بثينة غمَام - الغائب

" أبي أخاطبك فلما لا تجيبني؟ أبي أنت لا تسمعني، أبي أنت دائم الشرود و الوجوم. أبي لما لا تلعب معي؟ أبي لما أنت متعب دائما؟ أبي لما تعمل كامل أيَام الأسبوع و كامل ساعات اليوم؟ أبي لما تجيب بتركيز مطلق و يقظة تامَة على معظم مكالماتك الهاتفيَة في حين تجيب باقتضاب أو لا تجيب مطلقا على أسئلتي؟ أبي هل ستخرج للعمل لقد عدت منه للتوَ؟ ".
و في النَهاية و أخيرا طفح به الكيل فنطق بالسَؤال الصَاعق الصَادم النَاخر في أعماقه نخر السَوس للخشب: " أبي لما لا تحبَني؟ ".
صعق السَؤال الأب ورجَه رجَا عنيفا أخرجه عن صمته و قطع عليه شروده فسأله في استنكار:
" و كيف لا أحبَك؟ بالطبع أحبَك و لكنَه العمل يا ولدي يستنزف طاقتي و يستحوذ على فكري ".
" أكره عملك يا أبي، أكره هذا الذي يسرقك منَي و يحيلك خيالا لأبي، أكره هذا الذي تعطيه من الوقت و الاهتمام و الحبَ ما لا تعطيني عشره. أبي لما لا تبحث عن عمل آخر؟ ".
فيبتسم الأب ساخرا و يزفر زفرة المتعب و بعدها يجيب في إعياء: " وكيف ذلك؟ هذا عملي الذي أحبَه و لا أجيد غيره. أعدك بأن أحصل على إجازة في أقرب فرصة، إجازة أكون فيها لك وحدك.." و بعدها باسما غامزا زوجته " لك و لأمَك ".
" أنسافر في الإجازة يا أبي؟ أريد الذهاب إلى ذات النزل الذي أقمنا فيه السَنة الماضية. أريد أن نسبح معا في المغطس و أن نلعب معا كرة الطاولة و رمي الجلة و أن تصطحبني إلى المنتزه و إلى كل الفضاءات الترفيهيَة حيث المراجيح و الألعاب و الترفيه و التسلية ". فيبتسم الأب راضيا، يطلب منه أن يقبَله و يعقب " سأصطحبك إلى حيث تشاء " و بعدها يودَعه و ينصرف إلى العمل.
يظل الفتى غابطا، قانعا، فرحا، حالما، جذلا ففي أقرب فرصة سيكون والده له و له وحده. تمضي الأيَام وهو لا يكلَ و لا يملَ ترديد ذات التعاليق و ذات الأسئلة بلهفة و شوق الظمآن المرهق: " أبي متى الإجازة؟ أبي ألم يحن موعد الإجازة بعد؟ أبي ألم تقدَم طلب الإجازة بعد؟ أبي ألم يوافقوا على منحك إجازة بعد؟ أبي هدَدهم بالانقطاع عن العمل إن لم يمنحوك إجازة ".
و لمَا طالت عليه أيَام الانتظار و ألهبه الشوق كفَ عن السَؤال و تخفى شبه يائس خلف إصرار رتيب قاتل و صار لا يردَد من الكلمات يوميَا غير أبي لا تنسى لقد وعدتني و الأب يمنَيه حينا، يتبرَم من إصرار ه الخانق حينا، يغضب من تلميحاته حينا و يتصنع الصَمم حينا آخر و الولد قائم قاعد، نائم صاح لا يتحدَث عن غير الإجازة الموعودة و السَباحة صحبة والده في مياه المسبح العميقة و الفوز على والده في مباراة كرة الطاولة و الإثارة التي سيشعر بها حين يركب مع والده المخيف من الألعاب في المنتزه. أحلام و أحلام تتنامى مع الأيَام يغذيها خياله الخصب، ذكرى إجازة ممتعة رائقة أمضاها سالفا مع والده و شوقه العارم لتذوَق ذات الإحساسات الممتعة من ألفة و قرب و حبَ و لحمة.
أخيرا يحين موعد الإجازة، أخيرا يصير الحلم واقعا و الرَجاء ممكنا و أخيرا سيكون والده له و له وحده بكيانه و قلبه و فكره و لن يقاسمه فيه عمل أو مسؤوليَات. يسافرون إلى النزل الموعود و إلى أرض اللقاء و المحبَة. يمضي صحبة والده أمتع اللحظات، يتسلى بصحبته أحلى تسلية، يلعب معه أفضل اللعب و أكثرها تشويقا و إثارة، يحكيه كل مغامراته و كل أحداث الأيَام التي كان فيها غائبا لا يسمعه و لا يجيبه فيذوب جليد البعد الذي غطى قلبه تدريجيَا و يحسَ دفء الألفة و الحبَ يسري في روحه رويدا رويدا حتى قارب على امتلاك السَعادة الكاملة و ركوب صهوة الحلم و متى شارف على ذلك خرج عليه والده ثالث يوم من أيَام الإجازة مكفهرَ الوجه، مقطب الحاجبين، داكن اللون ليعلمه بأنَه قد تقرَر قطع إجازته و بأنَ عليهم العودة إلى البيت على الفور.
لا يصدَق الخبر." أبي هل تمزح؟ أبي هيَا قل الحقيقة أرجوك، أهي دعابة؟ ". و وجه والده المقطب يجيب عن الأسئلة في صمت ناطق فتحمرَ عيناه و تغرق في دمع يفشل في السيطرة عليه فيسكب كسيل جارف على وجنتيه المحمرَتين و يتساقط حارَا على جسده الرَاجف.
يحاول يائسا إثناء والده عن قراره. " أخبرهم أنَنا بعيدون جدَا عن البيت و ألا مقدرة لنا على العودة. أخبرهم ألا حقَ لهم في قطع إجازتك. أخبرهم بأنَك قد وعدتني ". و لكن التضايق الشديد و الاستياء البالغ البادي على ملامح والده يقضي على البقيَة الباقية من إصراره و من قدرته على المحاولة فيذعن غاضبا، ساخطا، حزينا، ناقما و يشرع في جمع أغراضه.
" أكره عملك. أكره هذا العمل. أكره هذا الذي يسلبك منَي و يغتصب منَي فرحتي و بهجتي و حبَك. أكره هذا العمل. أكرهه. أكرهه. أكرهه ".
يعود إلى البيت حزينا، غاضبا، ينزوي في غرفته، يقاطع الجميع و يعلنها حربا صامتة ولكن لا أحد اهتمَ بحربه. أبوه منذ أقلهم إلى البيت وهو غائب لا يحضر و أمَه، ما بال أمَه مشغولة البال عنه، شاردة العينين، مكدودة الملامح على غير عادتها؟. ما بالها لا تلاحقه بكلمات الترضية و الإفهام و الإقناع كعادتها؟ ما بالها لا تفوَت نشرة من نشرات الأخبار و لا تتلهف لغير رنين هاتفها و لغير مكالمات والده؟.
يحسَ أنَ في الأمر خطبا جللا فيخرج من عزلته و صمته، يفكَ حصاره، ينهي حالة القطيعة التي أعلنها و يسأل أمَه مرتابا: " أمَي ما الأمر؟ لما أنت عميقة الخوف، شديدة الارتباك، كثيرة الجزع؟ أمَي أرجوك ما الخطب؟ ".
تحاول أمَه إخفاء ارتباكها و هلعها و طمأنته بكلمات أرادتها مترابطة فخرجت مشوشة و بصوت أرادته هادئا فانبعث مضطربا و بنظرات أرادتها واثقة و إذا بها متعثرة داخل الدَمع.
" أمَي أرجوك ما الخطب؟ ".
" لاشيء، لاشيء يا ولدي ".
يقرَر أمام إنكارها متابعة نشرة الأخبار فتمنعه فيسترق السَمع في غفلة عنها. تعلن المذيعة بصوت قلق عن تعقب رجال الأمن و الجيش لمجموعات إرهابيَة تتخفى بالجبل و عن حدوث إنفجارات لألغام أصابت رجالا من الأمن و الجيش و عن حدوث وفايات و إصابات بليغة في صفوفهم. فترتجَ أركان نفسه، يقتحم البهو على أمَه و يسألها دامعا، جزعا، مرتعدا: " أمَي هل أبي معهم؟ ". فتحتضنه بشدَة حتى تكاد تعتصره و تتولى دموعها الإجابة بدلا عنها، فيصرخ ضاربا الأرض بقدميه محتجَا : " أمَي دعيني أهاتفه. سأطلب منه العودة إلى البيت فورا. أمَي أنا أحبَه و لا أريد أن أفقده، أمَي أريده أن يعود فورا ". فتحتضنه أمَه بشدَة أكثر، تمسح دمعها و دمعه و تجيبه بصوت عميق وقناعة راسخة: " و من يحمي الوطن العزيز الغالي غيرهم يا ولدي؟ من يردَ عنَا خطر الإرهاب غيرهم يا ولدي؟ ". فتمتص كلماتها ثورة سخطه و إعصار غضبه و تنشئ في قلبه الصَغير احتراما عميقا و إجلالا كبيرا لمهنة والده.


* القصة الفائزة بالجائزة الثانية لمسابقة نادي القصة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى