شهادات خاصة حسن بيريش - محمد شكري كما عرفته -4-

* لو عصرت المغرب لن تجد أكثر من عشرين مبدعا، وربما أقل من ذلك!


كلُّنا ننتظر الموت :

أسابيع بعد هذا اللقاء، كنت بصحبته في نفس المطعم، حدَّثنا عن مرض محمد الكغاط، ومبادرة الملك محمد السادس بإرساله إلى فرنسا للعلاج·
قال شكري بأسى:
كلُّنا ننتظر الموت· لم يعد ثمة شيء ننتظره غير الموت· رحل أصدقاء أعزاء كنت أحبهم· الموت، الآن، يشرع أنيابه في مواجهتنا، نحن الشيوخ"·
بدا لي واضحا أن محمد شكري يستشعر ألما مُمضاً في دخيلته· ويقف على حافة سديم·
ـ طفل كبير يصنع الدهشة:
كثيرا كان شكري ينقلب إلى طفل يثير من حوله البهجة، ويخلق الدهشة· أخبرته، ذات ليلة أبريلية ماطرة، عن موقف نجيب محفوظ الإيجابي من منع تدريس "الخبز الحافي" بالجامعة الأمريكية بالقاهرة· يستفسرني عن فحوى ما قاله محفوظ· أطلعه على النص المنشور في "الأهرام"· فيقرأه بانتشاء، لا يكاد يستقرُّ على مقعده، وهو يردِّد بفرح طفولي:
"هذا رائع، هذا رائع· اعطاه الله الصحة"·
يجيء الشاعر عبد اللطيف بنيحيى، يناوله شكري الأهرام:
ــ إقرأ ما قاله عني نجيب محفوظ·
يقرأ بنيحيى المقال· يقول:
ــ لقد أنصفك نجيب محفوظ· ينبغي ترويج هذا الموقف إعلاميا·
ــ طبعا· طبعا· نجيب محفوظ هرم الرواية العربية، وكتابته عني لها وزنها و أثيرها·
يقولها شكري بنبرة لا تخبِّئ إحساسه بالزَّهو والامتلاء·

ـ رائحة الفجيعة:

عندما غاب عنا محمد زفزاف، ذات فجيعة، لم أصدق أن الكبار هكذا يرحلون·
امتدَّت يدي إلى الهاتف: ليس غير شكري عنده الخبر اليقين·
ــ ألو أستاذ شكري، أنا حسن بيريش·
ــ أهلا سي حسن· كيف أنت ؟ فاين غاطس؟
ــ قل لي، السي محمد، هل سمعت بنبإ رحيل زفزاف؟
يصلني صوته حزينا· له رائحة الفجيعة:
ــ آ·· نعم· رحل زفزاف· رحل الكاتب والإنسان وصديق الكتابة والحياة·
أحسُّني استدرج الطنجاويَّ النبيل إلى حافَّة النشيج· أحسنُّي ذكَّرته بفقدان طراوة بعض من ذاكرته·
فلتنكِّس الكتابة العربية أعلامها!

ـ حولنا، بيننا، وفينا:

محمد شكري في الشارع، هو غيره في المقهى، هو غيره في بيته·
في الشارع: يسمع أكثر· يتحدث أقل· ويرى أعمق·
تحسُّه يتسلَّل إلى خبايا الفضاء· يملأ البياضات من حوله مدادا، مثلما ملأ عمرو بن كلثوم البحر سفينا·
في المقهى: يهب نفسه على مهلٍ، مثل مشهد هتش**** · مع كل نفثة ورشفة يتوغل في انشراحه، يروق مزاجه· وتتقَّد ذاكرته· تشتعل بالمنسي· وتوضِّح المضبَّب· فيتلبَّسه شعور من خرج توا من نثرات حلم·
في بيته: يكون على سجيَّته· يغدو طفلا يملأ الوقت حديثا، شغبا، وذكريات تستحوذ على انتباه ضيفه ـ ضيوفه، تحرك بداخله حنينا يكفي العمر ويسع الجلسة·
وفي أحواله كلها· وأينما وُجد محمد شكري· يظلُّ: حولنا، بيننا، وفينا·
خرافات رملية:
ظهر يوم خريفي، وجدته جالسا في ركنه المعتاد (مطعم الريتز)، صحبة طارق سليكي ومصطفى كناد (مدير المطعم)·
كان شكري يعاني من ألم في ركبته اليمنى ويجهل سببه· قلت له:
ــ إنك مصاب بروماتيزم· هذا الداء موسمي· الجو البارد يذكيه، والحرارة تذهب به· ألم تفكر في طمر قدمك في الرمل؟ سمعت أن هذه الطريقة ناجعة في علاج مثل حالتك·
رشقني بنظرة تعكس سخريته· قال:
ــ هذه خرافات رملية لا أومن بها! ما أعانيه هشاشة العظام· إنها أمراض الشيخوخة·
سأله مصطفى كناد:
ــ لماذا لم تزر طبيبا؟ ردَّ شكري، وهو يتحسَّس ركبته:
ــ طبيب العظام الذي أريد عرض نفسي عليه (وهو صديق لي)، أُجريت له عملية جراحية· وهو الآن في طور النقاهة· قد أتصل به فيما بعد·

ليس كل القراء:

ذات مصادفة صيفية، سألتقيه في البوليفار· يسير على مهل، كعادته، حاملا محفظته الجلدية البنية· طلب مني أن أصحبه إلى مبنى البريد المركزي ليستلم طردا بعث به وكيل أعماله روبيرطو دي هولاندا من ألمانيا·
في الطريق كان يوقفه الكثير من المعجبين بكتاباته· يصغي لهم· يبادلهم التحية· ويردُّ على أسئلتهم· لا يخفي فرحه بما يرى ويسمع·
قلت له:
ــ أنت تحتل مكانة كبيرة في قلوب قرائك·
يتوقف عن السير· يحرك سبابته:
ــ ليس كل القراء· أنا تعرضت للسب والشتم من طرف كثيرين·
في طريق العودة من البريد إلى (إلدورادو)، بادرني قائلا: "أتعرف، إن الأمم لا تعرف إلا بأدبائها وفنانيها ومعمارييها"·وينخرط في قهقهة· ثم يتذكر: "أذكر أن محمد خير الدين جاءني فرحا يقول: لاروس خصَّص بضعة أسطر للملوك، وخصَّني بصفحتين· مع أني لا أملك ثمن فنجان قهوة!"·
هكذا يضحك شكري ويُضحك دائما· لا يدع لتوافه المعيش اليومي أن تسحبه إلى إيقاعها·
بعض من حرارة حضوره:
باعدت بيننا ظروف العمل والحياة، فلا نتراءى لشهور· وعندما ألتقيه يغزوني شعور بالغبطة· وأبدأ في لوم نفسي على الزمن الذي استهلكته دون أن أرى شكري وأسمعه، وأضخ في القلب بعضا من حرارة حضوره، وكثيرا من متعة مجالسته·
لقاء شكري هو، في الآن عينه، لقاء بالحياة· إنه مثلها: يسلك إلى يفاع دائم· يجدد نفسه كماء المسبح· يغري بالتعدد· يبعث على البهاء· ولا يكف عن العطاء·
عندما يضع السّي شكري فاصلا كثيفا، ومقصودا، بينه وبين ما عاشه، تظل المسافة المابين قائمة يصعب إلغاؤها· فيصير شكري ما (كانه) ويكون ما (صاره)· ويفشل المسعى الهادف إلى إدماج الماضي في الحاضر·
لماذا؟ لأن شكري هو الحياة· هو كان وما سيكون·

ـ تمرد قارئ ـ مشاكسة مبدع:

في لحظة مشاكسة، كثيرا ما تتكرر في (الجلسات الريتزية)، يرفض شكري مشاركتي الإعجاب بما تزخر به الساحة الأدبية المغربية من كتابات روائية ناضجة ومغايرة للسائد· يعلق ساخرا:
"لو عصرت المغرب لن تجد أكثر من عشرين مبدعا· وربما أقل من ذلك"!
ويضيف: "الكتابة معاناة"·
تذكرت ما قاله لي البياتي، ذات حوار في أصيلة:
"الكتابة الشعرية نعمة نادرة"·

- تأبَّط صراحته:

مع محمد شكري، يتبدَّى الحديث أكثر تفتحا· أكثر تلقائية· أكثر شغبا· تفضي نكهته إلى عوالم تأسر بلا هوادة·
ما ضبطته يوما يبطن أمرا ويظهر سواه· صريح هو إلى درجة إحراج محدثه·
ما من مرة سألته عن رأيه في فلان أو علان، إلا تأبَّط صراحته· واستدرجني إلى محضه إعجابي ـ كل إعجابي·
الذين لديهم معرفة، ولو عابرة، بشكري، يدركون واضحا أن المخبَّأ في مسكوتاته، ينفجر دفعة واحدة في ملفوظاته·
أبى مبدع "زمن الأخطاء" أن يكون شيئا آخر·· كان نفسه·

ـ نزوع إلى الاكتمال:

عندما أشهر شكري، في "غواية الشحرور الأبيض"، الناقد القابع بداخله، عرف الكثيرون أي قارئ هو شكري، وأي كاتب·
أسأله، وهو يناولني نسختي المهداة، أثناء لقاء جميل في (النكريسكو):
ــ هل هو نزوع إلى الاكتمال في مجال آخر؟
ــ هاجس الاكتمال لا يشغلني· الكتاب يعكس تفاعلي الأدبي مع الآخر· إنه سيرتي في القراءة والكتابة·
ــ يبدو لي أن الكتاب يتضمن ردا (مضمرا) على النقاد الذين اتهموك بالتكرار في كتاباتك·
ــ استنتاجك غير صحيح· (بانفعال بين): لا أهتم أنا بما يقوله النقاد عني· أتعرف، إن بعضهم يشبه شرطي المرور· هذا يمر، هذا لا يمر· تفاهات · تفاهات !

- إنهم ينتظرون موتي:

شتاء 2001· ذهبت إلى (الريتز)· حوالي الواحدة إلا ربعا· حسب موعدي مع شكري· ركنه المعتاد خاليا· قال النادل عبد الحفيظ "السي محمد مريض· لن يأتي اليوم"· هاتفته· "أشعر بإرهاق شديد· لم أستطع مغادرة البيت · سأتصل بك لاحقا" ـ قال شكري بنبرة تضمنت إحساسه بالهشاشة·
بالكاد أشرع في الاطمئنان على صحته· يبادرني قائلا: "بعضهم ينتظر موتي· هيهات! أنا سأدفنهم كلهم ثم أموت بعد ذلك· هاها·· هاها··"·
يعرف شكري جيدا كيف يتخطى لحظة الألم· ويحلق في أفق السخرية ـ من نفسه ومن الآخرين·
إنه فن تحويل الكآبة إلى قهقهة تغسل أدران الروح·

- اصطدمت بطه حسين:

في إحدى عشايا العام 2002، كنت ضيفا على شكري في شقته· انتهى بنا الحديث، وكان غنيا، متشعبا، إلى ضفاف السيرة الذاتية العربية (الأيام، حياتي، أنا، الزاوية، في الطفولة···)·
شرع شكري في استحضار ذاكرته القوية، المحتفظة بأدق التفاصيل: " في صيف 1959، اصطدمت برجل وامرأة قرب فندق (المنزه)· نبَّهني صديق كان بصحبتي: هل تعرف الرجل الذي اصطدمت به؟ قلت : لا· قال: إنه طه حسين وزوجته سوزان· استغربت واندهشت "·لم أعلق· التزمت الصمت · تمنيت في نفسي لو يستمر شكري في تدفقه· وقد كان: "في السبعينات· كنت صحبة الشاعر المرحوم عبد اللطيف الفؤادي نتجول في البوليفار· رأينا الشاعر العراقي المهدي الجواهري جالسا في مقهى (مانيلا) بطربوشه المعتاد· أردت أن أسلم عليه· اعترض الفؤادي: لا تسلم على هذا الانهزامي المنتفخ!! وضاعت فرصة اللقاء بالجواهري"·


8/10/2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى