بوراوي سعيدانة - أبو الفضائل يقدّم استقالته

لم يُحدّثني " أبو الفضائل" بل حدّثني على لسانه " أبو الرّذائل" قال:

ـ لم أجد متّسعا من الوقت لأُقنع أبا الفضائل بالعدول عن تقديم استقالته من المُواطنة العربيّة..

قال لي جادّا:

ـ إلى من أُقدّم استقالتي

أجبته مازحا:

ـ إلى جامعة الدّول العربية طبعا..

أكّد لي أنّه سيُقدّم استقالته على شبر يسلخه من جلدته يكتبها بدمه ويضعها في ظرف بريدي مسجّل ويرسلها إلى الجهات المختصّة بالموضوع أو يُرسلها بواسطة الفاكس أو الانترنت وربّما هذا أفضل..

لم أمار أبا الفضائل في مسعاه بل ألححت في إقناعه بالابتعاد عن مُبتغاه ولمّا يئست منه لجأت إلى المُخادنة والمُخادعة..

قلت له:

ـ ألست من أصدقائك الخُلصاء ؟ لماذا لا تُصارحني بالأسباب والمسبّبات التي دفعتك إلى ارتكاب جُرم لن يغفره لك التّاريخ أبدا ؟


سكت أبو الفضائل وتأكّدت من استقالته من مُواطنته العٌروبيّة والعربيّة تُعدّ خسارة فادحة للأمّة من محيطها إلى خليجها وأوّل الخاسرين أنا صديقه أبو الرّذائل .. فلا رذيلة بدون فضيلة ولا فضيلة بدون رذيلة..

أدبر أبو الفضائل متقوقعا على نفسه منهارا ذابلا متهالكا , يائسا مُتطيّرا .. ولم يقدر على تحرير استقالته لغياب صيغة قانونية شرعيّة أو جهة رسميّة لها حقّ النّظر في مثل هذه المسائل التي لا عهد للجامعة العربيّة بها.


* * *
*


ماذا يعني ـ لا فضّ الله أفواهكم ـ أن يستقيل أبو الفضائل من مُواطنته العربيّة, أيعني هذا أن لا يقوم بواجباته الوطنيّة من أجل وطنه العربيّ الممتدّ شرقا وغربا فيرفض التّجنيد والتّسخير ولا يدفع الضّرائب والأتاوات , ولا يُشارك في التّجمعات والجمعيّات والانتخابات . ولا ينتمي إلى أحزاب وطنه ولا يدرس في مدارسه أو في معاهده أو في جامعاته ولا يذهب إلى مستوصفاته ومستشفياته ولا يُلقّح ضدّ أمراضه ولا يُشاهد برامج تلفزاته ولا يسمع إذاعاته ولا يقرأ جرائده أو مجلاّته أو كتبه ولا يُصلّي في مساجده أو كنائسه أو أديرته أو معابده.ولا يسير في طُرقاته ولا يتسكّع في أنهجه وأزقّته ولا يشرب من مياهه ولا يتنفّس هواءه ولا يأكل زرعه أو نباته أو ثماره ولا يشرب جعته أو خمرته ولا يطأ مومساته ولا يحتفل باحتفالاته الوطنية والدينيّة ولا يُعيد أعياده؟

قال صاحب الاستقالة :

ـ أأخوض مع الخائضين وأهرُج مع المُهرّجين ثمّ أتدبّر أمري..

تساءلت بدوري عن السّبب أو الأسباب التي دعت أبا الفضائل إلى التّفكير في تقديم استقالته من مواطنته العربيّة ولكن ما هي المُواطنة البديلة الّتي سيتحصّل عليها وتساءلت أيضا عمّن سيتكفّل به بعد قبول استقالته ـ لا سمح الله ـ خاصّة وأنّه عربيّ مائة بالمائة؟

قلت : لعلّ أبا الفضائل يئس من وطنه ومُواطنيه فقلّ عدد أصحابه وأترابه وخلاّنه وهُجرت مجالسه وضُربت مفاهيمه فبقي وحيدا مُنزويا عن عامّة النّاس وخاصّتهم فصعُبت عليه الحياة وعسُرت وعوض أن يلجأ إلى الانتحار ـ مثلما يفعل المثقّفون الغربيّون ـ لجأ إلى طلب الاستقالة من مواطنته وعلى الدنيا السّلام ..


* * *
*


واصل أبو الرّذائل حديثه عن أبي الفضائل قال:

حاشا أن لا يحبّ أبو الفضائل وطنه ومواطنيه بدون تخصيص أو تمييز , فعروبته غير مشكوك فيها وشهامته تفوق كلّ الشّهامات وكرمه يفوق كلّ المكرمات وفضله تجاوز كلّ الفضائل.. إلاّ أنّه فقد عنصرا هامّا من عناصر وجوده وبقائه ألا هو الصّبر.. لم يعُد أبو الفضائل ذاك الرّجل الّذي يقدر على الصّبر وعلى تحمّل الأذى والخضوع والخنوع والسّكوت على المنكرات والرّذائل إذ تحوّلت مفاخر العرب من تفاخر بالأمجاد إلى تفاخر بالأفخاذ.. وغدا العرب يترافسون ويتداهسون ويتقاتلون ويقتلون أطفالهم ونساءهم وشُبّانهم ومُخالفيهم في الرّأي ويقولون هذا من فعل الزّنادقة الخارجين عن الدّين والملّة .. وأصبح أشرارهم أخيارا وأخيارهم أشرارا فتداخلت المفاهيم لدى أبي الفضائل ولم يعُد يُميّز بين الأبيض والأسود ..

وأحالني أبو الفضائل إلى فصول كتاب " مزالق المهالك " الّذي تعدّدت فيه المسالك والممالك والمتاعب والمصاعب والمضاجع والمراقد والمؤاجرات والمؤاجرون واللاّعقات واللاّحسون والوُشاة والمُرتشون والانتهازيّون والوصوليّون والنكّادات والنكّادون والّذي كثر فيه تصوير عبدة الأوثان وآلهة الإغريق واليونان وتلوّنت فيه المُفارقات والانقلابات وتضاربت الاتّجاهات..

ذكّر أبو الرّذائل صاحبه أبو الفضائل بالأمن والاستقرار الّذين كان ينعم بهما في موطنه ضاربا له مثل السكّير الّذي يعود من الخمّارات في الهزيع الأخير من اللّيل سالما مُعافى..

قال أبو الفضائل:

ـ أليس هذا دأبكم منذ أن عرفت الخمرة طريقها إليكم بدءا بالصّعاليك مرورا بأبي نوّاس ثمّ من عهد العُثمانيّين إلى الانتداب البريطاني فالحماية الفرنسيّة وصولا إلى عهد الاستقلال انتهاء إلى ما بعد الاستقلال والتغيير ؟

ولكن أيكون آمنا من خالف هذا المسلك؟

قال أبو الرّذائل :

ـ لو وضّحت لي ذلك ؟

قال أبو الفضائل:

ـ لا وضوح في السّياسة ؟


* * *
*


حدّثني أبو النّقائص وبالنّيابة عن زميله أبو الرّذائل قال:

سمعت عن أحد الصّائدين في الماء العكر أنّ أبا الفضائل تعمّد الإساءة إلى موطنه متحدّيا أصوله وشرائعه , إذ أطال لحيته فتجاوزت طول قامته وترك العنان لشعر رأسه فكسا كامل جسده وكذلك شعر العانة والإبطين فتداخل الشّعر بالشّعر ولم يعُد النّاظر إليه قادرا على أن يّميّز بين الشّعر وإلى أيّ الجهات ينتمي ؟

وبذلك تخلّص أبو الفضائل من الإزار والدّثار ومن بطاقة الهُويّة الوطنيّة والقوميّة..

ودخل ذات يوم أحد النّزل الفخمة حاملا معه سطلا من القطران وفرشاة كبيرة وأخذ يُغطّي اللاّفتات الإشهاريّة وأفخاذ السّياح المُنتشرة حول أحواض السّباحة والنّهود المكشوفة الّتي تتدفّأ بأشعّة شمس وطنه الأمر الّذي أفزع السّياح وأربك الحاضرين مُحدثا بلبلة وفوضى في النّزل , فاستنجد صاحب النّزل بأصحاب الأمن الّذين حلقوا كامل شعر أبي الفضائل وشدّوا وثاقه إلى ظهر دابّة عرجاء وطافوا به البلاد نكالة به وبأمثاله..

وعن أبي الشّمائل قال محدّثا في رواية مخالفة لما رواه أبو النّقائص:

يبدو أنّ الرّاوي اختلطت عليه السّبل فلم يعُد يُميّز بين الشّعر والكساء فظنّ أنّ الكساء شعر والشّعر كساء والحال أنّ أبا الفضائل تورّع وتزهّد في عيشه فلم يعُد يرتد من الثّياب إلاّ ما قلّ ثمنُه وخشُن ملبسه فابتعد عن المُجابهات والمُهاترات وقد يكون ترك العنان لشعر اللّحية هذا صحيح أمّا ما دون ذلك فإنّه باطل وزيف ولم يُعرف عن أبي الفضائل ارتياده النّزل الفخمة منها أو الأقل أو اهتمامه بالأفخاذ والنّهود ما ظهر منها وما بطن , وإنّما هناك من رأى الرّجل يتوضّأ في مُتوضّإ المسجد ثمّ دخل إليه لأداء صلاة العصر ومن يومها لم يخرج من المسجد ولم يره النّاس في الشّوارع والأسواق..


* * *
*


حدّثني أبو الفضائل في مستهلّ حديثه عن آداب التّعامل واللّباقة حديثا كان نقله عن أبي الرّذائل:

أخبرني أنّ أبا الفضائل أصرّ إصرار المستوطنين اليهود على تقديم استقالته من مُواطنته العربيّة ولم يكن من النّادمين أو المُتحسّرين واعتذر لأبي الرّذائل عن مُفارقته إيّاه وتركه وحيدا يصول ويجول في الوطن العربيّ من مشرقه إلى مغربه ..

وخشي أبو الرّذائل على نفسه من الفراق ومن خطر الانشقاق ولم يتمكّن من معرفة مضمون استقالة أبي الفضائل أو الجهة الّتي ينوي تقديمها إليها..؟

توضيح

لم أشاهد أبا الفضائل ولم أتمكّن من مُحادثته مباشرة وإنّما بواسطة, إذ نقل لي حديثه صديقه بالتّناقض والمُفارقة أبو الرّذائل أرذل الله عمره ويسّر نفيه وعسّر نهايته آمين..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى