تحسين كرمياني - لا احد ينجو من الكارثة..

منذ اربعة اشهر ، لم يبارح المنزل ، ولم تسعفه جهود زوجته ، ظل غارقاً في صمته ، يسحق اعقاب السجائر حيثما تهبط أنامله، أستحضرت اقصى درجات الكيد، كي تحطم القيود وتنتزعه من عزلته ، وفشلت لمرات ان تلين عريكته لازاحة من على وجهه هذا الشعر البرونزي المتصالب ، وكلما تلتجأ الى أحد اصدقائه ، تجده غائباً لاوجود له ، فتعود خائبة ، لتغرق في جو خانق ، بعد سنوات من الضوء والهناء، منزل صار مثار حسد لكثر الخير الهابط عليه ، هاهي الضرائب تدهمه ، جاءت خلاف التوقعات ، لتقصيم ظهر سرورها ، لا بل سلبت ارادتها واستنزفت جمالها ، لكم حاولت ان ترسم الطريق ، مهما تكون المستحقات ، والتضحيات ، كي تلتمس النبع لتلقي بجسدها وتوقف امواج السأم الكاسحة ، لم يخطر ببالها فيما مضى بأن الايام عصيبة حين تنقلب ، تسلب محاسن الاشياء وتهمل ترسبات الفوضى ، عالم متوحش ، لامجال فيه لموازنة الامور ، اين ذهبوا..؟ ظل هذا السؤال يشغلها ، اين انزاحت تراكمات الغبار الخانق ..؟ اين ذابوا …؟
كل شيء حين يحترق يخلق رماده ، الاّهم .. انماثوا في العدم .. مثل الملح في الماء ..لكن الماء حين يتبخر .. يعود الملح .. الاهم .. اين هم .. لاأحد تلتجأ اليه ، فمن ينقذها من هذا الموت البطيء .. من يعد لها زهوها .. فقط خروجه من صمته، هو الدواء .. انها تستوعب ما جرى .. وما يجري .. فالانتهاكات تتواصل ، والمستحقات تهضم ، فهو مثلهم . ربما اقلهم شأناً ، لم اختفوا واين ..؟ لم هو انزوى متسربلاً بهذا الغموض ويقبع في زنزانة صبرها ، ودت لو انتهج نهجهم لمضت معه الى حيث مضوا .. ما قيمة هذا العالم، كله هراء وضحك على البعض، كلما تنفرد ، تهبط الى ذاكراتها سنواتها الخصيبة ، كانت تراقب العيون منبهرة ، مثل مطر نيسان ، تنهمر عليه ايات الاعجاب ، وتهدر القاعات بالتصفيق ، كان يعتزل اعتزالات عابرة ، فالمهنة تتطلب ذلك ، يلج غرفته سرعان ما يفاجأها اينما تكون ، في المطبخ ، او الحمام ، وربما منطرحة على فراشها ، واحياناً يسحبها وهي ترد على الهاتف ، يبشرها بميلاد جديد ، تنسلخ من كينونتها ، تطلب منه ان يغرد ، فيتخيل نفسه في قاعة حاشدة ، وبكل امكانات حنجرته ، يطلق قصيدته ليشنف اسماعها وكانت تشحنه بلازمة اثيرة ، (الله .. الله .. ما اروعها..) فينطلق هو في مجده ، بينما تتخيل هي (المكرمة) لحظة ينثرها فوق رأسها .
اربعة اشهر مضت ، لامكارم تهبط ، فقط هذا الثقل يحاول ان يخنقها ويسلبها عقلها ، المرأة تحتمل كل كنوز الارض ولاتحتمل لحظة تعاسة ، لكنها صبرت ، لاتعرف من اين جاءها هذا الوهم ، ربما خزين سنوات مجده ، وربما ضياع فرص الامان .
لاتعرف، المهم صبرت ، فهو يشعر بأثم لا غفران له ، تجتاحه دوامات من تأنيب الضمير ، يرى نفسه ، ارعناً ، مهاناً ، يسير في صمت الطرقات ، تنهال عليه وابل فواكه فاسدة ، فيما سبق تهرع اليه الطوابير كي تنعم بمصافحة ، يالقباحة الحياة وسرعة سقوط الانسان ، يهرب الى المتاهات ، يبحث عن مكان ناءٍ كي يتوحد مع النسيان ، فالذي ظلّ عالقاً برقبته ، ليس هناك من يزيحه ، فالخطيئة خالدة ، كيف ينتزع من اذهان الناس ، كل ما كتب في مدح (سيده) ، حياته يشعر بقوة تلوثها ، وتمردها عنه ، فالذي ناله بدأت الاقدام تركله ، وآيات الاعجاب في العيون استحالت الى حراب ، رفض ان يبارح عزلته ، وجد بأنه بلا قدرة لمواجهة الصعاب ، ونخرت دروعه الواقية ، هاهو اعزل مثل فأر فقد صاحبه ، ظلّ يرتعش من قوة الصدمة والمجهول ، رفض ان يخلد ويترك الامور على ماهيتها ، انهال على نفسه وراح يحرق اعصابه وعشرات العلب من السجائر ، شيء يجبره على ذلك ، فهو لم يذق طعم التدخين ، كيف تحول الى هذا العالم اللذيذ ، هذا الصديق الوفي ، لايترك سيجاره تنطفأ حتى يستل واحدة ، تشبه لحد ما تلك القصائد الواقفة على ارصفة ذاكراته ، تتناحر فيما بينها ، كل واحدة تريد الانفلات من سجنها ، لافرق سيجارة بـ (…) سيجارة او قصيدة بـ (….) قصيدة . هاهو يعتزل ليدفن ومضات عبقريته تحت رفوف الحسرات ، ليس بوسعه مهما فعل ان ينجو من هذا الخزين الهائل ، خشى ان يتفتق ذهن ويطلب بضرورة اخضاع امثاله الى اختبارات دقيقة يتم بربط رؤوسهم بجهاز حساس كي يستطلعوا مشارف خيالاتهم ويعرفوا مدى حبهم وتفانيهم لـ(سيدهم) .. يالها من فكرة تخطر وترعب، كل شيء جائز فالعالم تحرك بسرعة ، ونحن (هكذا فكر) ما زلنا نتمسك بعروة الجاهلية ، لساننا هو سبب بلاءنا ، ولكن ماذا لو قال الخالق لرسوله (أعمل) بدلاً من (أقرأ) ربما كنا في حالة اخرى .. (هكذا فكر) ، كان يود ان يطول من عمر (سيده) كي يتخلص من عبء هذا الخزين وينال رضاءه ومكارمه ، هاهو ينزوي هاضماً نفسه ، يتقي سيول كلمات لاعنة ، لانها استلبها من امكنتها الرافضة ، ودجنها من اجل (سيده) في قوافي عابرة ، كان يدرك بأن جلسة مصارحة لن تنسف من بال اصدقاءه مكانته ، ومهما فعل من تنازلات لن تستقبله (الحياة الجديدة) ، ودّ أن يلعن ماضيه وان يكفر عن ذنوبه كي ينعم بشيء من صفاء الروح .
رغم تواجد هكذا فرص ، كانت ارادته ضعيفة ، ليس بوسعه الانسلاخ من هذا الثوب المفضفض ، فالناس بلا رحمة ، ينطقون بما هو خلاف ذواتهم ، وراح يلقي هذه التركة على الرسول الامين لانه لم يبدل الكلمة المرسلة ، تساءل كثيراً ، ماذا لو لم تكن (أقرأ) لما كان لنا ديوان ، لخسرنا الشعر كله ، كان يفكر في عزلته وهو يستحضر ماضيه .
قد يكون ضحية لاحد الغاضبين ، فهناك من يتربص لاصحاب الشأن الرفيع ، لا احد ينجو ، راح القلق يشرقه ويغربه ، والندم ينهش رافضاً ان يذعن لرغبات زوجته ، فهو لايمتلك وجهاً كي يراهم ، رغم هدوءه وبشاشته ، فكلما تدهمه فكرة ان ينتفض ويقتحم هذا العالم الجديد ، يسبقه خجله وضعف ارادته ، ويكتشف بأنه مدان رغم كل شيء فالعيون لا ترحم ، والافواه تصدعت من هول المواقف الماضية عند منتصف الليل ، وجد نفسه متلاحماً مع صمت ساحر ، واشياء وامضة تهطل من السماء ، وجد النجوم تضحك ، ونسمات منعشة تتسلل اليه من النافذة ، ثمة مداعبات ودودة يشعر بها ، عرف بانها مخاضات القصيدة ، منذ اربعة اشهر وهو يطحن برحى خياله هواجسه ، ويميت اغراءات القصائد الضاجة، لفظ حسرة وندم لانه اضاع الحياة واضاع عمره من اجل مكانة غير ثابتة، مدح تلك الصفوة الباسلة الذين اختاروا المنافي والجوع ورفضوا خلاف ماهو اختار ـ المال الرخيص ـ كانوا انبياء في توقعاتهم ، هو سقط وهم افلحوا، دارت الاشياء ووجد نفسه منجرفاً، صوب رصيف ذاكرته وانهال بلا رحمة على الحشود ضرباً بقلمه كان قرب النافذة، لحظة اكتشف زوجته واقفة ، ارتبكت للحظة قبل ان تبتسم ، عرفت كل شيء، فهي تعرف كال سكناته وتعرف متى يكون في اوج مسراته ، تأوهت ، وراحت تودع قمامات السأم وهي تتلاشى من كيانتها اخيراً رأته يخرج كما كان يفعل من قبل لحظات الميلاد ، تقدمت غير مصدقة عانقته ، لاول وهلة تشعر بانه يمتلك هذا الدفء الصارخ ، ارادت ان يحضنها وينقلها الى الفراش كما كان يفعل من قبل ، لكم رغب هو في ذلك لكنها انتبهت لنفسها ،
همست في اذنه : ـ
لدينا ضيوف .. ! !
ـ من ..
ظل في دوامة حيرة ، من هم القادمون في هذا الوقت رسى ذهنه على الغاضبين ، ربما جاءوا ليصفوا حساباته معهم ، انتشلته زوجته لحظة عادت .
وبرفقتها أمرأة هرمة معصوبة الرأس تخفي عينيها وراء نظارة طبية ، واخرى نحيفة تبدو قلقة ، تقدمت المرأة الضخمة واقتعدت كرسيه قرب النافذة ، وقف حائراً ينظر الى زوجته ، كان يطلب العون ، ربما فكر بحراجة الموقف ، فهو لا علاقة له بالنساء ، تعرفه وتعرف حدود اخلاقه ، امرأتان غريبتان ، وسط هذا الليل البهيم ما ان فتحت الزوجة الباب حتى اندفعتا الى الداخل ، اشارت النحيفة اليها بايماءة من رأسها ، فخرجت واطرقت الباب بهدوء ، ظل واقفاً ناحتاً بصره في هذه المرآة الصامتة العنيدة ، راحت تقلب الاوراق ومضت تتلصص على ما دون في هذا الليل الهادئ ، كان يشهق ويزفر وهو يراقب تلك اليدين المتصالبتين ونظراتها البارقة من وراء زجاج النظاره ، حاول ان يفعل شيئاً ، حاول ان يستطلع امرهما ، لكنه تخاذل وهو يرتعد امام هذه المفاجأة ، بدأت لحظات الصفاء تبارحه وبدأت اوصاله تستعيد تراكمات السأم والوهن ، ما الذي يشله ، لم يحصل ان اختلى بنساء سوى زوجته ، ولم يتخاذل في يوم ما ، في كل القاعات كانت النساء هن اغلبية الحضور ، قرر ان يدنو وان يسحب اوراقه ويدخل في صلب الموضوع ، اراد ان يعتذر لها لانه تسرع الامور وخرج من طوره انسجاماً مع (المرحلة الجديدة) ، وانه قال كل شيء بحق ماضيه في هذه الاوراق ، واراد ان يعترف بان الشاعر ابن اللاوعي ، ليس مسؤولاً عن كلماته ، هكذا اكتشف نفسه وانهالت عليه الكلمات ، وقرر ان ينقذ زوجته من التذمر ، لذلك استحضر اقسى الكلمات وما رأه ملائماً مع (الوضع الجديد) لاذلال (سيده) ، طالما ضاع في المتاهات والبراري ، اراد ان يبوح لها كل شيء وانه كان يدرك بان الناس لاترحم ان هو خرج من فلك ماضيه ، فالقصيدة اعند من الارادة ، تلبسته بعد اشهر قاسية فتحرر سيل عبقريته وانهال على (سيده) ، لكنه اكتشف نفسه غارقاً في صمته ، ودّ لو تقتحم زوجته ثانية الغرفة وتنقذه من المحنة ، وتوقع بانها خلف الباب تتلصص عليه ، رغم ادراكه بانها واثقة من اخلاقه ، لحظة هب كي يأخذ اوراقه ويعرف سر هذه الزيارة ، شعر بقبضة المرأة النحيفة تحجره في مكانه شهق وكادت روحه ان تطفر ، حاول ان يدنوا ويتشبث بالقدمين فركلتاه واقعى على قفاه ،
واخر ما سمعه : -
ـ مازلتم في كل وادٍ تنبحون .. ! !
قبل ان يتحجر وعيناه تندلقان صوبه لحظة اختار هذه المرة منزله ملاذاً امناً .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى