حسام الدين مصطفى - أسئلة جسدية.. قصة قصيرة

1

أغلقت سهير عينَيها في بطء، وهي تحاول بضعف ازدراد ريقها من حلقها الذي بدا كصحراء قاحلة، ثم فتحتهما في وهن؛ لتلقي نظرة رجاء وانكسار على وجه أبيها الذي يتطلع إليها بعينين تحملان نظرات خاوية، بليدة.

"ارحمني يابا.. أبوس إيدك".

بأحرف مهتزّة مبحوحة، ألقى لسانها المكبل بالآلام تلك الكلمات؛ لتخرج من شفتيها الصغيرتين خافتة مرتعبة مرهقة، تشاركت ودموع ذلّة وقهر سالت على خديها، في إذابة تلك الصخور الصلدة، في ملامح أبيها.

دب شيء من الحنان في قلب رضا، تحركت به قسمات وجهه الريفي، واهتزت به شفتاه الغليظتان وهما تقولان "سامحيني يا بنتي.. سامحيني".

أنفاس متتابعة وانتفاضات قوية سرت في جسدها الصغير، ثم ارتجافة عنيفة، همدت بعدها حركتها تماماً، وخلت عيناها من بريق الحياة.

تحرك رضا نحوها، وأغلق جفنَيها، بيد خشنة مشققة، ثم استدار من الحجرة خارجاً، إلى حيث تجلس أمها متشحة بالسواد.

لم تكن نبوية تحتاج إلى كلمات تعلمها بمصير ابنتها، فالدمعة التي انحدرت على خد رضا، مارة بين شعيرات ذقنه النامية كانت إجابة وافية، عندها صرخت الأم: "آه يا بنتي".

تحرك رضا نحوها بسرعة، وأغلق فمها بكفّه، وهو يقول: "انت اتجننت.. عاوزه تفضحينا".
ثم تركها وخرج من المنزل بسرعة؛ ليبدأ في تنفيذ الخطة التي دبّراها منذ البداية.
ولكن أية بداية؟!
انطلق هذا السؤال معربداً في عقل نبوية؛ ليطوف بين دموعها التي تسيل كالأنهار، ونحيبها المكتوم، باحثاً عن إجابة شافية.
أهي التي بدأت عندها هذه الأحداث، أم أنها تعود إلى السنوات الأولى لزواجها من رضا؟

تلك السنوات الخضراء التي قضتها معه في قريتها بالقليوبية، تلك السنوات التي شهدت ميلاد طفلتها الأولى سهير، في "خص" بدائي، على الأرض التي كان يزرعها زوجها، بعد أن هاجمتها آلام الوضع وهي تساعده.

تحولت بعدها سهير إلى شغلهما الشاغل، وبدأ رضا يفكر في طريقة أخرى، تدر أرباحاً أكبر، يستطيع أن يدبر منها نفقات زواج طفلته التي لم تبلغ بعد عامها الثاني.
ثم حصل على تلك الوظيفة.. بواب بإحدى العمارات الفاخرة بالهرم، كانت هذه هي الفرصة المنتظرة، أخذ زوجته وطفلته ورحل عن القرية؛ ليقيم في العمارة التي يعمل بها.

تقافزت سنوات العمر تجري مسرعة، وسهير تكبر وتتغير، حتى اقتربت الثمرة الأنثوية من النضوج. كانت تحتاج إلى صديقة، أو صديق، أو أي شخص يمكن أن تتحدث معه، لم تجد أحداً ممن يحيطون بها، يلعب هذا الدور. أشقاؤها صغار لا يفهمون، جيرانها يتعالون عليها، بعد أن رفض والدها أن تعمل خادمة في المنازل لتساعد أمها؛ لأنه كان يضعها في مكانة خاصة، ويعدها لتكون فخره في قريته.

ولكنها تحتاج إلى إجابة، إجابة عن تلك الأسئلة الغامضة، التي بدأت تنمو في مواضع متفرقة من جسدها، وتنذر وتبشر بانتهاء عهد الطفولة، تحتاج إلى مجيب ومرشد في هذا العالم الرقيق الجديد، الذي بدأت تخوضه، تصحبها كلمة "عيب" التي تنطلق من أمها دوماً عند السؤال.

تداعى عقل الأم، إلى تلك اللحظات الرهيبة، وهي تستمع إلى سهير تخبرها بقصة ذلك المجهول الذي أجاب عن أسئلتها الغامضة، تاركاً لها سؤالاً آخر ينمو في رحمها.
وانفجرت الأوضاع في الغرفة البسيطة، وتحولت سهير من فخر أبيها في قريته إلى عاره، الذي يغرق كرامته في الأوحال.

رتّب رضا كل شيء، قرر أن يغسل بسم الفئران العار الذي لحق به أمام قريته، يجب أن تموت سهير، وتدفن في هدوء، ويدفن معها عارها.

حتى موافقة نبوية كانت في الحسبان، وكذلك السيارة التي ستنقل إلى القرية الجثمان، وأكلت سهير الطبخة المحرمة، وانتهت حياتها بين يدي أبيها الذي لم يشعر بقدرته على فعلها، وأمها التي لم تتصور الألم بهذه القسوة.

* * *

2

تحرك الركب الجنائزي في هدوء، متستراً بظلام الليل، متوجهاً إلى مقابر القرية، دون أن يعلم أحد، أن المتوفاة قتيلة سم الفئران، لا كهرباء الكاسيت، كما أخبر أباها طبيب الوحدة الصحية، ذلك الذي لم يكلف نفسه عناء الانتقال لمعاينة الجثة، قبل أن يصدر شهادة الوفاة وتصريح الدفن.

فجأة مزقت أضواء مبهرة ثوب الظلام الأسود، وأحاط رجال الشرطة بالركب الجنائزي.

الذعر الذي أصاب رضا وزوجته وهما يقفان أمام رئيس المباحث دفعهما للاعتراف التفصيلي بسرعة ودون مراوغة، ولم تجد نبويه عبارة أخرى سوى أن تقول: "إحنا قلنا ندفنها ونستر عليها".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى