مرسل العجمي - القصة القصيرة في الكويت: أجيال واتجاهات

جيل الرواد :
ظهرت القصة القصيرة في الكويت، عندما توافرت لها الشروط الموضوعية التي هيأت المناخ الأدبي لقبول هذا الجنس الجديد من ناحية، ولاستثمار إمكاناته في الدعوى الإصلاحية من ناحية أخرى. وقد ساهم مجموعة من الرواد في توفير هذه الشروط الموضوعية، والتي تمثلت في نشر التعليم، وتأسيس المكتبة الأهلية، وإنشاء النادي الأدبي، والاشتراك في المجلات العربية.
ومع أن هذه الشروط قد تبدو للقارئ في مطلع الألفية الثالثة، أموراً بسيطة، فإنها كانت بالنسبة إلى من كان يعيش في مطلع القرن العشرين أموراً بالغة الأهمية في تنوير المجتمع، ونشر دعوات الإصلاح. وقد قدّم لنا المؤرخ الفذ عبد العزيز الرشيد في كتابه ‘تاريخ الكويت’ صورة نابضة بالحياة عن الصراع الفكري الشديد بين أولئك الرواد وبعض مجايليهم الذين كانوا يرون في أي انفتاح على الجديد نوعاً من الكفر والزندقة. ففي ذلك الكتاب ميّز الرشيد بين مرحلتين فكريتين عاشتهما الكويت، بدأت الأولى منذ قيام الكويت إلى مطلع القرن العشرين، ثم جاءت الثانية مع الربع الأول من القرن نفسه. ومع أن الفترة الأولى شهدت بعض الحراك الثقافي وظهور بعض الشعراء، وبعض العلماء الأفاضل مثل الشيخ عبد الله خلف الدحيان، فإن السياق الاجتماعي العام، كان مغرقاً في التقليدية، ونافراً عن أي تجديد، ويكفي أن نذكر أن قراءة الصحف والمجلات العربية، إضافة إلى التعليم والتعلم في المدراس شبه النظامية، وتدريس اللغة الإنجليزية، كان يعد عند بعض رجال الدين من الكفريات والمروق عن الدين. ويعد عبد العزيز العلجي، أبرز ممثل لهذا التيار، الذي كان يعارض أي مظهر من مظاهر التجديد والتحديث، وبلغ من تطرف العجلي أنه كان يكفِّر من يقرأ المجلات المصرية.
في مواجهة هذا التعصب والتطرف والانغلاق، برز جيل جديد يدعو إلى الانفتاح على العلوم الحديثة، وإلى النهوض بالمجتمع من الجهل وسيطرة المشعوذين. وقد وصف عبد العزيز الرشيد ما طرأ على الحياة الفكرية في الربع الأول من القرن العشرين ‘بالانقلاب المدهش’. وذكر أن وراء هذه النهضة أربعة أسباب هي :
* تأسيس المدارس شبه النظامية : المباركية (1911)، والأحمدية (1921).
* ظهور جيل شاب متعلم، أسس لأول مرة جمعيات أدبية منظمة مثل الجمعية الخيرية (1913)، والمكتبة الأهلية (1922)، والنادي الأدبي (1924).
* الإطلاع على الصحف والمجلات لاسيما المصرية منها، فعبر هذه المجلات تواصل مثقفو الكويت مع ما يدور في العالم العربي من أحداث سياسية وتيارات أدبية.
* الزيارات التي قام بها بعض رموز الثقافة والسياسة للكويت، حيث حفزت تلك الزيارات، بما كانت تثيره من نقاشات وخطب ومحاضرات، جدلاً فكرياً داخل الكويت، وممن زار الكويت في تلك الفترة عبد العزيز الثعالبي، ورشيد رضا.

أول قصة قصيرة في الكويت، وفي الخليج
في سبيل إيجاد صوت مؤثر فعال، يقدم وجهة نظر الجيل الجديد، ويقاوم صوت الانغلاق والتشدد، أقدم عبد العزيز الرشيد، مدعوماً بمجايليه من الرواد، على تحقيق أعظم إنجاز في تلك الفترة، وذلك عندما أصدر في عام 1928 ‘مجلة الكويت’ لتكون أول مجلة تصدر في الخليج العربي. ويبدو أن ثمة غايتين وراء إصداره تلك المجلة، الأولى تتمثل في إيجاد قناة يعبر من خلالها جيل الرواد عن دعوتهم الإصلاحية في شتى المناحي : الاجتماعية والدينية والوطنية. والثانية تتمثل في إتاحة الفرصة أمام أدباء الكويت في نشر أعمالهم الأدبية ومقالاتهم الثقافية.
وقد نجح الرشيد في غايتيه تماماً، وذلك عندما استطاع أن ينشر عدداً وافراً من المقالات التي تدعو إلى الإصلاح وتحارب الجهل والتجهيل، وترفض الانغلاق والتشدد. ومن جهة أخرى ظهر على تلك المجلة الكثير من القصائد الشعرية، والمناقشات الأدبية، والتراجم لبعض أدباء الكويت والخليج، ثم جاءت المفاجأة الكبيرة، عندما نشر الشاعر المعروف خالد الفرج، قصته الأولى، وأول قصة كويتية في هذه المجلة، وقد كانت إشارة الرشيد إلى هذه القصة، وترحيبه الحار بها علامة على إيمانه بالدور الذي يمكن أن تلعبه القصة القصيرة في الدعوى الإصلاحية، لا سيما أن القصة كانت تعبر عن آراء الرواد في محاربة التجهيل خير تعبير.
وهكذا ولدت القصة القصيرة في الكويت في حضن الصحافة، ففي الجزء 6و7 المجلد الثاني من مجلة الكويت، لشهري جمادي الآخر ورجب من العام 1348 هـ ، الموافق نوفمبر وديسمبر من العام 1929 م، نشر الشاعر والكاتب خالد الفرج قصة بعنوان ‘منيرة’، وهي أول قصة تنشر لكاتب كويتي، وبذلك عد كاتبها الرائد الأول للقصة القصيرة في الكويت، بل وفي الخليج العربي.
إن قصة ‘منيرة’ تبدأ بفتاة رائعة الجمال في جو شديد الإشراق. وتنتهي بإمرأة محطمة تلوذ بالانتحار للخلاص، وما بين البداية والنهاية تكمن رسالة القصة التي تدعو إلى تكامل الجمال الخارجي مع الجمال الداخلي، وأولى خطوات هذا التكامل محاربة الجهل عن طريق التعلم، ومحاربة الشعوذة بالتنوير. وهذا أمر يتطلع فيه المؤلف إلى المستقبل، أما الحاضر – حاضر القصة فالجهل طاغ، والتجهيل مسيطر. لقد بدأ التنوير خطواته الأولى مع المجلة التي نشرت فيها هذه القصة، ومع هذه القصة التي جاءت ناضجة إلى حد بعيد، عندما نضعها في سياق القصة العربية البازغة في ذلك الزمان.

جيل البعثة :
صدر العدد الأخير من مجلة الكويت في مارس للعام 1930. وهكذا انطفأت شمعة الصحافة الأولى في الكويت. وبعد ستة أعوام تعرضت الكويت لأزمة اقتصادية خانقة، أدى إلى حدوثها سببان؛ الأول: اكتشاف زراعة اللؤلؤ في اليابان، الأمر الذي ضرب صناعة الغوص في الصميم، والثاني: الحصار الاقتصادي الذي فرضه الملك عبد العزيز على البضائع المصدرة من الكويت إلى الأراضي السعودية، الأمر الذي ضرب حركة التجارة. وقد أدى هذان السببان إلى إفلاس كثير من التجار، مما أفضى إلى نقص شديد في توفير الالتزامات المالية المرصودة للمدرستين ؛ المباركية والأحمدية. وقد كاد أن يؤدي هذا النقص إلى إغلاق تينك المدرستين، لولا أن تنادى مجموعة من رجالات الكويت الأغنياء لحل هذه الضائقة ؛ وقد تمثل الحل في الطلب من أمير البلاد أن يرفع نسبة الضرائب من 4.5 ‘ إلى 5 ‘، على أن ينفق هذا النصف على الحركة التعليمية في البلاد، وبعد أن تمت الموافقة على هذا الاقتراح، أنشئ مجلس المعارف الذي أصبح مسئولاً عن الإشراف على التعليم،
وبعد مرور عام على قيام مجلس المعارف، تضاعفت أعداد المدارس من مدرستين إلى عشر، كما فتحت في العام 1937 أول مدرسة للبنات على الرغم من معارضة بعض رجال الدين الشديدة. وفي العام 1939، أرسلت أول بعثة طلابية إلى مصر، وكانت تضم أربعة طلاب فقط، من بينهم عبد العزيز حسين، الذي سيقوم بدور مهم في التعليم والثقافة في سنين لاحقة. ثم أرسلت البعثة الثانية في العام 1943، وكان أعضاؤها هذه المرة سبعة عشر طالباً. وتزايد عدد أعضاء البعثة الثالثة، التي أرسلت في العام 1945 ليصل إلى خمسين طالباً. ونظراً لتزايد أعداد الطلبة في مصر، ولتوفير جهاز إداري يتولى الإشراف والمتابعة، تقرر إنشاء ‘بيت الكويت’ في القاهرة، لتحقيق هدفين متداخلين؛ الأول: متابعة تحصيل المبتعثين العلمي، والثاني : طمأنة أولياء الأمور في الكويت على أبنائهم المغتربين.
وفي عام 1946، أصدر بيت الكويت مجلة ‘ البعثة ‘ التي ظهر على صفحاتها صوت جديد لجيل يمكن أن نطلق عليه ‘جيل البعثة’.

جيل الستينات :
عاصر هذا الجيل جملة من التحولات الجذرية على المستوى السياسي والاجتماعي ؛ فعلى المستوى السياسي عايش هذا الجيل استقلال الكويت في 1961، وقيام مؤسسات الدولة الحديثة من خلال الوزارات المتخصصة. وعاصر انتخابات المجلس التأسيسي وإقرار الدستور في 1962، وتابع انتخابات مجلس الأمة الأول التي جرت في عام 1963.
ونقلت الطفرة المادية التي تزامنت مع الاستقلال المجتمع الكويتي من مجتمع الفقر والكفاف إلى مجتمع الوفرة والثروة، وقد صرف جزء كبير من الثروة الجديدة في أوجه الرعاية الاجتماعية والتعليمية والصحية، وأصبحت الدولة مسؤولة عن المواطن. هذه المعطيات الجديدة سياسياً واجتماعياً احتاجت إلى جيل جديد، عايش هذه التحولات الجديدة، وحاول أن يتلمس طريق الإنسان الكويتي في ظل هذه التغيرات المتسارعة. وهكذا عادت القصة القصيرة بعد عقد من الزمان على يد مجموعة من الكتّاب أبرزهم أربعة هم : سليمان الشطي، و سليمان الخليفي، وإسماعيل فهد إسماعيل، وعبد العزيز السريع. ويحسب لهذا الجيل أنه أوصل القصة القصيرة في الكويت إلى قمة النضج الفني في الكتابة القصصية. ويظهر في تجربة هذا الجيل، الممارسات الآتية :
الوعي النظري بالقصة القصيرة بوصفها جنساً أدبياً محدداً، ويظهر هذا الوعي فترة مبكرة وفي مقدمة سليمان الشطي لمجموعة ‘الصوت الخافت’ والتي كتبت في سنة 1970. كما يتجلى ممارسة ً في الكتابة القصصية التي يحتشد لها أفراد هذا الجيل احتشاداً كبيراً يتضح في عنايتهم الشديدة بالصياغة اللغوية، التي جاءوا بها صحيحة من الناحية النحوية، وفصيحة من حيث البلاغة والأسلوب، ومكثفة في السرد.
تغييب صوت المؤلف الحقيقي المباشر، والاعتماد على تقديم القصة على رسم عوالم قصصية، تنهض على شخصيات تقدم إشكالاتها ومشاكلها بطريقة مباشرة، يعايشها القارئ ويحكم من خلالها على مواقف الشخصيات ومحاور الصراع، ونجاح المؤلف. إن هذت الابتعاد عن المباشرة، وتجسيد العالم القصصي بصورة ‘حيادية’ يُغيّب فيها صوت المؤلف المباشر، يُكوّن ملمحاً مشتركاً بين أفراد هذا الجيل، وللتمثيل أشير إلى ‘صناديق’ لسليمان الخليفي، و’جمل’ لسليمان الشطي، و’الأقفاص واللغة المشتركة’ لإسماعيل فهد إسماعيل، و’قطتان’ لعبد العزيز السريع.
يظهر التجريب، الفني والموضوعاتي، عند السليمانين: الخليفي والشطي بصورة واضحة، لاسيما في القصص التي تعتمد على شخصيات عاصرت كويت الغوص، وكويت الحقبة النفطية. وخير ما يمثل هذا التجريب، قصة ‘صناديق’ للخليفي وقصة ‘ الهاجس والحطام’ للشطي، ففي هاتين القصتين لايتم استحضار الكويت القديمة لغاية رومانسية تمجيدية وفي إنشائية خطابية، وإنما يتم بعث تلك الرحلة، عبر تصوير قصصي يرتكز على شخصية نامية، تعيش اغترابها في الحقبة النفطية بطريقة مقنعة للقارئ، لأن المؤلف يكتفي برسم الإطار القصصي، الذي تنكشف فيه تطورات حياة الشخصية بصورة تبدو عفوية وتلقائية، لأن المؤلف لا يحدثنا عن الشخصيات وإنما يتركنا نتابع حياة الشخصية وهي تتشكل أمامنا.

الجيل الرابع :
أقصد بالجيل الرابع، الجيل الذي بدأ النشر منذ منتصف السبعينات، إلى منتصف التسعينات من القرن العشرين. ولأن هذا الجيل حظي بدراسات كثيرة، سأتوقف في الإشارة إلى إسهام هذا الجيل وقفة موجزة، تتضمن الملاحظات التالية :
سجلت المرأة حضوراً بارزاً في هذا الجيل، فمن بين خمسة عشر اسماً، ظهرت ثمانية أسماء نسائية. إن هذا الحضور النسائي، سيعيد إلى الواجهة قضية الأنثى في المجتمع الذكوري، التي شكلت محوراً أساسياً عند كاتبات هذا الجيل، كما يلاحظ في قصص فاطمة يوسف العلي، وعالية شعيب، وليلى العثمان، وليلى محمد صالح، ومنى الشافعي.
توزعت المحاور الموضوعية عن رجال هذا الجيل بين فانتازيا الرفض والتمرد عند محمد مسعود العجمي، ومعاناة الوافدين عند طالب الرفاعي، وصور العنف والموت عند ناصر الظفيري، وثنائية الصحراء والمدينة عند جاسم الشمري، وهموم الطبقة الوسطى عند وليد الرجيب.
وبقي أن أشير إلى أنه على أعتاب الألفية الثالثة، بدأ جيل جديد من الشباب في نشر قصصهم.
‘ ينشر بالاتفاق مع مجلة ‘بانيبال’ التي تفرد ملفا خاصا للأدب الكويتي في عددها الاخير.

الدكتور مرسل العجمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى