حسام المقدم - شرفات بحجم الكف..

للشرفة لابد من نافذة تُفضي إليها..
أجدادنا الأحباب يُعللون ذلك بقولهم إنه في بدء الخليقة كانت النافذة وحيدة، فتضرعت إلي السماء أن تهبها امتدادا تكون هي الأصل فيه. فجاوبت السماء نداءها: لتكن لكِ شرفة، ولتكوني حاضرة بين زميلاتك اللاتي بلا شرفات. أنتِ أصلك ممدود، وهن أصلهن مقطوع.
من يومها، والنوافذ التي بلا شرفات لا تكف عن البكاء. في حين ارتضت الشرفات أن تكون إطارا نصفيا مستباحا للنوافذ، مكانا يعمره الناس في أصائل وأمسيات الصيف ويهجرونه في الشتاء.
الأولي: فرع شجرة طويل ومعاكس
لهذا الشيخ حضور باهر في شرفته.
يمد ذراعه في استلقاء ناعم علي السور، تاركا يده وأصابعه تهمس متأرجحة مشكلة علامة استفهام. شعره القطني مصفف منساب للوراء، يتمايل في إيقاع طربي منتظم. في جلسته الراسخة تشاركه المرأة ذاتها، مرة في الكرسي المواجه، وأخري معقودة الذراعين علي صدر متكور فوق السور. دائما يحوط وجهها الأبيض إطار قماشي أسود. ليس بسور الشرفة سوي طلاء الأسمنت الرمادي، وفي الخلفية جدار زيتي بلون الجبنة القديمة. نافذتهما الطويلة مواربة، تتمايل إحدي ضلفتيها بحفيف يليق بأصيل ذهبي. تدخل هي وتعود بكوب شاي علي صينية فضية، لتجده واقفا يزيح فرع الشجرة المتطاول النافذ لجلسته. شجرة عملاقة تمتد فروعها حتي الثالث فوقهما، وأوراقها ذات الكفوف تتسلل مناغشة للنوافذ والوجوه. تتركه لحاله، وبقماشة حائلة تُنفض السور وإطار النافذة المغلقة في آخر الشرفة. تجلس في كرسيها تشرب ملامحه.. تعرف أنه في اليوم التالي سيفعل نفس الشيء. لا تخبره أنها في الليل تجذب الفرع إلي مكانه فوق جلسته تماما، تحنو علي أوراق الكف. تطمئن علي كل شيء وتدخل في الخفاء كما جاءت.
الثانية: البيضاء برأس معصوب
هذه الشرفة تصحو مع تلك الدفعة الثقيلة للنافذة من يدين بيضاوين مشمرتين حتي مرفقين من المرمر. ما يميز الشرفة إطار حديدي واطئ مشكول في خطوط مقوسة متوازية. تنحني البيضاء فوق حبال المنشر تلم المشابك، تُنقي المشابك واحدا واحدا في راحة يدها ثم تكومها علي السور. تستدير منحنية لتأتي بأول قطعة مغسولة ملمومة. تشمها. تلتقط مشبكا تضعه في فمها، لتقترب في الشبه كثيرا من طفلة مستلذة بمصاصة. تنفرد القطعة البيضاء بين يديها مقلوبة متدلية علي أول حبل جنب السور. مع اكتمال صف الأبيض سيوازيه صفان آخران من الغوامق والقمصان وبناطيل الجينز، لتبدو تلك الكائنات مصلوبة مشعلقة. تتلمس بيدها حافة رجل البنطلون، تمتد حتي الجيوب والحِجر. تتوقف، ويتجمد رأسها المعصوب بإيشارب في لون القهوة. تجلس علي كرسي صغير في الوراء. يبين وجهها المخطوف خلف الخطوط المقوسة المتوازية.
الثالثة: ولد صغير ينادي العابرين
ما لهذا الولد الصغير الذي يروح ويجيء في الشرفة لا تستقر به حال؟
له كرسي صغير من البلاستيك، يسويه ويطلع مدليا رأسه من السور، ملوحا للعابرين ناطقا بأسماء جميلة: أبوزلومة! يا زرافة! سبيدرمان! عبرت امرأة معها بنت، وشيخ يتوكئ علي عصا. ثلاثة شبان توقفوا ضاحكين لوجهه المنور وأسنانه البيضاء الشفافة. فرد أحدهم ذراعيه وأدي حركة طيران، فجاوب الولد بالمثل مخرجا لسانه الأحمر الرائق، هازا رأسه فاتحا عينيه بقوة. لاحقه الشاب بلكمة في وجهه، فرد عليه بضربة رأس تفلق الحجر. يزوم الشاب ويحرك رأسه يمينا ويسارا، ويدعو الولد أن ينزل. يجيب بيده من أسفل إلي أعلي. يضحك واحد منهم: ماما فين يا جميل! يُرقص جسمه ويهبط من كرسيه يدبدب فوق البلاط. يعود بدبدوب صغير ناعم محدد الملامح. يطلع الكرسي حاضنا دبدوبه، يهم أن يلقي به إليهم. يتلفت. لا يراهم.
الرابعة: يمامتان وعصفورة
كرسيان وحيدان وجها لوجه، والنافذة مقفلة تصنع مع الجدار انطباعا بحائط سد. تأتي يمامتان تحطان علي سور الشرفة، فيما تقف عصفورة قلقة فوق عنقود البصل المتدلي من مسمار بالحائط. إحدي اليمامتين تنقل خطوات مترددة فوق السور تجاه الأخري التي تقابلها. تقترب من المسند الحديدي للكرسي. في هدوء النمل الزاحف تعتلي القوس الأسود للمسند. رأسها الرهيف ينقل لفتاته في بطء ونعومة. تُسقِط نفسها في وسط الكرسي المبطن بالأحمر.
الخامسة: أشياء بطعم مميز
من شرفة الثالث تنادي الأم: بسرعة يا محمد. ينفلت "محمد" مُتلويا عابرا الرصيف نحو كراتين الشيبسي التي تصطف في تشكيل هرمي أمام المحل الصغير. ينثني فاحصا كل كرتونة، مادا يده في الدائرة المفتوحة ليخُرج كيسا منفوشا، يتأمله علي الوجهين ثم يُدخله مرة أخري. تعيد الأم: بطعم الكباب يا محمد. وجهها أبيض مدور، وتقف مرتكزة بذراعيها علي السور. يحمل "محمد" كيسا ويشير للأعلي زاعقا: بطعم الجبنة مافيش كباب. بعينيها الواسعتين، اللتين بالإمكان رؤيتهما من شرفة العاشر، وابتسامتها المفروشة علي طبق من الورد، يحف وجهها بالهواء موافقة. ينادي صاحب المحل علي "محمد" الذي أكل الرصيف ومرق من البوابة: خلّي بالك يا محمد.


* عن أخبار الأدب يوم 16 - 04 - 2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى