إبراهيم عطية - أم سيد الجارية

ولما كانت طباع الناس في تغير مستمر وفق طبيعة الحياة ، لا الصُغير يفضل صُغير ولا الكبير يفضل كبير ، وكل شئ له أول له أخر.. هكذا علمتنا الدنيا التي لا أمان لها ، وسبحان المغير الذي لا يتغير .. من ساعة ما عيني وعيت على الحياة شفت خلق يا مه من جميع الأصناف أشي اللي راح للحرب ، وانقطعت أخباره واللي سافر ومفيش حس ولا خبر واللي مات واللي واللي …
وحارتنا شافت من صنوف البشر ما يزيد عن عدد شعر الرأس بملايين المرات ، رغم أنها ( زقة ) من حي يسكنه أغلب خلق الله في الكون من أصحاب الحرف المعروفة في بر مصر المحروسة زي عم فتحي الطرابيشي ورجب المكوجي ، ومحروس العربجي ، وعم شحاته الترزي وفتوح النحاس وعم عطوه أبو راس الجزار ، وعبد السلام الصراماتي ومحروس الطبال ، وسنية العمشة الداية ، وزوبة الدلالة ، وشامية الغجرية ، أسماء وأسماء علقت بذاكرة الطفولة العـنيدة …
لكن كله كوم وملكة الزمام الست الهمام أم لسان ( فرقلة ) سليلة الحسب والنسب في فن الردح المعتبر ( أم سيد الجارية ) التي تخانق دبان وجهها ، وتبقي أمه داعيه عليه اللي يصتبح بخلقتها ولا يستعذ بالله من الشيطان الرجيم في سره …
- " بتقول إيه يا روح أمك .. يا عرة الرجالة .."
- ولا حاجة يا خالة .
بحسب .. داهيه تاخدك وتاخد اللي خلفوك .. يا ريتها كات انبطت عليك يوم ما ولدتك ، يا قله … يوم أمك أسود من قرن الخروب ..
عبارات خرجت من الذاكرة بمجرد رؤيتها ماثلة أمامي ، بقايا امرأة صارعت الزمن حتى أخذ منها صباها الذي كانت تتباهى به بين البنات ، وطلعتها الأخاذة التي كانت تثير رجال ( كفر النحال ) الذين تمنوا خطب ودها ، وتهامسوا متيمين عشقا وهم يرددون …
- يا خسارة الحلو ما يكملش .. !!
لم أكن أتصور للحظة أنها هي بشحمها ولحمها المرأة العجوز الواقفة أمامي بعد أن جاءوا بها إلى القسم ، وقد أغرق الدم جلبابها من رأس المرأة الواقفة بجوارها على أثر ( روسية ) من رأسها التي تشبه المرزبة ، كم من المرات شاهدتها في هذا المنظر أيام كنا نسكن ( حي الحلزونة ) المجاور لوا بور
( عبد العزيز رضوان ) الذي كان يعمل فيه أبي مشرفا على عنابر القطن ، وكنت قد عرفت ( أم سيد الجارية ) أثناء عملها مع نساء الحي داخل الوابور، فارضة عليهن الزعامة ، لا تستطيع واحدة منهن أن تعصي لها كلمة ، ومن يشاورها عقلها بالعصيان ، يكون مصيرها مثل المرأة الواقفة أمامي تختبئ في خزيها ، كما لو كانت هي الجانية لا المجني عليها .. هل حقا مازال هذا الجسد الواهن يتمتع بعنفوان قوته بعد مرور هذه السنوات ..؟!
مرات عديدة كنت أتسلل إلى العنابر مستغلا غفلة أبي وانشغاله مع العمال لأشاهد هذا النموذج الفريد من النساء ، صاحبة الصيت الذائع في أرجاء المدينة وهي تحمل كيس القطن إلى ماكينات الحلج في خفة الرهوان ..
استجدتني المرأة التي تبك رأسها بالدماء ، أن ألقي بهذه المرأة المفترية في السجن وأخلص الناس من شرها ، واستحلفتني مستعطفة ..:
خصيمك النبي يا باشا تخلصنا من هذا الوبا ، دى وليه قادرة وما يقدر عليها إلا ربنا والحكومة ..!
تفحصت تجاعيد الشيخوخة المطلة من الوجه الذي يفيض براءة ، سبحان مغير الأحوال من يصدق أن الوداعة والسكينة استطاعتا إخفاء الفظاظة وغلظة القلب ..؟!
لكن شهادة لله رغم قسوتها على الناس إلا أنها بالنسبة لنا نحن الصغار أُماً تفيضُ حباً وحناناً ، كنا نخشاها في بادئ الأمر وترتعد أبداننا الصغيرة خوفا ، وما جرأني على الاقتراب منها سوي صداقتي لـ ( جمال ) أحد أبنائها الستة حين قابلتنا أثناء عودتنا من المدرسة وطبعت قبلة على وجنتينا ، وأعطتنا عشرة قروش كي نشتري حلوي من الدكان ، منذ هذا اليوم شعرت بعطف شديد نحوها ، حتى توطدت علاقتي بها وأدركت مدي الظلم والافتراء عليها بأقاويل الناس التي لا ترحم أحداً ، والتي تؤكد على أن من يقترب من النار تلسعه .. والنحلة لا تؤذي إلا من يؤذيها ..!!
انتبهت مصغيا لنبراتها الضعيفة المنكسرة ، والمغلفة بالكبرياء ..:
- أنت تصدق يا بيه التخريف اللي بتقوله الوليه ديه .. عمرك شفت بلوه زي كده..؟! اللي يقرب من القطة ما ينوبه إلا خربشتها يا باشا … مش كده ولا إيه ..؟!
فهمت مقصدها محاولا إخفاء ضحكة تملكتني ، هي التي تقتل القتيل وتمشي في جنازته .. هكذا اشتهرت .. وذاع صيتها بين أحياء المدينة ، لا يستطيع أحد أن يأخذ معها حق أو باطل ، ولما ذاع صيتها وعرفت ( الجارية ) بجبروتها وسلاطة لسانها استعان بها ذوي الشأن في قضاء حوائجهم ، وفرض النفوذ ، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل شكلت فريقا من النسوة ، قامت بتدريبهن وتعليمهن الردح على أصله من شخـر وغنج ، اعتمادا على مخارج الحروف من الأنف ، وقاموس من الألفاظ التي أنتجتها القريحة وفقا لمقتضى الحال ، أضف إلى ذلك ( التدريع ) ببعض حركات من الأذرع وإيماءات محملة بتعبيرات جنسية غاية في الفجاجة ، وفرش الملاءة لمن تسول له نفسه الاقتراب من معسكر الشر ، والغريب أن أعضاء مجلس الشعب عن الدائرة كانوا يستعينون بها في تقفيل لجان الانتخاب .. ويأتيها القاصي والداني لاستئجارها لقضاء بعض الخدمات المستعصية ، لأن الردح له أصحابه ، وهو من الفنون التي أنتجتها القريحة المصرية لزوم ما يلزم في المواقف الصعبة وغير الصعبة ، اعتمادا على الصوت العالي والزعيق ، واللي مش عاجبه يورينا عرض قفاه ، وصلي على اللي يشفع فيك في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلبٍ سليم .. وإذا أردت معرفة أصول الردح ، فعليك أن تذهب إلى الأحياء الشعبية في بر مصر ، فسوف تري وتسمع العجب العجاب من مخلوقات الله ، وخليها في سرك اسمع وما تحكيش ..!
سنوات طويلة منذ تركنا – الحلزونة – وانتقلنا إلى أحد الأحياء الحديثة في مدينة الزقازيق .. مؤكد أن المرأة التي تقف أمامي بشحمها ولحمها لا تذكر ملامحي ، أعرفها ولا تعرفني .. هل أقول لها أنني الولد ( عماد ) أبن عزوز أفندي مشرف العنابر في وابور محلج عبد العزيز رضوان باشا سابقا ..؟! هل أسألها عن جمال أبنها .. ماذا فعلت الدنيا معه ..؟!
.. نهرني النسر النحاسي اللامع الواقف على كتفي ، فتراجعت عن الفكرة أمراً إياهما التوجه إلى ( الأمين ) كي يفتح لهما محضرا للإدلاء بأقوالهما ..!
يالها من امرأة أحيت طفولتي التي توارت وراء الرجولة ، والعمل الجاد في البوليس ، أخذني الحنين إلى شارع فاروق ، و الحلزونة بشوارعها الضيقة حيث البيوت القديمة ، وأرض محلج عبد العزيز رضوان المهجورة بعد نقله خارج المدينة .. لن أنسي ما حييت يوم أن صحا الحي على صوات وزعيق وطبل وزغاريد وصاجات إثر خناقة وقعت بين أم سيد وأبنتها ( دلال ) ومحروس الطبال ربيب العوالم ذو النبرات الأنثوية والشعر الطويل على ظهره ، ساعتها فُرشت الملاءة في وسط الشارع كاشفة عن نصفها السفلي دون حياء ، وهاتك يا ردح قذفته بوابل من الكلام .." يا محنوا ، فشر يا عمر يا أخويه يا عرة الرجالة .." وعلى عينك يا تاجر واللي ما يشتري يتفرج ، وسيد الطبال يرد بالطبلة والصاجات هازئا ، حتى انتهت الخناقة التي وقعت بسبب لعب العيال لأن أبن محروس بطح أبن بنت أم سيد ، ولن تبرد النار إلا بعد الشبشبة له أمام الخلق ، ويصبح عبرة لغيرة ممن تسول لهم أنفسهم الوقوف أمام أم سيد الجارية وعيالها وتهان كرامته ، وبالفعل لم تهدأ النار إلا بجرجرة محروس الطبال في الشارع وتجريده من ملابسه ومرغته في التراب ، حتى بكي بكاء النسوان وصار عبرة اعتبر بها الجميع في المنطقة .. يومها قررت أمي ترك المنطقة وطلبت من أبي البحث عن شقة بديلة بعيدا عن ( الحَوّش ) وحفاظا علينا من تعلم مثل هذه الألفاظ ..!
رغم هذا عرفت أم سيد الجارية ببنت البلد ( المجدع ) نصيرة الفقراء والمستضعفين ، ولا تقبل أن يفتري قويا على ضعيفٍ ، وكانت تناصر الصبية الذين يعملون لدى أصحاب المحلات ، وتقف إلى جوارهم في المطالبة بحقوقهم .
بعد أن انتهي ( الأمين ) من استجوابهما وتحرير المحضر الذي تصفحت أوراقه ، وقعت عيناي على اسمها " جميلة حسين عبد الرءوف المصري " حارة عبد المعبود كفر الإشارة .. شلت الصدمة تفكيري للحظات بينما المرأة تهم بالخروج من باب القسم محنية الظهر بفعل الشيخوخة ، قمتُ أطلُ من النافذة ، أرقبُ طيفها البعيد الذي صعد للسماء ، وهاتفٍ يؤكد لي أنه.. يخلق من الشبه أربعـين …!!


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى