سعيد الأفغاني - خطأ مشهور وصواب مهجور

لعل من أغلى الحكم التي يتناقلها العامة في مجالسهم وأشباههم في بعض الوجوه قولهم: "خطأ مشهور خير من صواب مهجور"، يواجهون به من يتصدى لإصلاح غلط شائع بين الناس في فعل أو قول أو تصرف ما؛ فيبوء المصلح الناصح المتحمس الغيور بالاستنكار والخجل، ويفوز مرتكب الخطأ بنعت الحكمة والتعقل. وأمثّل بأربع كلمات مما يشيع اليوم:

1ـ نشر قبل سنوات الشيخ محمد هاشم رشيد الخطيب رسالة في منكر كان شاع جديداً مدة بدمشق وأنهى جملته بقوله ".. فلا حول ولا قوة إلا بالله." على ما يشيع عادة عند أكثر الناس. فعلق الشيخ محمد الكافي من العلماء المقيمين بالشام وتوفي وكان تونسي الأصل:
"قوله هنا (لا حول ولا قوة إلا بالله) خطأ، والصواب أن يقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون" فقوبل قول الناقد بالاستغراب من الجمهور مع أنه هو الصواب، لكن الشيوع جرى بالخطأ.

2ـ كلما ذكر ذاكر القطر السوري مال لسانه غالباً إلى الخطأ فشدد الياء ولفظها بالألف المقصورة (سوريّا)، فإذا نُبّه إلى الصواب في نطقها بالتخفيف وإبدال التاء بالألف هكذا (سورية) استغربوا قوله.

3ـ كانت وسائل الإعلام في الشام تقول (ميزانية الدولة) أو (ميزانية المؤسسة) بهذين المصطلحين الواضحين العربيين، فغابا هذه الأيام في بعض المناطق العربية، وحل محلها (كادر وكوادر) الفرنسيتان حين كثر في موظفيها خريجو المدارس الأجنبية.

4ـ كانت بعض الصحف تحذّر الكتاب من استعمال كلمة (أخصّائي) بدل (اختصاصي في جراحة القلب مثلاً) أو (في الهندسة).. إلخ لأن معناها شنيع رديء فزادت لوحات المكاتب من هذا الغلط، كأن الدعوة كانت إلى استبدال الأدنى بالذي هو خير، ظناً أنهم يتفاصحون... إلخ ما هنالك.
***
ليست كلمتي اليوم في شيء من هذا، بل في زلة سها فيها رواة قدماء فضلاء حين أثبتوا في تآليفهم لكتب النصوص الأدبية المختارة، أخطاء، نقلها خالف عن سالف، صارت هي التي نأخذ تلاميذنا باستظهارها على خطئها، ونُبه بعضهم إلى خطئها فأخذته العزة بالإثم فافتعل تعليلات صناعية لا أساس صحيحاً لها، ولو اعترف بخطئه وبادر إلى التصحيح كان أفضل، اعترافاً بالحق وحماية للغة من الإفساد.
تلك التي في أكثر طبعات ديوان امرئ القيس، حيث ضَبطتْ مطلعها بالفاء وهو خطأ فاضح:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بِسقط اللوى بين الدخول فحومل



وجمهرة المشتغلين بالأدب حتى اليوم يروونها بالفاء خطأً: (بين الدخول فحومل) التي لقنونا [إياها] في الحداثة كما في أكثر النسخ المطبوعة منذ حياة الشيخين الإمام الشنقيطي والزوزني، أول من عُني بطبع شروح المعلقات فيما أعلم. والظاهر أن ما آمن به الاقتصاديون اليوم، أن (البضاعة الرديئة تطرد من الأسواق البضاعة الجيدة) ليس قاصراً على الاقتصاد، بل تسرب إلى ميادين شتى. ومسألتنا اليوم من أشهرها عند أهل اللغة.
***
معروف عن الأصمعي رحمه الله أنه يتحرى في السماع، ولا يعتمد من الروايات إلا ما خلص عنده من الشوائب، ووثق بضبط راويه وعدالته. وهنا نراه مستمسكاً بعلمه وملكته في العربية؛ فقد ابتدأ أولاً بمحفوظه بشأن (بين)، ما طبيعتها اللغوية؟ ما استعمالاتها المختلفة في كلام العرب؟ فلما لم يظفر بشاهد صحيح عنده عن العرب يشبه ما ورد في رواية الفاء لم يقف عندها قط.
أرجع إلى شروح المعلقات، فأبدأ بشرح المعلقات وأخبار شعرائها للشنقيطي، فقد جاء فيه:
(... وقولـه "بين الدخول فحومل" على رواية الفاء أنكره الأصمعي، لأنه لا يقال هذا بين زيد فعمرو) وقد صحت الرواية (!) بالفاء وإن كانت رواية الواو أشهر.
قال ابن السكيت: إن رواية الفاء على حذف مضاف، والتقدير (بين أهل الدخول فحومل)
وقال خطاب: إنه على اعتبار التعدد حكماً، والتقدير [بين أماكن الدخول فحومل]، وهما موضعان).
والذين نصروا هذا القول اصطادوا له علة (مفتعلة) لا أساس لها، فزعموا أن (الدخول) مواضع عدّة. ولا بأس بالبدء بنظرة الأصمعي في ردّ رواية الفاء:
1ـ المعروف المألوف من كلام العرب أن (بين) تفصل بين شيئين أو أشياء متجاورة، وهذه المتعاطفات في هذه الأبيات الثلاثة بالفاء بالترتيب المذكور أسماء لأعلام أماكن معروفة.
2ـ ومعناها نص على الترتيب المتتابع، والمعطوف بالواو نص على وجود مصحوبها في هذا الموضع فقط.
3ـ والعطف بالواو نص على وجود مصحوبها في هذا الموضع فقط.
فظهر أن رواية الفاء لا تصح إلا على تأويل المفرد بالجمع. وأزيد: أنه لا بد ليصح هذا الاحتمال الضعيف أن يكون بيدنا مصور يبين أماكن المواضع التي إلى يمين (سقط اللوى) وأخرى إلى شماله، وهو ما لا سبيل إليه. ولأذكر كلمة الأصمعي بحروفها:
قال الأصمعي([1]) في كتاب (التصحيف):
"... تكلم الناس في قوله "بين الدَخول وحومل"، ولا يكون (فحومل) لأنك لا تقول (رأيتك بين زيد فعمرو) وهذا سمعه الزيادي من الأصمعي، فسألت ابن دريد عن الرواية فحكى ما قال الأصمعي ولم يزد عليه، فسألت أبا بكر محمد بن علي بن إسماعيل فقلت: قال الأصمعي: لا يجوز أن يقال: (رأيته بين زيد فعمرو) وكان ينكر (بين الدخول فحومل)، فأملى عليَّ الجواب فقال:
"إن لكل حرف من حروف العطف معنى، فالواو تجمع بين الشيئين نحو (قام زيد وعمرو) فجائز أن يكون كلاهما قاما في حال واحدة، وأن يكون قام الأول بعد الثاني، وبالعكس. والفاء إنما هي دالة على أن الثاني بعد الأول، ولا مهلة بينهما، فقال الأصمعي ـ وكان ضعيفاً في النحو ـ، غير أنه كان ذا فطنة... انتهى.

ثم جاء شارح آخر للقصائد العشر (المعلقات) للتبريزي فكان ممن اختار رواية الفاء في مطلع قصيدة امرئ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل
بسقط اللوى بين الدَخول فحومل



ومشى على أذيال من قبله فقال:
اعتراض الأصمعي على رواية الفاء يمكن أن يجاب عليه بأن (الدَخول) هو عدة مواضع، فسقط([2]) اللوى هو هذه المواضع، وبذلك حُلّ الإشكال!! وقد رُدّ هذا الجواب الذي مر آنفاً ولم يحلّ إشكالاً، ثم جاء شارح آخر فلم يزد شيئاً على أنصار رواية الفاء فعلق على هذا الموضع محاولاً ما حاولوا فقال:
"مبنى الاعتراض على شيئين: الأول أن (بين) لا يضاف إلا إلى متعدد، وهذا التعدد إما أن يكون بالتثنية، نحو (جلست بين الرجلين) أو بعطف مفرد على مفرد، بحرف يقتضي مصاحبة أولهما لثانيهما أو ثانيهما لأولهما نحو (جلست بين زيد وعمرو).
الثاني: أن واو العطف قد تقتضي مصاحبة المعطوف للمعطوف عليه وفاء العطف لا تقتضي ذلك.
الجواب عن هذا الاعتراض التأويل في (الدخول) بجعْلِه ... إلخ فبقي الإشكال حيث هو([3]).
***
ولأذكّر بشيء من مكانة الأصمعي وقيمة حفظه وأمانته عند أهل الحديث خاصة، فقد عرف عنه امتناعه عن تفسير ما يتعلق بهما تورعاً فلذلك ضرورة في مثل بحثنا:
سأل أبو قلابة الأصمعي عن كلمة (سَقَب) في قول رسول الله "الجارُ أحق بسقب جاره" فقال: "أنا لا أفسر حديث رسول الله" ولكن العرب تقول: (السقب: اللصيق).
وسئل عن قول النبي e "جاءكم أهل اليمن وهم أبخع نفساً" قال: "يعني أقتل نفساً" ثم أقبل على نفسه كاللائم لها: من أخذني بهذا؟ وما علمي به؟"
وكان يتقى أن يفسر القرآن على طريق أهل اللغة.
وأكثر سماعه عن الأعراب وأهل البادية..([4])
وكان المبردّ يقول: كان الأصمعي أسد الشعر والغريب والمعاني.
أما المحدثون فقد قال التوّزي: كنا عند الأصمعي وعنده قوم قصدوه من خراسان، وأقاموا على بابه، فقال له قائل منهم: "يا أبا سعيد إن خراسان ترجف بعلم البصرة، وعلمك خاصة، وما رأينا أصحّ من علمك".
فقال الأصمعي: لا عذر لي إن لم يصح علمي، دع من لقيت من العلماء والفقهاء والرواة والمحدثين، لقيت من الشعراء الفصحاء (فعدّهم...) ثم قال: وأولاد الفصحاء وما عرف هؤلاء غير الصواب، فمن أين لا يصح علمي؟ وهل يعرفون أحداً له مثل هذه الرواية؟" وكان الأصمعي صدوقاً في الحديث. عنده ابن عون وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وغيرهم، وعنده القراءات عن أبي عمرو ابن العلاء ونافع و و إلخ.
وسئل عنه أبو داود فقال: "صدوق" بل مذهبه أن من روى حديثاً فيه لحنٌ فقد كذب لأن الرسول لم يكن يلحن".
ومن قول الشافعي فيه: "ما رأيت في ذلك العسكر أصدق لهجة من الأصمعي" وما عبَّر أحد عن العرب بأحسن من قتادة والأصمعي."([5])
وأخبر أبو أمية الطرسوسي: سمعت أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يثنيان على الأصمعي في السنّة ويروون قولته المشهورة: "مَنْ روى لحناً في حديث فقد كذب" وليس بعد هذا التوثق والتشدد احتياط. وزكى الأصمعيَّ من المحدثين خاصة أكابر.
ولأختم بمجلس قصير كان في حضرة الرشيد بين الكسائي والأصمعي:
سأل الأصمعي.. إلخ ([6])
***
وبعد، فقد كان هدف هذا البحث الوصول إلى طمأنينة في جزئية ضئيلة:
هل قال امرؤ القيس في مطلع معلقته (بين الدَخول وحومل) أو (بين الدَخول فحومل) كما يرويه خطأ ناشرو الأخطاء والمتسرعون؟


* مقال لغوي كتبه الأستاذ سعيد الأفغاني بخطه قبل رحيله عن الدنيا ولم ينشر، وتنشره مجلة " التراث العربي" للمرّة الأولى.

[1] كذا بخط الأستاذ الأفغاني في مقاله هذا: وهو سهوٌ منه، والصواب "العسكري" وذلك في كتابه "شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف" والنصّ المنقول منه هو في ص 269 (ط المجمع) وقد رجعنا إليه لتقويم النص الذي اختصره الافغاني اختصاراً شديداً- هيئة التحرير.
([2]) شرح أبيات مغني اللبيب للبغدادي ط دمشق 4/ 21.
([3]) أخبار النحويين البصريين ص 59.
([4]) مختصر تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر 15/210 و206 ط1 دار الفكر بدمشق سنة 1988.
([5]) مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر. 15/ 206.
([6]) لم يذكر الأستاذ الأفغاني هذا المجلس وكان على نية ذكره

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى