فاطمة العتابي - حكاية شموئيل وحلم إيشو الرباب

- " أكل بنو إسرائيل المنَّ أربعين سنة حتى جاءوا إلى أرض عامرة".
قال إيشو وهو يضطجع على قفاه واضعا رأسه فوق كيسه المملوء بالخرق ثم أردف وهو يضع يده على عينيه ليغفو:
- كلُّ أرض الله عامرة يا شموئيل، وستجد الراحة يوما بعد تيهك، وتصبح صائغ ذهب ممتاز مثل عمك.
بقي شموئيل ينظر إلى أستاذه وهو مازال يعالج القدر النحاسي الذي كان بيده، كانا قد اتخذا من كوخ خرب قرب القرية التي مرَّا عليها مركزا لعملهما قبل أن ينتقلا إلى قرية جديدة.
كان إيشو رجلا خمسينيا يعمل ربَّابا متجولا في القرى المنتشرة على طول النهر العظيم، مهنة تعلمها قبل أن يخرج من الكنيسة التي وجد ملقى على بابها يوما إلى العالم الخارجي الذي أدهشه اتساعه وتشعبه واختلاط أموره. ثم اتخذ من شموئيل بن عزرا صانعا له، ذلك الصبي اليتيم الذي جاءت به أمه من محلة التوراة طالبة منه أن يعلمه (الكار) بعد أن رفض عمه (إليعازر) صائغ الذهب المشهور مساعدتهما. وقد كان الصبي دائم الحلم بأن يأتي عمه إليهم يوما ليأخذه معه ويعلمه مهنة الأجداد التي تجعل أنامله الصغيرة تلاعب الذهب البراق بدلا من النحاس الصدئ.
غفا إيشو تحت أشعة الشمس التي حاول حجبها عن عينيه بذراعه، وقد كانت إغفاءته سريعة على الرغم من الضجيج الذي يحدثه شموئيل الذي ظل يرمق أستاذه بين حين وآخر جزعا من يوقظه بما يحدثه من ضجيج متواصل. وفي واحدة من تلك الالتفاتات لمح شيئا غريبا يخرج من منخره الأيمن. بقي الصبي ينعم النظر في هذا الشيء وقد توقف عن العمل وتسمَّر في مكانه ..وربما أخذته قشعريرة جراء تقززه مما يراه. كانت دودة غريبة شقراءاللون كشعر أستاذه. وقد أخذت تجد في السير لتجد طريقها مبتعدة عن المنخر الذي كان يتسع وينقبض مع تصاعد نفسه، فعرجت أولا على أذنه حتى خالها اختفت فيها، ولكنها نزلت من مؤخر عنقه نحو الأرض، وظلت تحوم في مكانها وتدور على نفسها قبل أن تقترب من شموئيل الذي قفز من مكانه بتقزز وهو مازال يرمقها بوجل...أخيرا دارت حول نفسها دورة كاملة ثم اتجهت نحو الحائط الطيني المهدوم للكوخ لتغيب فيه بعد أن وجدت ثقبا صغيرا يتسع لحجمها.
بقي الصبي متسمرا في مكانه وقد ألصق ظهره إلى الحائط وهو يرقب الحفرة الصغيرة التي ولجت فيها الدودة، ثم نهض فجأة من مكانه وانقض على أستاذه ليوقظه لكن الرجل لم يستجب لهزات الصبي الخائفة ولا لصياحه..تراجع بهلع وهو يراه شبه ميت، أكان حقا ميتا؟! تساءل في نفسه وهو ينعم النظر إليه فلمح صدره يعلو ويهبط بشكل بطيء وواطئ فاطمأن.
مرَّ وقت حسبه الصبي طويلا وهو عاجز عن فعل شيء، فهاهي ذي الشمس قد آذنت بالمغيب، وهو مازال غير قادر على إيقاظ أستاذه الذي يبدو أنه يغط في غيبوبة الله أعلم متى يصحو منها..فكر في أن يذهب ليستنجد بأهل القرية حينما لمح الدودة تخرج من الحفرة الصغيرة وهي تدور حول نفسها بانفعال قبل أن تتقدم نحوه لتدور مرة أخرى دون أن يفهم غايتها من ذلك. لم يكن يقدر على الاقتراب منها في كل الأحوال، فقد كان يخافها على صغرها كما يخاف المرء شيئا يفوقه حجما.
راحت تبتعد عنه حتى تسلقت جسد إيشو لتصل إلى رأسه وكأنها تعرف من أين خرجت وولجت بسرعة في منخره الأيمن لتختفي فيه.
أراد شموئيل أن يقترب ليرى إلى أيِّ عمق وصلت حينما عطس إيشو بقوة ليستيقظ بعدها وهو يقول:
- آخ ...و الله تعبت..شموئيل.
- نعم أسطة.
قال الصبي وهو يهرع نحو أستاذه كأنه غير مصدق أنه استيقظ.
قال إيشو بسرعة:
- تعال..تعال.. دعني اقص عليك حلما عجيبا رأيته.
ثم أردف:
- شموئيل حلم والله عجيب!
أراد الصبي أن يتكلم لكن إيشو قال مقاطعا:
- قل أولا خيرا إن شاء الله.
فرد كأنه سقط بيده:-
- إن شاء الله خيرا أسطة!.
- رأيت كأنني تحولت إلى دودة وبقيت أمشي في الصحارى الحارة، حتى انني رأيتك جالسا في مكانك تجلو القدر الذي كان بيدك...
وضحك وهو يهزُّ رأسه ثم أردف:-
- ربما يكون ذلك لأنني أخاف ان تتوقف عن العمل عندما أغفل عنك.
- لا أسطة..
أراد أن يقول الصبي شيئا فقاطعه قائلا:-
- أعرف أنك لن تتوقف عن العمل حتى لو غفلت عنك فلا تخف...
ثم أردف قبل أن يترك للصبي مجالا لقول شيء:-
- المهم ..نرجع للحلم..بقيت أسير بالقفار مدة طويلة خلته مثل تيه أجدادك، ثم أنني وجدت مغارة في جوف الأرض فأردت الاحتماء بها من حرِّ الهاجرة..
- هاااا..
قال الصبي بدهشة فاغرا فمه..وأراد من جديد أن يقاطع أستاذه ليقول له ما رآه لكنه قال دون أن يسمح له بمقاطعته:-
- لا تقاطعني..المهم ...وحالما اقتربت من المغارة جذبتني أضواء كانت تلمع فتعشي عيني..أضواء شديدة كتلك التي رأيناها في عرس بنت الآغا سعدي، وحينما ولجت إلى المغارة وجدتها مملوءة ذهبا، فقد كانت الأضواء تنبعث من لمعان الذهب..
- وبعد؟
قال الصبي وهو مازال يتصارع مع الدهشة التي ازدادت بعد ما سمعه من أستاذه غير أنَّ هدوءا اجتاحه.
-ثم خرجت منها ورأيتك متكأ على حائط خربتنا هذه .. وانتهى الحلم.
ثم أردف حينما وجد آثار الدهشة بادية على محيا صانعه:
- إنه حلم، وفي الحلم نتحول إلى دودة أو حية وحتى فيل، ولكنه يبقى حلما.
-نعم أسطة ... يبقى حلما.
أخذ يعتمل داخل شموئيل شعورين متناقضين، الفرح بما سمع، والخوف من أن يكون فعلا مجرد حلم لا أكثر.
راح يفكر كيف يستطيع التحقق من ذلك دون أن يعلم أستاذه الذي قال وهو في خضم نزاعه مع نفسه:
- هيا... شموئيل.. لملم أغراضنا قبل أن تغيب الشمس، علينا الذهاب إلى بيت شيخ القرية وإلا هجمت علينا الكلاب عند حلول الظلام.
فقال الصبي بسرعة كأن الفرج قد جاءه:-
- حاضر أسطة، ولكنني أريد الذهاب إلى خالتي مسعودة في الحي.
- وهل لديك خالة في الحي؟!.
- نعم ...نعم.. هي ابنة عم أمي، تعمل خياطة في الحي..ألم تقل إن الحي قريب من هنا.
- أجل، ولكن كيف تصل إليه، أمامك ساعتان أو ثلاث لتصل والليل على الأبواب.
- آخذ الحمار.
- الحمار؟!.
- أجل أسطة ...آخذ الحمار عارية مضمونة، ولن أطالبك بأجري لهذا اليوم.
- ولم تفعل هذا؟ أمك تحتاج إلى أجرك شموئيل.
- صحيح، ولكنها أوصتني برسالة يجب أن أوصلها للخالة مسعودة.
- والله لا أعرف ماذا أقول!.
قال إيشو وهو يحك لحيته الخفيفة، ثم أردف:-
-أنت لم تخبرني عن ذلك من قبل ولو أخبرتني لتركتك تذهب قبل العصر.
- أجل لأنك كنت نائما ولم أشأ إيقاضك.
-حسنا.
قال إيشو أخيرا:-
- أوصلني مع الأغراض لبيت الشيخ ثم أذهب.
عاد شموئيل إلى الخربة بعد أن أوصل أستاذه والأغراض إلى بيت الشيخ، لقد قرر أن يتحقق مما حكاه له، وأن لا يفوت الفرصة أبدا.
كانت الخربة مخيفة وباردة، وكان عواء الذئاب البعيدة ونباح الكلاب يزيد من خوفه ويجعل أوصاله ترتجف، بيد أنَّ حلمه برؤية بريق الذهب جعله يستجمع شجاعته.
أخذ يحفر المكان الذي رأى الدودة تلج فيه بسكين كانت معه، ولم يطل الوقت حتى شاهد الحائط ينهار بشكل مفاجئ جعله يقفز بسرعة مبتعدا... لقد كان هشا إلى حدِّ أنه لم يحتمل سوى بضع ضربات بالسكين.
أخذت أنفاسه تتسارع، وقد طوقته الحيرة، حينما رأى بريقا غير مألوف يلمع في عينيه المتعطشتين فانقض عليه يتفحصه. كان ذهبا، ذهبا حقيقا كما أخبره أستاذه إيشو، ذهبا كثيرا وبراقا ..
جثا على ركبتيه وهو يلهث كأنه كلب عثر على عظمة بعد جوع طويل، ماذا يفعل؟ وكيف يتصرف؟.. أخذته الدهشة، وانتابه خوف شديد، ولاسيما حينما سمع نباح الكلاب يقترب منه، أو خاله كذلك، نهض بسرعة إلى حيث الحمار وأنزل الخرج وأخذ يملأه بالذهب بسرعة حتى خال أن يديه لا تستطيعان الإمساك بالقطع الذهبية التي خاف أن تهرب منه بتدحرجها في الخربة المظلمة هنا وهناك.
وبعد أن جمع كل الذهب في خرجه ركب فوق الحمار وسار به مسرعا نحو بغداد لا يثنيه ليل ولا ذئاب.
أما إيشو فظل في اليوم التالي ينتظر صانعه حتى الظهيرة، ولما أيس من عودته قرر العودة إلى بغداد وهو يفكر في الطريقة التي من الممكن أن يخبر بها أمه وكيف يثبت براءته من دمه لو لم يعد الصبي أبدا. ولكنه فوجئ حينما وصل إلى بيته بأن شموئيل كان قد أعاد الحمار وربطه بعموده الذي اعتاد هو على ربطه به... وبعد ذلك اليوم أختفى شموئيل وأمه من بغداد كلها، وقد أنتشرت الشائعات عن سبب ذلك، إلا أن إيشو كان كثيرا ما يعض على أنامله دون أن يبث لأحد حسرته، فقد اكتشف أن شموئيل صانعه الصغير كان قد استغفله واستحوذ على الكنز الذي رآه في حلمه وذلك حينما عاد إلى القرية بعد أسابيع ومرَّ بالخربة التي وجد حائطها مهدوما وقربه قطعة ذهبية شبه مدفونة بالتراب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى