حمدي محمود - المَلَك

1-

ذات صباح مضطرب في منتصف كانون الثاني يستيقظ شاب عشريني رُغمًا عنه بضعف جسديّ وعقل مشوش، ليجد بردًا قارصًا وشمسًا متوهجة تشعل ضوضاء السكون التي تلازمه.

“إنّ هذا البرد لن يفارقني ما دمت حيًا” ـ لفظ بها ببرود قبل تحرّكه من فراشه، ثمّ قام بإشباع رغبته الحيوانية بوضع قطة خبز في فمه وارتدى ملابسه الثقيلة، رخيصة السعر.. الثمينة جدًا.

ترك منزله ثمّ قابل والدته أمام منزلها، أعطته حُضنًا وثلاث قُبلات متتالية تكفي لملء شعوره الإنساني لمدة من الزمن، ومبلغ من المال وبعض الطّعام البيتيّ المُعلّب كي يعطيه لصاحبه، وتركته بعد مائة وخمسين خطوة بوداع عادي خالي من الأحضان السماوية المقدّسة، قطع طريقه متوجهًا لمنزل المَلَك.

قصد منزلًا متهالكًا غير معلوم لونه، فتح بوّابته وبعد أربعة وثلاثين درجة صعودًا توقف قبالة باب، طرْقَةً فالأخرى وفُتح الباب، استقبلته امرأة في العقد الخامس بوجه شاحب والشعر الأبيض توغّل عبر رأسها كالماء المسكوب على أرض عطشة فلا منه رواها ولا تركها على حالها، فقط بعض الشقوق الأرضية التي تدل على وجوده. أعطاها المال والطعام. وجال بنظره في الأنحاء ليجد على كرسي أخضر تقف ملَكَ بابتسامه سماوية تغمر من حولها غبطة وبهجة نقية، بوجه ناصع البياض وخصل شعر ذهبي لامع، مرتديةً ملابسًا عفا عليها زمانها، ثم بعد عمل “الزعرورة” للمَلَك أخذتها المرأة في حضنها وهبطوا الأربعة والثلاثين درجة بالأكياس المليئة بالطعام، ثم توقفوا لشراء بعض علب سجائر.

* ثلاث علب كليوباترا ـ الشاب محدثًا البائع
* تفضّل ـ أعطاه السجائر ثم خاطب المرأة ـ ربنا يفك سجنه هو اترحل ولا لسه؟
أجابته المرأة بالنفي.

2

أوقفوا توكتوك ورموا بأجسادهم خلال فتحاته، وأبلغته المرأة بوجهتهم “المركز ـ زيارة المساجين ـ”
وبدون أية مقدمات أخذ الرجل، ذو العقد السادس من عمره، بالحديث عن الحكومة وكم هي ظالمة ولا تأتي سوى على “الغلبان”، وأخذ يسبّ الحكومات والطبقة الرأسمالية أو أصحاب المليارات والذين يلعبون كرة القدم ومن يمتلكون النوادي الرياضية ويظهرون على الشاشة الفضية.. والمرأة تعلّق بـ “نعم” و”معك حق”، وأخذ يسرد عن الضباط والكمائن وكم هي مليئة بأولاد الحرام وقليل من أولاد الحلال الذين لا يضربون كبار السن، ولكنهم ينهالون عليهم بالسباب فقط؛ وعلى الشباب بالضرب أولًا ثم يأتي السباب مع الضرب، ويأخذون منهم التكاتك ويتركونهم بكبريائهم المتبعثر قبل دمائهم على الأرض ممزوجًا بترابها، ونظرات أصحاب الأموال والسيارات الفارهة وهم يضحكون ملء شفاهم ونظرات الاحتقار المبعوثة بسرعة البرق تمزّق كلّ ما يرتدية الغلبان من قيم ورثها ولم تُفِده سوى حسرة.

والمرأة قررت تغيير مسار الحديث وإذ بها تستعدّ لتكسر قواعد الرجُل وحديثه عن الحكومات.

وأضافت بعد قولها “نعم، أنت على حق”، أنّنا لا نستطيع العيش بدون الحكومات، هي من تحمينا بكل عيوبها وظلمها وفجرها وتعدّيها على الإنسان والحيوان وكسْر القانون الذي هي بصدد حمايته.
و إذا بالرجل يأخذ نفسا عميقا ويسرع بـ التوكتوك، ويقول “نعم إنكِ على حقّ، لولا الحكومات لكان هنالك شغب، ولقتل الفقراء الأغنياء وسلبوهم ما يملكون”

_ أيوة البلطجية كان خربوا البلد _قالتها المرأة بثقة_

_ لا الغلابة هما اللي هيموّتوا الأغنيا _قالها الرجل بثقة_
وتوقف السائق قبالة المركز، ونظر الشاب إلى المَلَك الصغير الذي بجواره ولا يشعر به رغم وجوده، من شدة صمتهما طوال الطريق، ثم ها هي تلك الأيدي الناعمة الصغيرة تحاول التمسك بأصابعه وتتشبث به، بابتسامتها البريئة حملَها على كتفه لكي يعبروا الطريق إلى المركز.

3

الحرارة مرتفعة، الشمس تتباهى بأشعتها والحكومة تتباهى بكم العربات المصادرة المجمعة أمام المركز، عربات جديدة بدون لوحة أرقام وعربات نصف نقل وبعض العربات الخربة بسبب الحوادث. على ميمنة تلك العربات، قبالة المركز يتوقف حشد من البشر، امرأة تحمل فوق رأسها علبة من الورق المقوّى، رجل يرتدي جلبابًا ويتصبب عرقًا، طفل يبكي ويتمسّك بعباءة والدته، فتى يضحك مع بعض الفتيات، جميع الوجوه من القرى رغم تغير ملابس بعضهم.. لكنهم قرويين، كانوا يحلمون بالمجتمع المثالي الذي تشوّه بسبب نظرتهم للمثالي، إنهم لا يرون حقًا، لا يعلمون.. لا يفقهون سوى ما يريدون.

حسنٌ، اليوم يجني الجميع ثمار أحلامه، ولينعموا “بالمركز” الذي يحوّل أبناءهم إلى مساجين فيه بدلًا من مواطنيه.

بعدما طهتهم أشعة الشمس، فُتحت بوابة خضراء خرج منها اثنان من العساكر، يطالبان الحضور بالهدوء حتى يستطيعان مناداة أسامي المساجين ومن يسمع اسمًا يعرفه يجيب بـ “نعم”، وبدأ أحدهم بقائمة سجن رقم واحد حتى انتهى إلى سجن رقم ثلاثة، وتوقف عن المناداة وأمرهم بالدخول بانتظام، ولا أجمل من النظام في بلادنا، فـتقدّم القطيع غير عابئ بمن يسوقه، غير عابئ بوجهته رغم علمه بها.

بعد الانتهاء من دخول القطيع الأول، قال العسكري بأنّ هذه الزيارة الأولى وبعد خروجهم سوف ينادي على المجموعة الثانية، وكأنه تناسى ما قاله، ولم يستغرق الأمر لحظات ولم يخرج أحد، نادى على الزيارة الثانية، وبدأ بسجن رقم أربعة الذي كان صاحبه فيه ونادى الاسم فأجاب الشاب بـ”نعم” وتحرّك هو والمرأة والمَلَك.
ولكن لا يمكنك المرور بين القطيع ـ فقط بالمرورـ إنك تتلقّى ضربة كتف، ولا مانع من بعض الضرب في الأرجل، وعرقلة من يريد تجاوزك والالتحام بمن هو أمامك ولو كانت امرأة، كل هذا في مسافة سير شاسعة بينك وبين أملك وخلاصك إلى بوابة الوصول ـبوابة الدخول الخضراء ـ مسافة أحد عشر قدمًا، وتنتهي تلك الحرب الأهلية بينه وبين القطيع.. استطاع الدخول، أو كما خيّل له أنه دخل، ولكنه قام بدسّ جسده بين مجموعة أخرى في انتظار خروج القطيع الأول، تلك هي اللحظة الحاسمة، الجميع متلهف وينظر إلى الممر القادم منه وقع أقدام القطيع الأول.

هذا الممر يسمح بمرور جسد ونصف وليس جسدان ملتصقان، مرت لحظات وصار وقع الأقدام أقرب، وخرج قائد القطيع.. وفي تلك اللحظة تقدم القطيع الآخر في مواجهة القطيع الأول، ملحمة جسدية يتناثر فيها العَرَق والسباب والضرب والجذب، مرّت لحظات وانفصل القطيعان عن بعضهما.

4

الممر تفصله أسلاك فوق بعضها بالتوازي إلى ممرين؛ أحدهما للزوار والآخر للمساجين. في منتصف الحاجز السلكي يوجد باب حديدي، لكي يدخل الزوار لوضع الأشياء التي أحضروها معهم ثم يعودوا لممر الزوار مرة أخرى، أمرت المرأةُ الشابَّ بالوقوف أمام الأكياس في ممرّ الزوار حتى دلفت وخرجت مع باقي القطيع الذي انفصل عن قطيعه للحظات، وتوقّفت خلف الشاب وقام أحد العساكر بإغلاق الباب الحديدي بين الزوار والمساجين، حتى خرج المساجين من باب آخر، كل سجين أمام قريبه والأصوات متداخلة، الجميع في نَفَس واحد يسبّ ويعشق ويحمد الرب ويبكي ويتضرع ويتوسل، هذا راضٍ وذاك ناقم وتلك الزوجة لا تضحك وهذا الفتى لا يبكي ولا أحد يبتسم، الجميع يتحدث.. لم تتوقف الأفواه والألسن و جميع الأذان منصتة.
أما المَلَك فأخذت تنظر في الأنحاء، في كل اتجاه بعينيها العسلية البراقة، تبحث عن شخص تعتقد أن ليس له وجود في تلك البقعة من الكون، وكأنها تتساءل لمَ هي هنا؟ وما هذه الضوضاء القاتلة حتى للبعوض؟

لحظات.. وخرج صاحبه وحيّاه، ثم علت وجهه ابتسامة حين وجد ضالته.. ملاكه هبط من السماء وحضر لزيارته، وهنا نظرت المَلَك وابتسمت ابتسامتها الممطرة بالحب لتغسل وجوه المساكين من الحزن، فمالت وتمايل معها الشاب لكي تتعلق تلك الأيدي الصغيرة بالسلك الحاجز تحاول أن تصل لوالدها ولم تستطع بسبب تلك الأسلاك المتشابكة بينهما كخيوط العنكبوت، تحاول اختراقه وضربه دون فائدة والأب يحاول إخراج الإصبع الصغرى له من فتحات السلك دون طائل، لكن بعد عناء شديد تمكّنا من لمس بعضهما، فتشبثت المَلَك بالإصبع تشبّث الغريق، ولكن الأب هو من كان يغرق حزنًا ويبحث عن تلك الأيدي لتنقذه من هذا الجحيم وتعيده لجنة السماوات العلى، أو حتى تطرده من السماء فيهبط على الأرض ولكنها تكون معه عليها، المَلَك.. الهبة الربانية والهدية المختارة له، بعد لحظات من التشبث نزفت يد الأب، ولكنه لم يكترث بدمه وألمه فقد كان هائمًا في تلك اللحظات التي أعادة لقلبه نبضاته ولروحه سكينتها ولجسده عافيته بدون كلمة واحدة ولكن بالكثير من العاطفة والمشاعر الطيبة الصادقة، حتى أمره أحد العساكر بإبعاد يده فترك يد المَلَك، لكنها لم تتوقف عن المحاولة والابتسام وإرسال غيثها للأب العطش لرؤياها، فنضر وجهه وأمتلأ أملًا بعد خسران وحبًّا بعد جفاء، ثم أرسلت له قبلة عبر الهواء فكونت منه مِسْكًا تطيب له الأنفس ونظرات صمت معطرة بالحب النقي غير عابئة بالضوضاء والروائح الكريهة من رذاذ المتكلمين لرائحة عرقهم ورائحة المشاعر النفاذة، ليسوا في مكان للزيارة وإنما لقضاء حاجتهم العاطفية وإفراز مشاعرهم حتى لا تُسجن داخل أجسادهم وتتحول إلى سموم قاتلة، وحزن يؤدي إلى الموت حسرة وشوقًَا. مرت دقيقتان وأعلن الحرّاس انتهاء الزيارة وعودة المساكين – المساجين – إلى حبستهم، فأخذت المَلَك في الابتعاد عن نظر والدها شيئًا فشيئًا، وتوقف الغيث الملائكي عن الهبوط وتلاشى المِسْكُ وعاد الممرّ لحالته الأولى.. ولكنها ما تركت والدها على حالته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى