رجل من الأنمار، وصوّر على لسانه جمال ريحانة وفتنتها ومجونها قبل اتّصالها بأبي هريرة ليبرّر تعلّقه بها في طور التجربة الحسيّة. ثمّ رصد على لسان ذلك الراوي نفسه حالة تلك المرأة خلال فترة شيخوختها ليبرز عمق تأثّرها بأبي هريرة، ويدلّ على مصيره قبل انفتاح متن الكتاب عن تلك العلاقة. فقد ختم الرّاوي الظاهر ذلك الحديث بقوله : "ثمّ طواني الدّهر وذهب أترابي في الحيّ ممّن يعرفون ريحانة جميعا. وإنّا انتجعنـا قِبَـلَ نجد. فنزلت بنا امرأة فأضافها بعض الحيّ فسألت عنها فقالوا : إنّها تقول إنّ اسمها ريحانة. فأمرت أن تأتيني فجاءت. فكانت هي والله. وكانت من حيّ إلى حيّ لا تسكن عن الترحال. تحدّث عن أبي هريرة ولا تبكي. وتقول : لقد جمدت عيني. وهي يومئذ قد ضرب الشيب في شعرها وذهب حسنها إلاّ نورا منه في العين وأصابت وجهَهـا الأخاديد".
ورغم أنّ "حديث الوضع أيضا" قد ورد ضمن الأحاديث المتعلّقة بتجربة العلّة التي جرت أطوارها قبل التجربة الاجتماعيّة وتجربة الغيبة، فإنّ أبا هريرة رواه "في آخر عهده بالدنيا" ليشير على أسباب انقطاعه عن ريحانة ويصوّر تأثيرها العميق في حياته. ولئن ضمّ محمود المسعدي "حديث الهول" إلى الأحاديث المتّصلة بالتجربة المعرفيّة الأخيرة التي خاضها أبو هريرة، فإنّ محتواه السردي جسّم موقفه من الموت عندما كان في فجر شبابه ليؤكّد انشغاله بمسألة الغيب ويظهر تميّزه من جميع رفاقه.
ولمّا كان الرّاوي المضمر هو الذي أنشأ شخصيّات الأحاديث ورواتها، فإنّ اضطلاع مجموعة من تلك الشخصيّات الخياليّة وعلى رأسها أبو المدائن وريحانة وأبو هريرة بالأدوار التقليديّة التي يضطلع بها الرّواة المضمرون قد عدّد الأصوات في عالم "حدّث أبو هريرة قال" الخيالي، وأكسبه طرافة لا عهد للرواية العربيّة بها في فترة تحرير ذلك الكتاب.
ولهذا، فإنّ ذهابنا إلى أنّ كتاب "حدّث أبو هريرة قال" ينتمي إلى الجنس الروائي لا يعني أنّنا نحدّد بذلك جميع مستوياته الشكليّة والأسلوبيّة والدّلاليّة، وإنّما يعني أنّه مثّل العناصر الأساسيّة المشتركة بين طبقة النصوص الروائيّة، وحمل عناصر الأجناس الأخرى على الاضطلاع بوظائف مصاحبة لوظائف العناصر الروائيّة المؤسّسة، بما أنّ تحديد الجنس الأدبي لنصّ من النصوص ينطلق من اعتباره عملا تواصليّا شاملا أو وحدة سرديّة كبرى، بقطع النظر عن عناصره الشكليّة الفرعيّة.

***

إنّ وقوفنا على بعض علاقات التعالي النصي المشكـّـلة لموضوع الشعرية قد كشف لنا عن النظم الأجناسية التي تحكّمت في كتاب "حدث أبو هريرة قال"، ودلـّـنا على كثافته الأجناسية وثرائه الدلالي، وأثبت لنا أنّ محمود المسعدي قد مثّل الجنس الروائي وحوّله في الآن نفسه بتجذير ذلك الكتاب في التراث السردي العربي.
ولا غرابة في أن تتنافر نتائجنا مع بنود المواثيق الأجناسية التي تضمّنتها عتبات "حدث أبو هريرة قال"، أو تختلف عن مواقف أولئك الذين صنّفوا ذلك الكتاب، بما أنّ تغيّر سياقات التلقي وتباين آفاق انتظار القرّاء وتنوّع معايير التصنيف كثيرا ما تقود الدارسين إلى الطعن في بعض المواثيق الأجناسية التي يعقدها منشئو النّصوص السردية مع قرّائهم، وتفضي إلى تحوير التصنيفات الأجناسية. ولنا في اختلاف وجهات نظر رواة الأساطير والخرافات والكرامات عن وجهات نظر علماء الأنتروبولوجيا وأعلام السرديّة والشعرية أدلّة واضحة على انتشار تلك الظاهرة.
وليس من شكّ في أنّ تفرّع نزعة التجريب وتبلور مسألة تأصيل الرواية العربية واتّساع حقول البحوث الشعرية منذ سبعينات القرن العشرين قد أضفت على قضيّة الأجناس الأدبية أهمّية لا عهد لمحمود المسعدي بها عندما أنشأ كتاب "حدث أبو هريرة قال" أو عندما تحدّث عن خصائصه. وكان ذلك من الأسباب التي جعلته يعتبر التصنيفات الأجناسية عملية شكلية منقطعة الصّلة بصميم آثاره، ولا يكترث بالفروق بين مذاهب الأدب، لأنّها لا تكون في تقديره "إلاّ فروعا لشجرة واحدة أو جداول لنهر واحد. والشجرة ـ أو النهر ـ هي الإنسانيّة"، رغم تعقّد تلك المذاهب واختلافها بعضها عن بعض وتأثيرها الواضح في مضامين الآثار الأدبيّة وتقنياتهـا.
ومن أجل هذا، فإنّنـا نقدّر أنّ ميل محمود المسعدي إلى التقليل من شأن الأجناس والاتجاهات الأدبيّة، ونفي الفروق الجوهريّة بينها يهدف بالأساس إلى لفت انتباه القرّاء إلى تعلّق آثاره بالرّوح الإنسانيّة، على غرار الأدب الغربي والأدب اليوناني، نظرا إلى إيمانه بأنّ "أحسن تعريف للأدب باعتبار جماع وظيفته هو أنّه العبارة الشّاملة عن الإنسان في كليّة حياته الباطنة : أي في حياته الفكريّة، في حياته الخياليّة، في حياته التصوّريّة، في حياته الشعوريّة، في حياته العاطفيّة". ومن ثمّ أعرض محمود المسعدي عن الفروق الأجناسيّة بين كتبه الثلاثة الموسومة بـ"السدّ" و"حدّث أبو هريرة قال" و"مولد النسيان"، وأكّد اتّحادهـا في النهوض بالوظيفة الرّئيسيّة التي ينهض بها - في تقديره - كلّ أدب حيّ.
وهكذا وسم محمود المسعدي نصّ "حدّث أبو هريرة قال" في مستوى السطح بسمات أخبار الأدب العربي القديم، وأقامه في مستوى العمق على أركان الجنس الروائي، ثمّ نفى انتماءه إلى جنس الخبر، وأعرض عن ذكر صلته بالرواية ليؤكّد أنّ قيمته تكمن في اتّصال محتواه السردي بالرّوح الإنسانيّة. ومن هنا أثـّر في قرّاء ذلك الكتاب وتسبّب في تنشيط آفاق انتظار مختلفة فتنوّعت - من جرّاء ذلك - مشارب مصنّفيه تنوّعا دالاّ على ثراء مستوياته الشكليّة والدلاليّة وتعقّد صلته بمسألة الأجناس الأدبيّة.
والحقّ أنّه لا يتسنّى لنا تقويم المسلك الذي سلكه كتاب "حدّث أبو هريرة قال" بمعزل عن منظومتي الأجناس السردية السائدتين في فترة تأليفه : أي في فترة الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين. فخلال تلك السنوات سلك السرد العربي مسلكين متوازيين تأثّرا بالصّراع بين المقلّدين والمجدّدين. وقد تمثّل المسلك الأوّل في النزوع إلى إحياء التراث السردي العربي وخاصّة منه المقامات والأحاديث الأدبيّة. أمّا المسلك الثاني فقد أبان عن انسياق القصّاصين العرب إلى محاكاة الأجناس الأدبيّة الغربيّة وخاصّة منها القصّة القصيرة والأقصوصة والرواية، وتلوينها بألوان المذاهب الفكريّة التي تلوّن بها الأدب السردي في الغرب. وقد تسارع نسق التيّار الثاني بسبب إفراط النقّاد العرب المحدثين في دعم مساره بالإشارة إلى أنّه لا سبيل إلى رقيّ الأدب العربي الحديث إلاّ بانفتاحه على تلك الأجناس السرديّة الغربيّة التي استحالت ـ حسب قولهم ـ إلى معيار به يقيس الغربيّون درجة ارتقاء أدبهم.
وفي ضوء هذا، يتّضح أنّ كتاب "حدّث أبو هريرة قال" يقع في منطقة متاخمة لتينك المنظومتين السرديتين، إذ أنّ محمود المسعدي أعرض عن تيّار إحياء التراث السردي العربي الشائع في عصره، لأنّ ذلك التيّار يجسّم مظهرا من مظاهر التقليد العقيمة التي ثار عليها ونبذها نبذا. ورغم أنّه اطّلع على فنون السرد في الأدب الغربي ونوّه ببعض أعلامها، فإنّه رفض الانضمام إلى قافلة الأدباء العرب الذين ألّفوا روايات باللغة العربيّة محاكية في اتّجاهاتها الأدبيّة وتقنيّاتها السرديّة للرواية الغربيّة، لأنّ تلك النزعة - أيضا - تمثّل في نظره وجها من وجوه التقليد، ولا تبرز خصوصية الأدب العربي. وقد بلور موقفه من ذينك التيّارين بقوله : "إنّنا لا نزال متشبثين بطريقتين كلتاهما خاطئة فاشلة : إحداهما طريقة الرجعة إلى الوراء والالتجـاء إلى الماضي الجامد اليابس، وثانيتهما طريقة الاندماج في الغير والاكتساء بالمستعار من لباسه والتنفّس بأنفاسه والحياة عالة عليه كحياة طفيليّات النبات. وفي كلتا الحالتين تعطيل للكيان الذّاتي ومنع للحضرة في التاريخ".
إنّ نظرة محمود المسعدي إلى مسالك السرد العربي في عصره قد أثـّرت - حسب رأينا - في تشكيل نصّ "حدّث أبو هريرة قال" على النحو الذي أشرنا إليه، وقادته بعد ذلك إلى نفي انتمائه إلى جنس الخبر الأدبي وجنس الرواية الدخيل على الأدب العربي، لأنّ ذلك قد يحمل القرّاء على ضمّه إلى منظومة من المنظومتين اللتين عبّر عن نفوره منهما.
ولمّا كانت رؤية محمود المسعدي متولّدة من رصده العميق لواقع السرد العربي الحديث، فإنّها نأت به عن التقليد وهدته إلى فتح مسلك إبداعي أصيل، رغم أنّ نزعة توظيف التراث السردي لتأصيل الرواية العربيّة وإظهار قدرة روّادها على تحقيق إضافة نوعيّة إلى أنماط الرواية السائدة في الآداب الأجنبيّة لم تتبلور خلال النصف الأوّل من القرن العشرين. ولولا ضياع مخطوط ذلك الكتاب طوال عدّة سنين لكان له دور حاسم في صرف الرّوائيين العرب عن محاكاة الرواية الغربيّة، وإيقافهم على أهمّية تجذير رواياتهم في محلّيتها منذ فترة الأربعينات، أو توجيههم إلى البحث عن الأساليب الكفيلة بإظهار خصوصيات أدبهم، قبل أن تزلزل هزيمة حزيران كيانهم، وتحملهم على الانشغال بتغيير أساليبهم في الكتابة، وتقنع طائفة منهم بضرورة تأصيل رواياتهم.
وهكذا خلّص محمود المسعدي رواية "حدّث أبو هريرة قال" من قيود التقليد التي كبّلت السرد العربي في عصره، وفتح لها مسلكا إبداعيّا بكرا برهن على أصالتها، وعضد الرؤية العميقة التي أعرب عنها بقوله : "الأصالة هي أن تقيم الدليل على أنّك قادر على إضافة حلقة جديدة قيّمة طريفة لسابق حلقات ثقافتك وحضارتك، وعلى أنّ عبقريّتك أو عبقريّة أمّتك لا تزال قادرة على إنجاب غزالي حديث أو ابن خلدون جديد يفتح فتحا علميّا آخر، أو شعراء محدثين يستنبطون أنغاما شعريّة جديدة كالذين استنبطوا قبلهم الموشّحات ولا يكتفون بنقل طريقة الشعر الحرّ عن الغير".

د. فوزي الزمرلي
تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى