طلعت سقيرق - القبو.. قصة قصيرة

السماء تمطر.. الزجاج الأمامي يغطيه الغبش.. ترسم المسّاحة وهي تتحرك جيئة وذهاباً جزءاً كبيراً من دائرة… السائق يرفع زجاج الشباك إلى الأعلى… يصفّر.. ينحني قليلاً محدقاً في الطريق… أضواء الشوارع تحاول أن تزيح عتمة المساء.. أغصان الأشجار العارية تحدق في الفراغ… وجوه المارة تقبض على حالة هلامية.. تقطع السيارة المسافات ببطء..‏
وحده العجوز كان يضحك.. يهز رأسه مثل بندول الساعة ويضحك…‏
قلت بملل: كأنَّ هذا الدرج لا نهاية له .‏
قالت: ستجد في القبو كل ما تريد… أتعرف؟ كان جدي رحمه الله مولعاً بهذا القبو.. أذكر أنه كان يمضي فيه ساعات طويلة… قلت: أشعر أن النزول لا يتوقف… غريب أمر هذا الدرج…‏
تأمَّل العجوز الدرج ..من جديد هزَّ رأسه وأخذ يضحك…‏
أذكر أن رأسي كان على الوسادة.. عيناي مفتوحتان تحدقان في الخطوط المرسومة على الجدار.. ربما كانت غير ماهي عليه الآن قبل حلول الظلمة وانعكاس هذا الضوء الباهت عليها.. أخذت الخطوط تتلوى.. أعرف أنه الوهم.. كنت مدركاً لهذا تماماً.. رغم ذلك خفت.. اضطربت أنفاسي.. الهواء أخذ يقل.. مجرد شعور.. لكن متى كان حدوث الأشياء ينفصل عن الشعور…‏
أدار العجوز ظهره وآثر الصمت.. أخذ يمر بعينيه على الأشياء.. فرقعت ضحكته دون مقدمات ..السائق أنزل زجاج الشباك قليلاً.. دخل الهواء محملاً برائحة المطر.. مالت السيارة قليلاً عند المنحنى.. الفتاة الجالسة إلى جانبي التصقت بي.. عيناها تغرقان في المسافات البعيدة… شعرت أنها تحاول أن تبعد الجزء الملتصق بي… أحد الركاب نظر إليّ بارتياب.. انكمشت قليلاً مع أنني كنت مرتاحاً لالتصاقها بي…‏
حاول العجوز إطباق شفتيه دون جدوى…‏
يومها قال أبي: أنت لا تريد أن تفهم… الحياة ليست هكذا يابني ..‏
قلت: لكنني أحبها .‏
قال: تحب، وماذا ستطعمها؟ أريد جواباً محدداً.. هل ستطعمها حباً؟ حاول أن تتخلص من هذه الأحلام الوردية.. افهم الحياة أكثر يابني ..‏
كنت أظن أنني الوحيد الذي يفهم.. الوحيد الذي يستطيع أن يرسم أبعاد الحياة…‏
كان العجوز وقتها متكئاً على طرف الأشياء.. عيناه تشعان بحكايات كثيرة.. تمنيت أن يتحدث.. أن يترك ضحكاته ويقول أي شيء ..‏
قالت: أمرك غريب.. أريد ولداً واحداً فقط.. من حقي أن أشعر بالأمومة ..‏
قلت: ولماذا تذكرت الولد الآن؟ لاأريد.. ألف مرة قلت لك لا أريد..‏
– لكن أسبابك غير مقنعة .‏
– أنا مقتنع… هذا يكفي بالنسبة لي على الأقل ..‏
العجوز أمسك يد الولد وأخذا يركضان ويضحكان….‏
تركت الخطوط وأخذت أنقّل طرفي في الغرفة.. الزوجة تنام بهدوء.. صوت أنفاسها يرتفع.. الأولاد يتوزعون هنا وهناك.. لا أدري لماذا توقفت نظراتي عند الولد الأصغر.. كانت ابتسامته تنقط عسلاً وتتلون بخيوط سحرية يعكسها النور الخافت.. العجوز أعجبه المنظر فشارك الطفل ابتسامته..‏
قال أبي: عندما كنت في عمرك.. كنت رجلاً حقيقياً.. أنتم غريبون يا ولدي ..‏
قلت: لكنكم تركتم كل شيء ورحلتم.. كان عليكم أن تبقوا هناك.. إنها جريمة ..‍‍‏
لأول مرة أرى في عينيه ألق الدموع.. ندمت… . حاولت صياغة الكلمات من جديد… كان الوقت قد فات.. أعرف تماماً أنه يحب البيت الذي تركه أكثر من أي شيء في الدنيا.. حدثني عنه من قبل طويلاً.. كان عاشقاً حقيقياً لهذا البيت.. ضحكة العجوز تزيد الوضع تأزماً…‏
أخرج السائق من صندوق صغير خرقة أخذ يمسح بها زجاج السيارة الأمامي، بصعوبة استطاعت أن تبعد الجزء الملتصق من جسمها.. أحد الركاب نظر إلى ساعة يده.. كانت دون عقارب.. تنهد.. السائق أدار رأسه إلى الخلف، ثم عاد إلى مقوده والطريق المبتل.. كان عليه أن يخفف السرعة.. عدة مرات أفهمنا أن أيّ خطأ يمكن أن يودي بنا.. كأنّ المطر صورة من صور الخيال وهو ينزلق ببطء مختلطاً بالأنوار الباهتة… أخذ الصمت يتسع.. الأنفاس تزداد انضغاطاً.. فتح العجوز مظلته داخل السيارة وأخذ يضحك لحالة الاضطراب التي سادت…‏
قلت: صدقيني تعبت.. الدرج لا نهاية له.. لماذا لا نعود أدراجنا.؟؟‏
قالت: العودة تعني صعود الدرجات التي نزلناها.. تصور !!…‏
قلت: لكن متابعة النزول أمر مستحيل…‏
قالت: يا عبد الرحمن درجات قليلة ونصل إلى القبو….‏
استرخيت وجلست على الدرجة ..حاولت أن أفرد النصف الأعلى من قامتي.. قلت محدثاً نفسي:” عبد الرحمن.. من عبد الرحمن هذا “؟؟ نظرت في وجهها.. لم تكن هي.. الدرجات معلقة في الهواء.. القبو مازال بعيداً..” لكن من هو عبد الرحمن هذا “؟؟ العجوز ضرب كفاً بكف وأخذ يضحك…‏
السيارة تنزلق بهدوء.. حبات المطر تتجمع أمام الأضواء وترسم حالات لا نهائية من الأشكال.. عاد جسدها إلى الالتصاق بي.. نظر إلى ساعة يده.. هزّ يده عدة مرات.. سألني” كم الساعة “… عادت إلى المحاولة من جديد، أخذت تبعد الجزء الملتصق من جسمها بهدوء.. كان الأمر مثيراً.. كرر بإلحاح” كم الساعة ” ؟؟ السائق رفع زجاج الشباك مرة أخرى… أخذ يصفر من جديد… ” كم الساعة “؟؟ رفعت يدي.. نظرت.. زجاج مطر.. وجوه هلامية.. العجوز يضحك..‏
– أتدري يا ولد الأمر لم يكن كذلك ..‏
– ماذا تقصد يا أبي ..‏
– نحن لم نترك شيئاً.. أجبرونا على ذلك ..‏
– أعرف ..‏
– أنت لا تعرف شئياً وهنا المصيبة ..‍‍‍‍‍‍‍!!‏
خرج العجوز من الغرفة ونظر في المرآة، كانت ابتسامته عميقة إلى حد ما… الوسادة تنزلق… أعيدها.. أرفع رأسي.. أترك السرير.. أمد يدي.. أمشي ببطء.. أصل إلى الصالون الصغير.. أدخل إلى المطبخ.. أقترب من الصنبور.. أفتحه .. ظمأ شديد يغتالني.. أنحني.. أفتح فمي لأشرب.. لاشيء.. أصرخ برعب.. الماء ينزل من الصنبور ولا يصل منه شيء إلى فمي.. أغلق الصنبور.. يتوقف تدفق الماء.. أفتحه، يندفع الماء.. أضع فمي من جديد .. لكن دون جدوى.. لا يصل شيء من الماء.. تضيق أنفاسي.. يخفق قلبي بشدة.. يجف حلقي أكثر… تغيم الأشياء.. تتراقص الصور… يمدّ العجوز رأسه ويضحك… .‏
الدرجات المتبقية كثيرة.. القبو بعيد… حاول السائق أن يزيد السرعة.. مالت السيارة قليلاً.. قال أبي:” الأمور لا تفهم هكذا “.. الوسادة تزرع رأسي في الخطوط.. يضحك الولد الأصغر.. قلت” لا أريد… الأولاد، جحيم في هذا الوقت” المطر يطرق زجاج السيارة.. تحاول أن تسحب جسدها فتزداد التصاقاً بي… صاح بنزق” قلت لك كم الساعة “.. أخذ يشرح لنا مخاطر السرعة في هذا الجو… فتح المذياع.. حرك المؤشر.. خرج العجوز من بين المحطات وأخذ يضحك.. قال أبي:” افعلوا شيئاً قبل أن تقولوا أشياء كثيرة” قلت: ” الأولاد.. كفى… لا أريد “.. أحد الركاب حاول النزول.. مدَّ قدمه فلم يجد الأرض.. أعادها برعب ..كان القبو بعيداً.. قالت” وماذا تريد يا عبد الرحمن “؟ قلت: صدقيني لا أدري.. لكن أريد أن أعرف… من هو عبد الرحمن هذا ؟؟‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى