عبد الكريم المقداد - فحيح الوحشة

قلبي كان يرفرف طربا حين ألمح البهجة تفيض من كل قسمات وجهها ، كنت أسترق النظر إليها وسط زغاريد النسوة ، فأراها تعيش لحظات نشوة ما بعدها نشوة ، أعود بانتباهي إلى الرجال من حولي بحيوية وطاقة جديدة تحملني إلى آفاق مفعمة بالرحيق والحبور والنوارس طالما حلمت بها في نهاية العرس ، وبعد أن بارك المدعوون للعروسين وأهليهما ، غادر الجميع تقريبا ، ولم نمكث ، أمي وأنا وأخواتي ، إلا قليلا حيث باركنا لأنسبائنا الجدد ، وباركوا لنا مشيدين بالنسب وأصل العائلة ، ثم 00 ورغم إلحاحهم علينا بالبقاء توادعنا على أمل اللقاء في اليوم التالي

***

في البيت لم تخف أمي فرحتها ، التي كنت أسترق النظر إلى بعضها ، إذ راحت تشيد بأنسبائنا الجدد وأخلاق العريس و انتبه أحد أصهاري فبادر ممازحا :

- ها نسيتنا من أولها ياعمة

- أستغفر الله يا عمة أنتم الخير والبركة أنتم الأساس

رشفت من كأس الشاي أمامها نصف رشفة وكأنها على عجلة من أمرها :

- هل رأيتن يا بنات ؟
- خير يا أمي
- البنت طلعت بالإكليل ملكة جمال كانت تجنن
- صحيح لكن لم تكن أجمل منا وقت زفافنا ، أم لأنها آخر العنقود ؟

بعد مرح استمر أكثر من ساعة بدأت أخواتي وأزواجهن يستأذنون للمغادرة ، وما هي إلا ساعة حتى بقيت وأمي لوحدنا قالت :

- ماذا نطبخ ( صباحية ) للعروس غدا ؟
- أي شيء تريدين يا أمي وأنا جاهز
- أي شيء ؟
- أي شيء
- أريد دجاج وملوخية وكوسا ولحم مفروم )
- بسيطة ، سأذهب الآن وأحضر لك كل ما طلبت
- الله يرضى عليك يا ابني ويفتحها بوجهك دنيا وآخرة

قبلت رأسها ومضيت

***

حين أفقت صباحا كانت الساعة تقارب الثامنة ، بحثت عن أمي فوجدتها في المطبخ :

- صباح الخير يا أمي
- صباح الخيرات يا حبيبي
- ما هذا، ماذا تفعلين يا أمي ؟
- أعددت كل شيء 00 دقائق فقط ويكون جاهزا
- أصلحك الله يا أمي ، لم لم توقظيني لأساعدك
- أردتك ترتاح يا ابني و الشغلة شغلة حريم
- طيب، اتصلي باحدى أخواتي على الأقل
- يا ولدي كل واحدة من أخواتك مشغولة بأولادها وزوجها الله يعينهن ، على كل حال انتهيت من الطبخ كما ترى وما عليك إلا أن تجهز نفسك كي نذهب

***

بعد عودتنا حدثتني أنها ارتاحت الآن بعدما اطمأنت على كل البنات ، وتشعر بالسعادة لولا أمر واحد فقط

- خير يا أمي قولي وأنا أحققه لك إن شاء الله
- أنت يا ولدي
- أنا ؟!
- هل ستبقى بوظيفتك في الشام فلا أراك إلا آخر الأسبوع لم يعد في البيت غيري كما ترى و

ضممتها إلى صدري بشدة اغرورقت عيناي ولم استطع زجرهما :

- لم يفتني ذلك ، صدقيني يا أمي ، لقد كلفت واسطتين لنقلي إلى هنا منذ خطبت أختي الصغرى لقد وعداني خيرا خلال أيام
- بسيطة الأيام تمر يا ولدي لكن لا تنسى
- ماذا؟
- ما عادت لك حجة في عدم الزواج البنات فتح الله عليهن ، والمال ليس هما أحلم أن أرى أولادك قبل أن
- أطال الله عمرك ، سترينهم إن شاء الله ، فكرت في ذلك يا أمي صدقيني ، لكن كل ذلك مرهون بانتقال عملي إلى هنا وهو قريب
- خير يا ولدي لا تتهاون مع الواسطة عجل بالأمر

***

حين ودعتها مساء شعرت أن قلبي يتمزق كتمت دموعي بقوة عجيبة حتى لا تراني ، وما إن ركبت الباص حتى انزويت في المقعد الأخير ، وتركت الحرية لعيني فانبجستا دما

***

حفيت قدماي في الشام من الركض خلف الواسطات ، الوعود نشفت دمي والروتبن أزهق أعصابي في الليل أتذكرها وحيدة فيكاد رأسي ينفجر أتقلب في فراشي فأحس بالشوك يخز كل جوانبي لا أنام إلا بعد أن يسكن الإعياء كل مساماتي آخر الأسبوع لا يأتي إلا بعد شهر !

ثلاثة أسابيع مرت وأنا أمنيها بقرب موعد نقلي، كلما زرتها أخر الأسبوع أواسيها وأشحذ همتها أحفزها على أن تبحث لي عن العروس المناسبة فتطير فرحا ، لكن ما إن أودعها مساء اليوم التالي حتى أرى فرحها قد تيبس وتساقط

***

في الأسبوع السابع نجحت الواسطة تسلمت أمر النقل فلم تسعني الدنيا ، ولما كان الأمر حدث وسط الأسبوع عزمت على شد رحالي إلى العجوز لتكون أروع مفاجأة ، اشتريت لها ثوبا ، وبعض الحلويات ، وقبل شروق الشمس توكلت

***

ما إن وصلت الساعة الثامنة صباحا حتى كنت أدق الباب على الوالدة، أعرف أنها تصحو مبكرة ، لكن هل يعقل أن تكون ذهبت لتشتري الخبز لا أولاد أخواتي يتكفلون بذلك كما أعلم

دققت الباب للمرة الرابعة دون نتيجة جربت أدخل فإذا الباب غير مقفل دخلت :

- صباح الخير يا أم محمود أين أنت ؟

وضعت الحلويات والثوب في الصالة ، ورحت أبحث عنها :

- وقعت المعجزة يا أم محمود لن أتركك بعد اليوم أمي

فتشت في المطبخ ، في الصالة ، في غرفة الضيوف لا أحد هل يعقل أنها مازالت نائمة !

- أمي يا أم محمود

دفعت باب غرفة نومها ، وإذ بها متكئة على الوسائد ، وبيدها ومن حولها تناثرت ألبومات صور أخواتي وأبنائهن كانت مستغرقة تماما

- صباح الخير يا أمي لقد فتشت البيت كله وملأته صياحا فلم لا تردين ؟!
-
-أمي !

اقتربت منها حركت يدها سقطت كلها دفعة واحدة !

-أمي أمي !

هززتها طبطبت على وجهها

-

احتضنت وجهها البارد ، وجسدها المطفأ ، ورحت أبكي وأصرخ كرضيع بحث عن أمه طويلا ولم يجدها

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى