فاطمة العتابي - غثاء أحوى.. قصة قصيرة

حدق المعلم وهو يدخل إلى الصف ناحية الصبي المهجر ذي العشرة أعوام الذي كان يجلس على رحلته المنفردة الواقعة آخر الصف ، والقريبة من النافذة المطلة على باحة المسجد الصغير في المدينة التي نزح إليها مع البقية الباقية من عائلته المنكوبة.
ألقى التحية بابتسامة موجهة إلى الصبية الذين وقفوا وهم يرونه داخلاً، بينما بقي ذلك الصبي سارحاً بفكره نحو عالمٍ مجهولٍ فتح له من نافذة الصف الحوزوي الصغير التي تساقط زجاجها بفعل المعارك التي دارت بين أهالي المدينة الفقيرة التي تقع في الجهة الشمالية من بغداد وقوات الاحتلال، تلك النافذة التي لم يبق من زجاجها سوى كسر حادة علقت بأطرافها كانت تفتح له بوابة الولوج إلى عالمه الذي يحبه، عالمه الذي أخرج منه عنوة، حيث تلك البساتين الرائعة، و الجداول الفتية التي شُقَّت بعصا سحرية فاخضر ماؤها محاكيا الزرع المحيط به، عالم لم يكن يعرفه هؤلاء الصبية الذي يقضون أوقاتهم يلعبون فوق الأرصفة الإسفلتية التي لم تعرف الزرع يوماً.. أو يقضونها يركضون مختبئين في الأزقة ليشاهدوا من هم أكبر منهم سناً وهم يطلقون رصاصهم و قنابلهم على دبابات الاحتلال التي لم تفتأ تدخل إلى المدينة الآمنة فتعثو فيها فساداً فتتعالى أصواتهم الرفيعة بصفارات مشجعة و هوسات تعلموها من أهليهم ، وقد يمرُّ شيخ كبير في ذلك الوقت ويحيي المقاتلين بأهزوجة ورثها عن أبيه الذي كان يشدوا بها في ثورة العشرين قبل أن ينزح من جنوبه العامر بالدفء إلى العاصمة.
رد الصبية بأصواتهم الملأى بالحماسة كأنها صوت واحد، أومأ المعلم إليهم بالجلوس، فجلسوا محدثين أصواتاً تلاشت حالما التفت المعلم نحو السبورة التي لم تمسح جيداً و هو يلتقط من حافتها قطعة إسفنج بالية، ويمررها عليها بسرعة وهو يقول:-
- ماذا أخذنا في الدرس السابق؟.
فارتفعت أصابع الصبية و أصواتهم ( أستاذ.. أستاذ ).
أومأ وهو يبتسم لصبي أسمر ضعيف البنية ، فقال الصبي:-
- درسنا بالأمس سورة الأعلى.
- أحسنت!!.
قال المعلم مشجعاً ، في الوقت الذي مازالت عيناه تدوران في الصف لتستقرا في مكان واحدٍ شغل فكره، ثم أردف وهو يلتفت خلفه و يكتب على اللوحة (سورة الأعلى ):-
-حسناً.. وماذا قلنا في سورة الأعلى؟.
فارتفعت الأصابع و تعالت الأصوات من جديد صائحة ( أستاذ .. أستاذ ).
ابتسم وهو يشير إلى صبي آخر في ناحية من الصف قائلاً:-
- نعم حسين..
نهض الصبي وهو يجر بيديه أطراف قميصه التي ارتفعت قليلاً بنهوضه وقال بتلكؤ خجل:-
- تكلمنا على سبب ابتداء سورة الأعلى بالأمر بالتسبيح باسم الله ( الأعلى ) دون غيره، و تكلمنا على..
و شعر بالإحراج و راح يفرك جبينه ، فابتسم المعلم وعادت تلك الأصوات و الأصابع الصغيرة تعلو مرة أخرى..
لم يكن الصبي المهجَّر معهم في كلِّ هذا ، فقد شغله عالمه الذي كانت تحوم فيه روحه الطائرة متخيلة أصوات الصبية تغريد بلابل بستان جده محلقاً فوق أجنحتها.
نظر إليه المعلم وقال بصوت هادئ وهو يقترب منه:-
- جعفر ماذا تقول أنت؟.
- ها .. أنا؟!.
تلكأ الصبي وهو ينهض متفاجئا بالسؤال، ثم قال:-
-أظنُّ أننا تكلمنا عن الزرع.. و ..
صمت، فقال المعلم مشجعاً:-
- أحسنت.. وبعد؟.
وانتظر منه جواباً، كانت عينا الصبي تدوران بين المعلم وتلامذة الصف الذين التفتوا إليه بكليتهم، لم يشعر أنَّه منهم، فهو لا ينتمي إلى عالمهم الإسفلتي هذا،مازالت قريته وبستان جده الذي قتل فيه أبوه و أعمامه ماثلين في مخيلته.. وهو ضيف ثقيل مرغم على حوزتهم الصيفية الصغيرة بعد أن لجأوا إلى منزل عم أمه السيد الطاعن في السن، و الذي قرر تسجيله في هذه الحوزة الصيفية علَّه يخرج من عالمه و صمته.
لم يتكلم، شعر المعلم بأنَّه انتظر طويلاً فقال :-
- ما به الزرع يا جعفر؟.
- تكلمنا عن الزرع الأحوى..
- أجل..
- و..
صمت مرة أخرى فهو يعرف الزرع أكثر منهم جميعاً، فكم من شتلة غرسها بيده، و كم من ثمرة ذاق باكورة نضجها..
كان الصبية ينظرون إليه بفضول و شفقة.
قال المعلم:-
-حسناً.. سأقرب لك الموضوع، هنالك اسمٌ يطلق على أرض العراق لأنَّ زرعه كثيف..و..
لم يتكلم الصبي، بل أطرق، و ارتفعت أصابع الصبية وأصواتهم ( أستاذ .. أستاذ ) من جديد، لم تكن تشبه أصوات البلابل هذه المرة فقد غدت كأزيز رصاصات اخترقت أذنه بعد أن اخترقت أجساد أبيه و عمومته وصبغت دماؤهم الحشائش الصغيرة التي تحول لونها الأخضر الزاهي إلى لون أشبه بالأسود بفعل ذلك، تذكر ذلك اليوم الذي كان هو فيه قد تسلق إحدى النخلات التي كانت من غرس جده ، وشاهد كلَّ ذلك بعينيه الصغيرتين الخائفتين.
أومأ المعلم إلى الصبية بالصمت، فامتثلوا بسرعة .
قال المعلم من جديد وهو مصمم على إخراجه من عالمه:-
-ألا تقول لي شيئاً عن أرض العراق يا جعفر؟!.
- يسمونه أرض السواد..
قالها بصعوبة وهو مطرق، فقال المعلم مشجعاً:-
- أحسنت .. وبعد؟!.. لماذا؟!.
- لأنَّ لون زرعه أخضَّر مسوَّد..
فقال وهو يضع يديه على الرحلة منحيناً نحوه، و هو يتصور أنَّ الصبي بدأ يخرج من عالمه المخيف:-
-أحسنت…أحسنت..لماذا؟.
كانت شفتا الصبي ترتجفان وقد اعتراهما اصفرار غريب، وهو مازال مطرقاً برأسه، وراحت أصابعه تتحرك بعصبية قرب يدي المعلم الذي قال مشجعاً مرة أخرى :-
- نعم يا جعفر لماذا لون زرع العراق أخضر مسوَّد؟.
شعر أنَّ قطرةً دمعٍ حارة سقطت على ظهر يده قبل أن يقول الصبي بصعوبة:-
- لأنَّه مصبوغ بالدماء..
ثم يسقط على مقعده مجهشاً بالبكاء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى