عبدالرحمن طهمازي - لا تثريب على ابي اسحق..

من الممكن، على مستوى كتابة الادب، ان نستبدل الاول بالاخير، فنجعل هذا مكان ذاك، من غير ان نحذف ايا منهما، أي بان نردّ العجُز على الصدر، كما يقال في البلاغة العربية، ثم نعاود السياق، فليس هناك ما هو "غير اعتيادي" في الماساة، كما انه ليس هناك ما هو اقرب الى التراجيديا من نقيضها: الكوميديا، وهذه العبارة التي زاوج فيها شوبنهاور بين الاستسلام والضحك، هي المقصودة في ان تكون الاولى، حيث يتم تعريف الماساة بنحو كوميدي منذ البداية دون ان ننتظر انحلال الاستسلام وانفراطه في الضحك كما فعل ماركس في تذييل جملة هيغل: " التاريخ يعيد نفسه مرتين " فاضاف " مرة على شكل ماساة والاخرى على شكل ملهاة " او في نفي نيتشه للاستسلام عن التراجيديا بعد اختلافه مع شوبنهاور.
على كل حال، نحن نقرأ في كتاب، والاجدى ان تتحول القراءة الى كتابة ثانية وثالثة وهكذا..، وان تنتقل الكتابة الى قراءة اولى وثانية وهكذا... فكلاهما لغة ثانوية، اذا ذهبنا مؤقتا الى الانثروبولوجيا العامة، على ان لا يترتب على ذلك حكم لا ادبي، فنحن هنا في مستوى الادب حيث لا نفكر طويلا في الذي يجب ولا يجب، حسب دستويفسكي.
الكتاب الذي نقرا فيه هو " نشوار المحاضرة واخبار المذاكرة " للقاضي التنوخي (ت994م) بتحقيق عبود الشالجي. يقول الخبر ان صيادا للسمك في المدائن، ايام الامير البويهي معز الدولة، علقت شبكته بقمقم فاتصل بالامير ثم اخرجت قماقم ثمانية اخر مملوءة مالا فاراد الامير اعطاء الصياد شيئا من ذلك المال. " فقال الرجل: لا اريد ذلك ولا حاجة لي اليه.
فقال له الامير: ولم؟
قال: اريد ان تَهَبَ لي الصيد في تلك الناحية، وتامر بان يمنع كل احد من ان يصطاد بها غيري.
فضحك الامير، وجعل يعجب من حماقته. وقال: اكتبوا له بما سال.،، ج1.
اذن هي حماقةٌ من الصياد ان لا يقبل شيئا من لقطته واكتفى بان يُحجَز له مكان صيده. ولست هنا بصدد مناقشة ايهما الاحمق، أالصياد بوصفه ذاك ام الامير الذي جعل جزءا من النهر حكرا على فرد مقابل مال ملقوط. وانما ملاحظتي هي في ان رجلا من عامة اهل الكسب يجد مالا مستورا فيتركه للحاكم، لان الذين حوله غير مامونين، او لعلة اخرى نتركها للفقهاء (في كتاب اللقطة من " بداية المجتهد " لابن رشد تحديد مجمل للموضوع). وندع عمق القصة الان.
استمر حكم معز الدولة زهاء اثنتين وعشرين سنة وقد ملك بغداد " بلا كلفة "، كما يقول ابن خلكان، وتوفي سنة 966 بعد سنتين من مقتل المتنبي وربما كان مولدهما في عام واحد، وقد كان مقتل المتنبي في الارجح في سواد واسط في الفوضى التي اتت على بعض الكفاءات كما يقال اليوم وقد سبقه الحلاج الى القتل في 26 اذار 922 م في الفترة التمهيدية المباشرة لحكم الامراء وقد كانت له نشأة في واسط ايضا – ابن خلكان وبروكلمان، وكان معز الدولة قد ملك بغداد بعد معركة خاضها في واسط، حيث كان سوادها حلبة للخبر التالي من " النشوار " وقد يكون البويهيون ما زالوا في ملكهم ايام الخبر لان دولتهم انحلت سنة 983م، ولا يذكر التنوخي في الجزء الثامن تاريخا محددا للنشاط الذي كان جاريا حول الاثار والفضول والطمع اللذين يحيطانها لكنه قال: " وقد يجد الناس...... دراهم وجواهر، حول تلك الخربات...."
من بين الاثار تمثال " رجل من حجر اسود املس، عظيم الخلق، يُعرَف عند اهل ذلك الصقع بابي اسحق، لانه يتعاطى قوم من اهل القوة شيله فيسحقهم ويكسر عظامهم، وقد قتل وأزمَنَ خلقا.." وقد نُقِل من موضعه الاول بجهد، لكنّ اصحاب ذلك الموضع ضجّوا: " انّ هذا نانس به في ذلك المكان،.. ناوي اليه في الليل... يمنع عنا الوحش... ". وردّوه. ويذكر ان على التمثال " كتابة محفورة قديمة لا يُدرَى باي قلم هي " (من ظرافة العامة انهم سحقوا بكنية ابي اسحق ونقل معناها عندهم قواعد فن الصرف العربي ايضا). وفي المكان ايضا " حجر عظيم، وهو كالسرير.. قد غاب في الارض اكثره، وعليه تماثيل، ونقش. " فارادوا اقلابه ليروا ما تحته فما استطاعوا: " لانهم كلما احتفروا تحته... هوى الى الحفرة فاستغرق فيها.." وتركوه.
اما الذروة فقد كانت حول خزانة مبنية بالقار والنوى والحصى لا يوقف لها على مدخل، " يقال انها من خزائن قارون، طولها اربعون ذراعا، والعرض مثله، وارتفاعها اكثر..." وقد حاول جماعة الدخول اليها ووصلوها بعد جهد وحلحلوا الحجر الذي على باب الازج (بناء مستطيل له سقف مقوس) لكنهم فوجئوا قبيل الصباح بخيل وسيوف " ولم يشكوا انها خيل القرامطة. " حين عادوا الى مواضعهم وجدوا دليلهم " مذبوحا في بعض الطريق".
قد تكون هذه الاخبار من الترّهات بالمقارنة مع سيرة معزّ الدولة وكيفية ملكه " بلا كلفة "، واخبار معزّ الدولة وملك البويهيين العابر موجودة بايجاز في " وفيات الاعيان " لابن خلكان وفي " تاريخ الشعوب الاسلامية " لبروكلمان. ويبدو الصياد ابنا للبلد لم يطلب اكثر مما كان يزاوله مع استئثار بالمكان، فمهنته لن تتغير، كما ان المال الملقوط او المركوز ليس من تحصيله، انما ماله موكول بالصيد، لكن الملك العابر واخوته الذين مروا بالامارة في سرعة البرق، كانوا يتحرّون الدفائن، كما يذكر التنوخي في عدد من اخبارهم. هم يعبرون ويطارَدون ولكن الصياد يبقى على دجلة كما اراد لان معزّ الدولة لم يجلب معه صيادي اسماك، (يحسن بالقارئ الرجوع الى قصة عبدالله البري وعبدالله البحري في الف ليلة وليلة فمال الماء هناك يقود الى سلطة من نوع ما على البر مع ركة في العلاقة بالشخصية اضافة الى دلالات الحكمة في الليالي فعبدالله البحري ليس اميرا بويهيا.... كما يحسن معرفة شئ من اخبار ابن خلكان عن معزّ الدولة الملقب بالاقطع لان يده اليسرى طاحت مع بعض اصابع اليمنى في مؤامرة له على اكراد من اجل المال قبل امارته ويصر ابن خلكان على تسمية حكم معزّ الدولة بالملك – الوفيات ج 1)
اما ابو اسحق فياخذ دلالته من "تعوده" على موضعه (فقد عاد الى مكانه ليلا بعد ان نقل مرة في النهار) واتخاذه تعويذة من طرف اصحابه فقد دافع هو عن ثقله قبل ان يدافع عنه اصحابه (ماذا كانوا فعلوا لو علموا انه يباع ويشترى ؟). وكذلك الحجر الذي كالسرير (حتى دليل النوم او الموت لا قِبَل لاحد بنقله) اما الخزانة فلا احد يدري ما اخبارها، ولا نعلم بعد اكثر من الف عام من ضيق الانفاس بين التفاف ماساة بكوميديا، وبعد الانبساط الكوميدي للتراجيديا ماذا جرى لابي اسحق ؟ لكننا نرى ماذا حلّ بالاصحاب ؛ ويحهم: هل يحق الاستحياء من حجر كان في سواد واسط ؟ وكيف لنا بمعرفة هوية فرعية لصياد سمك نسجتها المياه بالمتانة والرقة معا لتقوم بتمثيل دجلة كما يمثّل الذهبُ الثروة؟
فـ"كم حائكٍ لكِ يا عباءة".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى