أفراح سالم - وصلت متأخرا.. قصة قصيرة

تنطلق سيارة الأجرة بأقصى سرعتها لتبتلعها العتمة، بينما كان محمد يجلس بالمقعد الأمامي ويظل شاخص البصر، عله يرى أحدا في الجوار إذ بدا كل شيء غريبا عليه، فليس هناك سوى ذلك الضوء المنبعث من السيارة التي صارت تغوص في الظلام الذي راح يلتهم بدوره النور كمن أضناه الجوع.

وصل محمد أخيرا إلى الحي السكني ونزل من السيارة عند ناصية الشارع الخالي من الناس وكأنما لا حياة فيه، فالساعة كانت تقارب منتصف الليل والسكون يعم في الأرجاء. نظر إلى منزله من بعيد فرأى أنوارا تتخاطف أمامه كالبرق في يوم شديد المطر؛ فشعر بالارتياب وحث الخطى من دون وعي منه أو ادراك لأن همه الوحيد كان الوصول إلى هناك ليرى ما يحدث في الداخل وصار يحدث نفسه متسائلا:

“لماذا يشع النور من البيت في مثل هذه الساعة من الليل؟!”

اقترب قليلا ليسمع بعض الأصوات التي لا يفهم منها شيئا.. وهو يتقدم أكثر تتضح له معالم تلك الأصوات ويتمكن أخيرا من تمييزها. لقد كانت أصوات أطفال يمرحون ويضحكون. دهش لما سمعه وأخرج المفتاح من جيبه وبدلا من أن يفتح الباب وقف لبرهة ينصت إليهم، بينما كانت الأنوار لا تزال تتخاطف أمامه.

فتح الباب بهدوء لتستقبله رائحة زكية وعطر جميل أعادته إلى أيام خلت. تسمر حينئذ في مكانه كأنه لا يعلم ماذا يفعل، أما الحيرة فقد كانت واضحة على أسارير وجهه الحزين. سمع تلك الأصوات من جديد والتي وقعت على مسمعه كأنغام الموسيقى، ولكنه عاد لمناجاة نفسه:

“ما الذي أحيا هذا المنزل بعد موت وسكون طويل؟ أيعقل بأنهم عادوا إلي بعد طول غياب؟ ولكن لماذا أقف هنا بدلا من الترحيب بهم؟!”

دخل وأوصد الباب على مهل ليصغي إلى ذلك الصوت الأنثوي الرخيم وهو يردد أغنية الميلاد. ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة بعدما تملكه هذا الصوت الآسر الذي يدعوه للسير نحوه بكل لهفة وشوق، ولكن كان عليه أن يجتاز رواق المنزل الطويل ليصل إلى تلك الغرفة التي تقع أمامه مباشرة وتصدر منها تلك الأصوات. أخذ يسير غائبا عما يحيط به ومشدوها لرؤية وجه صاحبة هذا الصوت الشجي.. ولكنه كان لا يزال يتساءل:

“من هؤلاء؟ وكيف يدخلون إلى منزلي في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل أيعقل أن يكونوا دخلاء أم هم فعلا عائلتي أنا؟”

يشعر بالريبة ويقف فجأة في وسط الرواق ينظر إلى الغرفة تارة وإلى باب المنزل تارة أخرى ويتحدث بهمس:

“هل أعود أدراجي؟ آه.. يا لهذه الحيرة القاتلة!”

كان المنزل معتما إلا من ذلك النور الخافت الذي يتشعشع من الغرفة. استأنف سيره من جديد وشعر بشيء يرتطم بقدمه. انحنى إلى الأرض ليتلمس ذلك الشيء، فيجد إنها دمية ابنته المفضلة التي لطالما كانت تحملها بين ذراعيها كطفلها الصغير. رفعها وضمها إليه وشعر بخفة ما بعدها خفة في خطواته، ليجد نفسه داخل الغرفة المزينة بمختلف الألوان والشموع في كل مكان والأطفال الثلاثة يمرحون مع والدتهم بتلك الدمى التي افترشوها على الأرض. لم ينتبهوا بعد لوجوده معهم فوقف يطالعهم بكل حب وشوق وقد حرص على الهدوء، لكي يمتع ناظريه أطول مدة ممكنة، وهم يلعبون كما عهدهم. انسحب ووقف في إحدى الزوايا المظلمة في الغرفة يناجي نفسه:

“آه لو تعلمون مدى حنيني وشوقي إليكم..”

ثم نظر إلى الزينة التي تملأ المكان وصار يلوم نفسه:

“يا لغبائي! كيف أحضر إلى هنا من دون أن أجلب معي هدية؟! أيعقل أن أنسى عيد ميلادك، يا ملاك، يا طفلتي الجميلة، وهذا هو عامك الرابع؟ أخبريني ماذا أفعل؟ هل أذهب الآن لأقتني لك هدية؟ ولكن أين سأجد متجرا في هذه الساعة من الليل؟ كلا فأنا أعلم بأن طفلتي الجميلة لن تغضب مني لأنني سأحضر لها غدا أجمل الهدايا على الإطلاق.”

تستمر الأم بالغناء ويردد الأطفال معها بصوت رقيق، فيشعر بالدفء والحنان ويبتسم:

“لقد عاد الدفء أخيرا إلى المنزل بعد أن صار باردا كالثلج.”

يتنفس بعمق ويتابع:

“آه كم أعشق عطرك يا حبيبتي..”

عاد ليحدق بزوجته، وهي تضع الحلوى على المائدة وحاول أن يخاطبها، ولكنه تمالك نفسه وظل ساكنا في الزاوية المعتمة، كي يراهم على سجيتهم، وهو يستمع إلى الطفلة تسأل والدتها بلهفة:

– ماما.. ماما أخبريني متى سيأتي أبي؟ ألم يحن الموعد بعد؟ لقد تأخر كثيرا أو ربما لم تخبريه بأن اليوم هو يوم ميلادي؟

تستمر الأم في الغناء دون أن تعلق على ما قالته الطفلة، بينما يبتسم هو لكل ابتسامة ولكل ضحكة يطلقها أطفاله ويتنهد:

“أنا سعيد لأننا سنكون معا من جديد.”

وبعد ساعة تقريبا انتبه إليهم، وهم يقفون حول المائدة تأهبا لإطفاء الشموع، ولكن لا تزال ملاك تقف بعيدا وهي تبكي وتقول بحزن:

– لن أطفئ الشموع إلا عندما يحضر أبي. هيا اتصلي به يا أمي، هيا أرجوك.

ينظر الأب إلى الدمية التي بيده وإلى دموع ملاك التي حفزته على إظهار نفسه لهم. استجمع قواه وخرج من العتمة ليتجه نحوهم فاتحا ذراعيه وعلامات البهجة والغبطة وحرارة اللقاء تعلو وجهه وخاطب ملاك بصوت ودود:

– ها أنذا يا حبيبتي الصغيرة لقد وصلت.. تعالي إليّ يا طفلتي الجميلة.. تعالي، هلمي إلي لأضمك بين ذراعي.

إلا أن ملاك لم تحرك ساكنا وظلت تبكي في مكانها ويتابع قائلا:

– أعلم أنك غاضبة مني لأنك تعتقدين بأنني تأخرت على عيد ميلادك، ولكنني أقسم لك بأنني كنت هنا طوال الوقت أنظر إليكم من تلك الزاوية ومن شدة العتمة لم تلحظوا وجودي – ويشير بيده إلى هناك ويتابع – ألا ترين كيف هي معتمة؟ هيا يا حبيبتي تعالي لأقبلك قبلة الميلاد، وغدا صباحا سأقتني لك أجمل وأروع الهدايا.

تظل ملاك على حالها ما جعله يشعر بالذنب ويلتفت إلى زوجته وأولاده:

– وأنتم ما حل بكم جميعا؟ هيا أكملوا الاحتفال وأطفئوا الشموع. وأنت أخبريني شيئا، يا غاليتي، فلا يمكن أن تبقى ملاك غاضبة مني.

اتجهت الأم نحو ملاك، حملتها ووضعتها قرب المائدة ثم قاموا بإطفاء الشموع من دون أن ينظروا إليه البتة. دنا منهم ووقف متجهما لهذا المنظر. بعدها سار في أرجاء الغرفة ونظر إلى النافذة المفتوحة يستنشق الهواء بصعوبة، وقد تملكه الحزن. وفي هذه الأثناء أحس بيد تمسك به من الخلف فتبسم قائلا:

– كنت أعلم بأن تجاهلك لي هو مجرد مقلب من مقالبك الكثيرة، يا عزيزتي، لأنك تعلمين بأنني لا أحتمل مجرد فكرة غضبك مني. هيا كلميني أرجوك وأسمعيني صوتك الجميل.

– أفق يا محمد واترك هذه التهيؤات.

– ابتعد عني – فزع وصار يصرخ – أين أنا؟ ما هذا الخراب! أين بيتي الجميل؟ كيف أتيت إلى هنا؟ تكلم أين هم أطفالي وزوجتي؟

– كنت على يقين بأنني سأجدك هنا – ربت الشاب على كتفه وأشار إلى الجدران – هذا هو بيتك بل الأصح إنها بقايا منزلك. فلقد تهدم الدار على إثر انفجار سيارة ملغومة بالقرب منه وراحت عائلتك ضحية فيه. مات الجميع، يا أخي، ونجوت أنت في ذلك اليوم لأنك كنت في العمل ولم تكن في المنزل.

– كلا.. كلا.. – سد محمد أذنيه وهو يصرخ – أنت تكذب، نعم أنت تكذب علي.. لقد كنت معهم الآن وكنا نحتفل بعيد ميلاد ملاك، طفلتي الجميلة، وسيف ومصطفى كانا واقفين هناك قرب المائدة بانتظار اطفاء الشموع. وكان الجميع سعداء إلى أن جئت أنت وخطفتني من بينهم.

– أنا لم أقم بخطفك. هذه هي الحقيقة وعليك تقبلها. أعلم بأنها قاسية عليك ولكنك قوي العزيمة وعليك أن تتعامل مع الأمر بجدية أكبر وصبر. واجه الحقيقة، يا أخي، وكن قويا وعدني على عدم الحضور إلى هنا من جديد. والآن هيا بنا لنعد إلى منزلي لترتاح قليلا وبعدها نتحدث.

أذعن محمد إلى كلام أخيه ويروم الخروج، ولكنه سرعان ما توقف عند سماعه صوت ملاك وهي تنادي عليه:

– بابا.. بابا إلى أين تذهب وتتركنا؟ ابق معنا أرجوك فنحن بحاجة إليك..

بينما لوح بيده لهم مودعا وهو يبكي:

– وداعا يا أحبائي! فأنا أترككم رغما عني..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى