محمود عبد الوهاب - شقتنا.. قصة قصيرة

رأيت نفسى فى شقة جدتى التى آلت إلى بعد وفاة أفراد الأسرة تباعا، والتى قمت بتأجيرها لعدة أعوام قبل أن أتمكن من التخلص منها بالبيع.
كان وجودى غريبا، فالشقة أولا فى حوزة المشترى، ثم إنها خالية من أى شىء يمكن أن يعين على المعيشة، كسخان المياه الذى أخذته معى قبل الرحيل، وحوض المطبخ الايطالى الذى قمت بخلعه أيضا، وبالطبع دواليب المطبخ نفسه.
لقد ولدت وتربيت فى هذه الشقة، فمنذ ما يزيد على خمسين عاما أضافونى إلى سجلات المواليد الذين تزخر بهم الحياة، وكانت جدتى هى ربة العائلة الكبيرة، التى حوت خالاتى وأمى.
انتقل أبى إلى الاسكندرية للعمل وانتقلت معه أمى، وكثيرا ما واجها صعوبات فى العناية بى كطفل نظرا لواجبات العمل، فكانت أمى تأتى بى إلى القاهرة وتتركنى فى رعاية جدتى المحبة.
لم أشعر يوما بأنه بيت غريب، أو أننى مجرد ضيف مرحب به، بل إننى صاحب البيت المدلل، تفننت خالاتى فى العناية بى وتدليلى، فهذه تقوم بشئون الاستحمام، تسخن المياه على وابور الجاز بداخل الحمام فى حلة متوسطة، وتضع حلة أكبر حجما منها داخل البانيو تحت الحنفية، لكى تقوم بعد ذلك بخلط المياه الساخنة بالباردة، فتحصل على مياه بدرجة حرارة متوسطة، وتقوم بعدها بدعك جسدى الصغير بليفة خشنة، ولا أكف أنا عن التذمر من قوة الدعك، ثم تكون المكافأة فى النهاية والحمام ملىء بالبخار، أن تصب الماء الساخن الباقى فى الحلة كله على جسدى فأتمتع به.
كانت هذه طنط توحة، أما جدتى فكانت تتفنن فى الطبيخ الصابح كل يوم، لم تكن لدى أسرتى ثلاجة، فكانت جدتى تضع بواقى الأكل مع مغرب كل يوم فى البلكونة البحرية فى حلل أصغر تتناسب مع الكميات المتبقية، تضعهم بجوار القلتين المغطيتين بغطاءين من البلاستيك، أحدهما أحمر والثانى أزرق.
أكثر من ثلاثين عاما مرت منذ أن شممت روائح المطبخ لآخر مرة من يد جدتى، فلقد ماتت عام 1982 فى المطبخ نفسه، نزلت تشترى لوازم البيت وهى فى الثمانين ربما، وصعدت لتطبخ ثم نادت على خالتى توحة من المطبخ حيث وقعت على الأرض وأسلمت الروح.
كان لديها مطحنة بن، وكان خالى يحب القهوة، فكانت تشترى البن الخام وتطحنه، وأساعدها كثيرا بلا تذمر، وبالطبع لم يكن مسموحا لى بشرب القهوة، أما الملوخية فكانت أكلتى المفضلة، وأكلة أمى المفضلة أيضا، تعودت أن أضع العيش الناشف أولا فى الطبق، ثم أضع عليه الملوخية، وأنتظر قليلا، ثم أضع الأرز، وفوقه الصلصة أو كما كنا نسميها “الدمعة” وفى وسط الطبق قطعة أو قطعتين من اللحم الأحمر.
تم عقد قران أبى وأمى فى هذه الشقة، وكم حوت من الناس فى الأعياد والمناسبات، لكن بمرور الزمن مات الناس واحدا بعد الآخر، مات الرجال أولا، خالى وأبى ثم أزواج خالاتى، ثم بدأت خالاتى أيضا فى الرحيل والانزواء خلف هذا الساتر اللامرئى الذى يختلف الناس فى تسميته، فبينما يسميه المؤمنون البرزخ يسميه اللادينيون العدم، فى الحالتين هو اختفاء، لكنه مؤقت هنا ودائم هناك.
ظلت توحة بعد وفاة جدتى مواظبة على اقامة الولائم فى المناسبات الكبرى وأحيانا بدونها، فهى تدعو ابن خالتى للغداء فتتعدد أصناف الطعام إلى حد أن نظل نأكل منه أسبوعا من غير أن يفقد طعمه الجميل.
ثم مرضت توحة فترة طويلة، وأقامت فى البيت ثم فى المستشفى، إلى أن ماتت منذ سنوات قليلة، وكنت أثناء اقامتها فى المستشفى قد قمت بتأجير الشقة لكى نتعاون –نحن أفراد الأسرة المتبقيين- فى دفع التكاليف الباهظة والآخذه فى الارتفاع.
أخذت أنتقى المستأجرين، فمرة يحضر لى شاب أفريقى ومعه فتاة يقول انها أخته، فأرفضه، ومرة يحضر لى أحد السماسرة امرأة أردنية تقول انها ترغب فى تأجير الشقة اليوم لكى يتمكن أخوها القادم من الخارج صباح الغد من الاقامة فيها فورا، وانها ترغب فى أن تدفع المطلوب حالا لكى تبدأ فى تنظيف الشقة منذ المساء. لم أصدقها، أخبرتنى غريزتى بأنها كاذبة تماما، فهى قد بدأت فى البداية الكلام باللهجة المصرية التى تتقنها، لكن على الرغم من ذلك استطعت بعد دقيقتين على الأكثر سماع اللكنة الغريبة، فى حرف أو فى جزء من حرف، وأدركت أنها ليست مصرية، ولمحت هى بذكائها مابان على وجهى، فأخبرتنى بأنه أردنية تقيم بالقاهرة منذ سنوات بعيدة، ولم يستطع أى شىء قالته بعد ذلك أن يجعلنى أصدقها وأوافق على تأجير الشقة لها.
اعتذرت بعذر بدا واهيا، ولم أهتم برد فعلها على الاطلاق، وبدأت أشعر بأن هذا الشقة ابنتى من دم ولحم، وطال انتظارى إلى أن حصلت على الزبون المناسب، شاب هندى متزوج حديثا ويعمل فى إحدى مصانع الصابون والشامبو بالمدن الصناعية، لم يكن عرضه أفضل عرض، ومع ذلك كان شعورى بالراحة عظيما وأنا أزوره من وقت لآخر عندما يعزمنى على الغداء، فى المناسبات أو عند حضور أبيه وأمه من الهند، أو حماه وحماته.
انقضت ثلاث سنوات منذ توقيعنا معا لأول عقد ايجار، ماتت خلالهم خالتى، وكان الشارع قد تغير تدريجيا على مدى السنين التى عشتها، لكنه أخذ المنحنى الحاد فى التغيير من بعد الثورة.
فى طفولتى كان هناك “عم عبود” الفكهانى، الذى يغسل الشارع أمامه مرتين فى اليوم بالخرطوم، وعم على الذى علق لافتة محله كما يلى “أبو سمره ملك البيرة” وعم أحمد اللبان الذى غير نشاطه إلى بيع الجرائد وصار يجلس على الناصية، وصرت أنادى عليه بأعلى صوت ليحضر لى الجرائد ويضعها فى السبَت، إلى أن تحاسبه جدتى عندما تنزل إلى السوق.
أما القهوة التى على الرصيف المقابل فكانت دائمة الاذاعة لأغانى أم كلثوم، وكانت أكثر أغنية سمعتها فى حياتى من راديو تلك القهوة “انت عمرى” وكنت دائم اخراج رأسى من “درابزين” البلكونة كأنى أقرب أذنى أكثر بقدر الامكان من راديو القهوة، إلى أن جاء عام كدت أختنق بعد اخراجى لرأسى وعدم استطاعتى ادخالها ثانية.
عانيت فى التسعينيات من التغير الذى حدث فى الشارع، فقد اختفى جيراننا الموظفين، وصرت أمشى فى الشارع صباحا متجها إلى عملى، فلا أجد سواى يرتدى البذلة والكرافت، مشيعا بنظرات التهيب من رواد القهوة، مات الجيران إذن وتغيروا، أتى أصحاب المحلات ليصبحوا الجيران الجدد، وبدأت أنا أشعر بالغربة فى هذا الشارع الذى كان جميلا، إلى أن أتت الثورة فصارت الفاترينات فى الشارع وعلى الرصيف.
صرت متناغما مع وضعى الجديد بانتقالى إلى شقة أخرى مجاورة فى نفس الحى الذى نشأت فيه، محصلا الايجار فى كل شهر من شقة جدتى، غير قادر على مناقشة فكره بيع الشقة، مع أن الفكرة باتت عملية، خاصة بعد وفاة خالتى.
إلى أن ماتت أمى منذ أقل من عامين. هنا وجدت سهولة أكبر فى بيعها، صحيح أننى كنت أناقش الفكرة معها قبل ذلك ولم تكن تعترض، لكن فرقا شاسعا هناك بين اتخاذ القرار وتنفيذه.
أخرجت المستأجر وبعتها، وقل وجودى فى الشارع إلى أقصى حد، لم يعد هناك من أحد أسلم عليه إلا ذلك الفكهانى الجديد نسبيا الذى يضع بضعة أقفاص على الرصيف، وأنا أسلم عليه آخر مرة أدركت أنه لا أحد فى الشارع يعرفنى سواه، وأنى صرت غريبا عن مكان ميلادى، خرجت وأنا أردد لنفسى هذه الكلمة: غريب..غريب.
بالأمس رأيت نفسى داخلها، وقد أجرتها من المشترى الذى بعته اياها، تحججت باحتياجى إلى مخزن أو مكتب، لا أذكر، وأقمت بالداخل، كان الجو باردا، إلا أنى سرعان ما رأيت العفش يعود تدريجيا، وكانت الاضاءة خافتة، لكنى استطعت رؤية الثلاجة وقد عادت إلى مكانها، وكذلك البوتاجاز وسخان الحمام، لم أكن محتاجا إلى النزول لشراء أطعمة فقد كانت الثلاجة مليئة، وكان معى من النقود ما يكفى لشراء أطعمة جديدة، طوال المدة الباقية لى على قيد الحياة


* قاص وروائى مصرى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى