أحمد غانم عبدالجليل - الركض فوق رمال متحركة

طال وقوفه على الشاطئ, يتابع تهادي الزوارق و المراكب الشراعية فوق مياه الخليج الرقراقة, صفق الموج للصخور يطوِح برأسه, المثقلة بطنينٍ رهيب, في شباك تنسجها المرارة من حوله, يردد كلماتها المتحدية, صراخها المستفز في وجهه, بكاء طفلهما, الذي استيقظ مفزوعا من نومه قبل مغادرته للشقة, دون أن يدري مكانا يذهب إليه .. خاف أن يصادف أيا من أصحابه في طريقه, فيرى أخاديد الخذلان المحفورة في وجهه, و قد يسأله باستفزاز ساخر عما سيفعله مع زوجته .. يظن أن الجميع باتوا يعرفون ما حاول تجاهله مرارا, رغم انشغالها في العمل على مدار اليوم تقريبا, و الزيادة المستمرة في راتبها, و أخيرا تعدد سفراتها للخارج بصحبة الشيخ مبارك الذي جعلها بمثابة نائبةً له, وسط همسات و غمزات الموظفين, بل إنه قد عينه في الشركة لأجلها, بعد أن ألغت الشركة التي جاء للبلاد أصلا من أجل العمل فيها التعاقد معه, دون تقديم أية مبررات, تاركةً ذكريات البطالة الطويلة و المشاريع الفاشلة و الوظائف البسيطة غير المستقرة, التي التهمت سنواتا من شبابه, تطل على حياته كشبحٍ مرعب يهدد ما ظفر به أخيرا من أمان, رغم أن مكانته المرموقة في تلك الشركة هي ما حثته على الزواج من ابنة عمه الجميلة, التي لم تحلم بالزواج يوما من سواه, كما أخبرته بعد خطبتهما, و في سحر عينيها يرتسم طيف حبيبته التي شاركته زهو الأحلام لأربع سنوات, كم ود في ذلك الحين أن يعرف أي شيء عن حياتها مع زوجها, الذي تقدم لخطبتها بعد تخرجهما من الكلية مباشرةً, دون أن ينسى فرحتها بالحياة المترفة و المستقبل الآمن الذين لاحا لها في كل بلدٍ تزدهر فيه مشاريع والده, المسؤول الكبير في الحزب و الدولة ..
أوشكت الشمس على المغيب, و كاد المكان يفقر من سواه, كان يجلس و هو يضم ركبتيه بين ذراعيه, فيبدو أشبه بتمثال من التماثيل الرملية التي يصنعها الأطفال على الشطآن, من جيبه يصدر رنين متواصل للهاتف, يحمل غضبها و تهديداتها المجنونة التي سوف ترغمه على تطليقها و في أقصى سرعة, حتى لا يجبَر على العودة خالي الوفاض إلى بيت أهله, بينما يمكنها الآن أن تؤَمن له المبلغ المناسب, الذي سوف يمكنه من بدء مشروعه الخاص, و الذي طالما حدثها عنه ...
هدير الموج يزعق في أذنيه من جديد, و تفاصيل ذلك اليوم البعيد لا تنفك عن ملاحقته منذ جاءه أخوها, مدير أعمالها و أول المتبرئين منها بعد طلاقهما, للاتفاق معه على موعد سفر الولد إلى أمه, بعيدا عن الدمار الذي يجتاح المدينة, دون أن يستثني أحدا, كما استطاعت إقناعه أخيرا عبر الهاتف, خاصةً بعد سماعها بخطر التهجير الذي يتهدد منطقتهم .. دون أن تنسى عرض العمل عليه في أحد منافذ البيع التي تم فتحها بعد الحرب في العاصمة و عدد من المحافظات, و التابعة للشركة التي أسستها بعد زواجها العرفي من ذلك الشيخ الخمسيني, من غير أن يستمر أكثر من عدة أشهر صيفية ...
بعد أن أنهك الصبي النشيج الحار, متوسلا والده البقاء, وقف مذهولا في زاويةٍ من غرفته, يحاول أقناع نفسه بأنه مستغرقٌ في حلم مزعج و سيصحو منه بعد قليل, و يجد ثيابه مرصوصة في خزانته, و لم يخرجها والده و يضعها في حقيبة الملابس الصغيرة, و إن كانت والدته سوف تستبدل كل شيء في حياته و ليس ملابسه فحسب, كما أخبره بنبرةٍ يزلزلها قهر الخذلان, محاولا إثارة حماسته للسفر و الارتماء في أحضانها التي لم يهنأ بدفئها منذ أن تخلت عنه, كشرط وحيد للطلاق ...

عمان - 19 تشرين الثاني 2007

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى