علاء أبوزيد - مدينة الهواجس.. قصة قصيرة

من بعيد رأيتها تمسك بطفلتيها اقتربت ودخلت قاعة الدرس، ثم عادت بمفردها حكت لى أنها تعيش هنا منذ عشرين عاما، وأنها غادرت الوادى لتستقر فى العريش مع زوجها وأنها تحب هذه المدينة بجنون ولا تتخيل غيرها وطنا إلا أن ملامحها اكتست بالحزن ومسحة من غضب وهى تقول
نحن بحاجة لزيارات لا تنتهى منكم... أين رحلات الجامعات وقوافل المصطافين وزحام التجار؟

أكملت حزينة دون غضب

انقطاع ناس الوداى عنا هو ما تحلم به العصابات السوداء الملثمة.. هم شياطين ولكننا نتحداهم ونقهرهم بممارسة الطقوس الحياتية اليومية دون انقطاع.

لم تمنحنى فرصة للرد وواصلت

أنت مثلا منذ مجئيك لم تغادر مقرك الآمن ...أنا متأكدة من كلامى....هل تذهب معى فى جولة لشوارع وسط المدينة لأكشف لك أن مدينتنا الجميلة ليست بالبؤس الذي يصل اليكم منتفخا بغواية المبالغة ...لا ترد لأنك سترفض...اعترف أنك خائف.

لم أرد لكننى وجدت نفسي أسير جانبها لنغادر معا بوابة المقر الآمن

كان هواء البحر القريب منعشا، وكان الشارع محايدا، وكانت هناك هواجس تمكنت من رأسي تجعلنى أثبت عينى على وجه هذه التى لا أعرفها إلا منذ دقائق لعلى أقرأ فى ملامحها شيئا يساعدنى فى التراجع عن هذه الدعوة البريئة الغامضة.

*******

أشارت بيدها لتاكسي كأنها تعرف سائقه.

انطلق التاكسي وفى مقعده الخلفى السيدة وأنا.

يتوقف التاكسي فى الميدان المزدحم للمدينة تمنحنى السيدة إشارة بأن أتقدم.

كنت أسير بمحاذاتها، وأحيانا كانت تسبقنى بخطوة، وفى كلتا الحالتين كانت لا تتوقف عن الكلام.

ما سمعته من كلامها، أنها سعيدة بهذه الجولة، وما يسعدها أكثر أنها كانت تحلم بأن تعمل مرشدة سياحية تستقبل الوفود الزائرة للمدينة، وتتجول بهم للأماكن المعروفة، ولأطراف المدينة الغارقة فى السحر والفتنة، وتسرب لهم عشقها وولعها وغرامها بكل مايتعلق بالتاريخ والناس، وأنها لن تنقل لهم افراحها وبهجتها وزمنها السعيد فقط، بل ستنقل لهم أيضا أوقات حزنها وألمها وافتقادها للبطل المخلص الذي تحلم به المدينة.

ها هى تصل بى إلى ارتكاز أمنى تبادر بتحيتهم يردون باقتضاب وعيونهم مشغولة بتفحص الغريب الذي هو أنا، ولما وصلنا عند التقاطع الأهم امتلأ الشارع على الجانبين بمجموعة من شباب البائعين والتجار يقفون أمام محلاتهم المهيئة لاستقبال الزبائن، فتبادر بتحيتهم فيردون باقتضاب، وعيونهم مشغولة بتفحص الغريب الذي هو أنا.

فى زحام الشوارع صرخت: قف... توقفت... قالت استدر وانظر ناحيتى... استدرت... قالت ابتسم سألتقط لك صورة... ابتسمت.

مع نهاية الرحلة طلبت منى أن أبتعد قليلا، وأن أبدو مشغولا بتأمل الشوارع لتلتقط صورة جديدة. كنت مطيعا نفذت تعليماتها التقطت الصورة الجديدة وضحكت فضحكت.

عندما سألتها عن مصير هذه الصور

قالت وهى تبدو سارحة بخيالها فى عالم مجهول:

إنها ليست لك. هذه الصور لى أنا سأحتفظ بها ولا تسأنى مرة ثانية عنها.

أشارت لتاكسي يقترب.. توقف التاكسي ركبت هى جوار سائقه وركبت أنا فى المقعد الخلفى، لاحظت أن السائق يتأملنى فى مرأة تتوسط أمامه.. أدرت وجهى باتجاه الشارع متأملا ملامح البيوت، ووجوه الرجال والنساء والأطفال والبنات، لكن فجأة نظرت للمرآة متأملا وجه السائق الذي يتلصص على وجهى خبطت بيدى على جبهتى.. إنه السائق الذي أخذنا من الشارع المحايد أمام المقر الآمن إلى قلب المدينة.

فجأة توقف التاكسي كنا بالقرب من بيوت تطل على البحر هبطت هى أولا.. هبطت وراءها سألتها بتوجس .. إلى أين؟

شدتنى برفق من أصابعى وهى تردد.. مازلت خائفا؟ ....اعترف.

حاولت أن أبدو متماسكا:

لا... ولكن الى أين؟

أشارت على بيت قديم من ثلاث طوابق، ثم استدارت لتمنح ظهرها لريح قادمة من البحر، وفيما كانت ترفع يدها لتلملم شعرها المبعثر على جانبى وجهها قالت:

بيتى فى الطابق الأخير لا أحد هناك أنت ضيفى وشرفتى المطلة على البحر تنتظرك سأحكى لك حكاية زوجى الذي غاب فجأة، وكلما فقدت الأمل فى العثور على أثر يدلنى عليه يتصل بى ليطمئن على أطفاله، ثم ينهى المكاملة قبل أن تنهمر أسئلتى لكى أعرف متى يعود.
قالت وهى تصعد سلالم البيت ذي الطوابق الثلاثة:

لقد اعتدت غيابه، ولم يعد غيابه يشغلنى أو يخيفنى.

وهى تدير المفتاح فى باب شقتها قالت وهى تضحك

هل تعرف أنك تشبهه تماما أو ربما أنت هو ثم أكملت:

ما يهمنى أن تعترف لى أين كنت وما سر الملابس السوداء التى عثرت عليها فى دولاب ملابسك بعد أن اختفيت.

تقدمت خطوة داخل الشقة وقالت بثقة:

ادخل.

دخلت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى