إبراهيم سبتي - قباب الماء

" أحسست أنني وقعت في شرك، وأردت أن أهرب وبذلت جهداً كبيراً في ذلك، لكن الوقت كان قد فات ولم يطاوعني جسدي واستسلمت لرؤية ما سيحدث كما إنه حدث لا يتعلق بي شخصياً "‏ أرنستو ساباتو‏

في الساعة المضيئة الوحيدة من ذلك النهار الداكن، مات الحارس الراقد على لوح خشبي في عرض النهر من الجانب الأيمن المقابل للمدينة... اللوح لا يحمل غير جثة يغطيها دم يابس، جيوب الميت خالية تماماً إلا من ساعة يدوية دون عقارب... وسط الجثة، أسفل البطن تحديداً وشمٌ كبيرٌ، أفعى تفترس طيراً وديعاً. وهناك في الجانب الآخر من النهر وعلى بعد مئة متر تقريباً، وكانت الحشود تودع الأموات من غرقى المركب القابع في قاع النهر.‏
قلت: أتراني اختبئ من الجموع المتسربة أبكي رحلة أبي التي طالت وغاص البيت في ليل طويل، عندما شد رحاله قائلاً: سأعبر الأرض اليابسة واستغيث من نكد الأيام وبخلها، أعمل في بساتين كرومها تمتد إلى أصقاع الدنيا، أبحث عن سيل يغمركم بعدي.. ثم أردف كلمتين ضاعتا تحت مطر دموعه وانطلق صامتاً تحت وابل دموع أمي وهي ترش الماء وراءه.. لم أعد أتذكره.. لا ملامح لـه في مخيلتي، نسيته تماماً.. لكن أمي عندما شعرت بذلك علقت صورته القديمة على حائط غرفتنا الوحيدة.. الحائط الذي علقت عليه كل الأشياء، وقالت لي: هذا أبوك انظر إليه كلما أردت أن تتذكره. خمسة عشر عاماً وأنا انظر إلى تلك الصورة كي لا أنسى وجهه ويظل رسمه في رأسي. المدينة تقف مذعورة، الكل يركض نحو الشط، الحارس الميت تغطيه غيمة من الذباب فيما نهشته الكلاب منتزعة بعض أجزائه.. صرخات وعويل تتصاعد من أحشاء البيوت لتهبط فوق الشوارع المغبرة وتحلق في الفضاء الناعس، ثم لفظت المدينة كل تلك الصرخات فبدت مهجورة تماماً.. على مرمى بصري المتهالك لمحت رجالاً يهرولون تغطي أجسادهم أسمال ضاع لونها واختلط بلون تلك الأجساد اليابسة، يطلقون صيحات مريعة ملوحين بما يحملونه من هراوات وفؤوس، يتقافزون فوق أكوام الخرائب والنفايات، يدورون وسط المدينة هائجين كثيران جائعة تدوس كل شيء في طريقها.. لا أحد يوقفهم، فالناس ذهبوا إلى الشط حيث فجعوا بأبناء لهم غرقوا، بعد أن اكتشفوا بأن حارس الملعب المسكين لم يكن وحده هذا الصباح.. من بعيد كانت المدينة خرائب متناثرة يتصاعد الدخان من بعضها.. أزحت نظري للحظة ورميته إلى الجموع الراكضة نحو الشط.. كانت البقعة التي شهدت بعض الخراب تنتشل آخر أمنياتها وتطلق أحلامها إلى حيث الصمت الثقيل الذي سكنها فاستحالت إلى أنفاس تعبى تتلاحق ببطء.. لم أر مثل هذا من قبل فشعرت أن القلق ينتابني، فأجهشت ببكاء مر وسرت لصق حائط عال أرقب هؤلاء الذين توزعوا حول ساحة المدينة وميدانها ينهبون ويحرقون ويقتلون.. لا شيء في وجوهم غير رعب خفي يجري في أوصالهم أو هكذا قلت لنفسي محاولاً تمزيق رؤاي التي تحوم فوق رأسي المغروس في جوف الخوف.. تقدموا إلى أمام.. إلى حيث البيوت التي ما زالت واقفة يقذفونها بسهام النار، يشعلون ما تبقى منها.. تحرك أحدهم نحوي حاملاً سكيناً صدئة ارتعد لها جسدي المرتجف أصلاً.. قطب حاجبيه وزعق بي فدب فيَّ خدر غريب أحسست بالقرف وأنا انظر إلى ذلك الكائن المتواري خلف أثواب بالية ولحية شعثاء مغبرة تعبق برائحة العفونة.. ألقى علي صيحة مزقت سكون الخوف فلم أعد أملك نفسي، استدرت محاولاً الإفلات، لكن قبضته ارتطمت بعظامي السائبة فجلست بمكاني لا حول لي فبدا كل شيء يترنح أمامي.. قال لي: لا فائدة من الهرب.. المدينة خالية الآن ونحن نقف في وسطها وحدنا، فالناس هناك عند النهر.. يودعون الحارس وبعض الموتى الآخرين.. وأطلق ضحكته الواهنة وضحكوا جميعاً فيما رحت أتمرغ بالتراب تحت سيل ركلاته الموجعة.. أغمضت عيني ولم أفتحهما إلا على هدير صرخات متقطعة آتية من جهة النهر، فتحجرت الدموع في عيني وأنا أتذكر أمي وهي ممددة على فراشها الرث العتيق مسلمة روحها بهدوء يتكسر بعصف نواح النسوة عند رأسها، كانت المدينة تغط في رهبة مروعة وكأنها خلت من أهلها لقرون.. يممت وجهي صوب جدار متآكل وقفت عنده فأنثالت من رأسي زخات من كآبة تعبر الشوارع المقفرة لتذهب وادعة نحو مدن لا أعرفها.. لم تطأها قدماي من قبل.. أبحث عن أبي.. عن ذلك الذي ذهب ليشملنا برزق رغيد، لكني أصرخ متأوهاً.. أرجع.. وأسير أبحث عن مكان ألوذ به من فجيعتي، ولم أستطع مواصلة ترقبي لأن الألم قد بلغ أشده في كل جسدي.. لا أثر لأي كائن يتحرك غير المداخن التي عمت كل المدينة، فتنحيتُ جانباً أرقب حشد الرجال الملثمين المتقدمين نحوي ثانية يتوسطهم ذلك الرجل حاملاً سوطه يركب عربة يجرها حصان مرعب.. قلت سأموت لا محالة.. وقفوا.. ترجل الرجل غاضباً وأركبني عربته تحت أنظار وصمت جماعته الذين بدوا كأعمدة متحجرة.. انطلق الموكب بين أكوام النفايات تحت ظلال البيوت المتآكلة العائمة فوق بحيرات الدم والنتانة.. اخترقنا قلب المدينة الهامد.. قلت سيأخذونني إلى النهر حيث المدينة تقف باكية هناك. التفت إلي كبيرهم وبصق بوجهي بعنف ارتعش لها جسدي المتألم.. اخترقنا كل المدينة فتوارت خلفنا البيوت المحترقة.. قال لي بغضب: ـ أنت رأيت كل شيء.. حدث منذ الصباح.. لا نريد شاهداً.. فرمى بي نحو الأرض وشعرت بأن بضعة أسنان خرجت مع اللعاب والدم.. لكنه أطلق ضحكته الجوفاء وبلسان مرتعش قال:‏
ـ لقد قتلنا حارس الملعب.. أتعرفه.. قتلناه لكي نفتح بوابة الملعب لتبدأ حفلتنا الكبيرة.. سيدخل الناس إلى ساحة الملعب مرغمين.. أنت وحدك الذي كنت هناك.. وأشار بإصبعه نحو المدينة المحترقة.. لم نر غيرك أبدأ.. التفتت إلى جماعته وصرخ.. ارموه في هذا العراء الموحش لتفترسه الضواري فيموت كل شيء معه.. كنت وحدي انظر من بعيد إلى المدينة المهجورة المحاطة بأسلاك شائكة.. قلت في نفسي سيعود الناس إلى المدينة ويرون أنقاضها وسيكون يومهم أطول وحزنهم أفظع.. وسيفكرون جدياً بدخول الملعب وافتراش أرضه بعد فقدانهم لبيوتهم وتبدأ الكارثة التي يعد لها هؤلاء الرجال.. زحفت أجر جسدي المنهك من بين الأسلاك ذات الرؤوس الحادة وشعرت أن بعضها قد انغرز في ساقي، أحاول جاهداً أن أعبرها لكن الجروح بدأت تقذف بدم حار أحسست به وأنا أرتمي على التراب وانهض أترنح.. أتعثر.. من بعيد النيران تتوهج في عيني وزحفت البيوت نحوي، وشعرت بأن ساقي الغارقتين في دمهما بدأتا تخونانني، لكن ثمة شيئاً ما بداخلي يدفعني للوصول.. التفت إلى الوراء، كانت الأسلاك قد توارت.. توارت تماماً وأنا أدخل في الطرقات والأزقة المهجورة الغارقة في النار واللهب.. الأبواب موصدة والبيوت المتناثرة تئن تحت وطأة جروحها، وصلت إلى الشط.. إلى حيث ينظرون إلى الماء الذي كان يحمل كل تلك الأنفاس منذ ساعات، واستطاع الرجال إخراج بعث الجثث التي صفت على الشاطئ بينما قام بعض الأولاد بدفن الحارس في مكان قريب من الضفة.. ووسط صيحات الفزع اخترقت صرخة مدوية لرجل غاضب...‏
ـ اللعنة على الجرذان آكلة الزوارق!!‏
كان ميدان المدينة يضج بحركة صاخبة فتجمع الناس على جوانب الساحة الوسطى.. تراكض الرجال الغاضبون رافعين سكاكينهم إلى الأعلى وهم يلوحون بها حول الحشود الواقفة.. تطاول عنقي من بين أكتاف وأجساد ملتصقة ببعضها فرأيت جثثاً ممدة على الإسفلت تحملق فيها العيون المكتوية بنار الدمع والألم.. وفي مكان قريب تجمع بعض الرجال حول جثة أخرى.. أحسست برعشة تجري في أوصالي وأنا أرى صاحب السكين الصدئة الذي انهمر عليَّ ضرباً بقبضته الصلدة وهو ممدد على الإسفلت وسط بركة من الدم.. أطلقت ساقي مبتعداً عن الحشود ووقفت أمام بيتنا الموصد علي أشم رائحة بخور قادمة عبر شقوق بابه المتهريء .. البخور الذي تشعله أمي كل غروب وتطلب من كل ولي وشفيع أن يحفظ أبي.. رغم أن ذلك البخور لم يشعله أحد بعد أمي أبداً.. تقدمت نحو الباب... لكني ارتطمت بشيء مثل حجارة نائمة عند عتبته، انحنيت عليها، كانت جثة لرجل يختفي تحت ثياب نظيفة تغطي وجهه لحية بيضاء، خفت ورجعت إلى الوراء، فانتفضت عابراً الجثة.. صاح أحد المارة.. هذا الرجل مات منذ ساعة وهو يدق هذا الباب! طعنوه بسكين وهربوا قبل أن يلقوا حتفهم أيضاً.. طرقت الباب.. لا أحد يفتح.. الدار فارغة إلا من آهات ودموع أمي التي ذهبت معها.. استدرت نحو جثمان الرجل وانحنيت عليه فسقطت أذرعي على جسده الممدد وأنا أتذكر صورة أبي المعلقة في الغرفة.. وأتذكر ذلك الرجل الذي غادرنا تحت وابل دموع أمي عندما قال لها.. هذه رحلتي وحدي.. وانطلق حاملاً صرة بالية كهارب تطارده النيران..‏
استجمعت ما تبقى لي من قوة لا طرق بها ذلك الباب.. لكن لا جدوى.. لا أحد البتة.. أمسكت بيد الرجل الميت وسقطت مني دمعة وأنا استرجع كل أدعية أمي وبكاءاتها كل غروب على أبي الذي عاد ولكن.. ميتاً..‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى