زويا بيرزاد Zoya Pirzad - السيدة فاء امرأة سعيدة..

السيدة فاء امرأة سعيدة. هذا ما يقوله الجميع. صباح كلّ سبت تحرق والدةُ السيدة فاء الحرمل لابنتها، وتقول من أعماق قلبها: "فلتفقأ عينا الحسود". وتعتقد والدة السيدة فاء أن لحرق الحرمل في صباحات أيام السبت بركة أكثر من الأوقات الأخرى.
تمرّ خمس وعشرون سنة على زواج السيدة فاء من السيد فاء. السيد فاء رجل جيد. هذا ما يقوله الجميع. هو موظّف في وزارة التعليم والتربية. ليس معلّماً. يُعِدّ القائمةَ الخاصة برواتب المعلّمين في المنطقة. هو يعرف بالتحديد كم يقبض في الشهر كلّ معلّم من معلّمي المنطقة، كما يعرف من نال منهم الترقية ممّن لم ينل.
كلّ شهر حين يستلم السيد فاء راتبه يأتي به، ويسلّمه مباشرة إلى السيدة فاء، وذلك بعد أن ينتهي من إعداد قائمة رواتب المعلمين وتسليمها إلى الجهات المعنية. دائماً تضع السيدة فاء أمام زوجها "استكان" الشاي الذي خُمِّرَ حديثاً، مساء اليوم الأوّل من الشهر، حين يعود السيد فاء إلى البيت. تبتسم السيدة فاء وتقول: "الله يعطيك العافية". وتبدأ بعدّ النقود. هي تعرف بالتحديد كم راتب زوجها في الشهر. تعرف حساب توماناته وريالاته حتى الثمالة، لكنّها تعود لتعدّ الراتب كلّ شهر حتى تومانه ورياله الأخيرين. يقول السيد فاء: "أنت تعرفين كم هو راتبي، فلمَ تعدّينها؟". لكنّه أيضاً يلتذّ، وهو يرى الأوراق النقدية التي يرتفع بعضها من فوق بعض ليهبط بعضها على بعض في مكان قريب. ينظر إلى النقود مبتسماً، وهو يحتسي الشاي متحدثاً عمّا يجري في المصلحة، وعن المعلّمين الذين نالوا الترقية والذين لم ينالوها.
وتصغي السيدة فاء بفضول. ولا تستغرب لو ترى بعد أيام زوجة فلان معلّم واقفة في طابور شراء اللحم، مرتدية طرحة جديدة. ولأنّها ليست حسودة، تمدح الطرحة الجديدة. ولو ترى معلّمة لم تنل الترقية، لكنّها لبست حذاءً جديداً، تستغرب، ومع أنها ليست حسودة، لا تمدح الحذاء.
بعد الانتهاء من عدّ راتب زوجها تنهض السيدة فاء من مكانها لتضع النقود في مكان خاصّ تظنّ أنّها الوحيدة التي تعرفه، مع أنّ أفراد الأسرة كلّهم يعرفون المكان، لكنّهم لا يظهرون ذلك. ثمّ تحضّر السيدة وفاء العشاء. بعد تناول العشاء، وجلي الصحون، وحين ينام الجميع، تصبّ السيدة فاء استكاناً من الشاي لنفسها وتجلس وراء طاولة المطبخ الصغيرة، لتضع أمامها ورقة تبدأ بتكهّن تكاليف الشهر القادم: اللحم، الفواكه، الرز، جوارب لياسمين، قسط التلفاز، ملابس داخلية للسيد فاء، صيانة البراد، خيوط الكروشيه لحياكة وشاح العنق لبَرديا. ثمّ تحسب تكاليف الشهر المنصرم. إذا تعادلت تكاليفُ الشهر المنصرم مع راتب السيد فاء، فهذا لا يسرّ السيدة فاء. تشرب ببرود جرعة من الشاي، لتبدأ بعد لحظات تدقّ دقّات غير منتظمة على الطاولة بأصابعها المتورّمة قليلاً، وهي تحدّق في أزهار غطاء الطاولة النايلون. ثمّ تنهض لتطفئ ضوءَ المطبخ وتدخل السرير. وإن زادت تكاليف الشهر المنصرم عن راتب السيد فاء، وهذا قلّما يحدث، فإنّ السيدة فاء تُبعد عنها استكان الشاي، كأنّها لا تليق به، ثمّ تمسك رأسها بكلتي يديها، وتبقى حزينة لعدة أيام. في الأيام القادمة تصغي إلى برامج الطبخ التلفزيونية بدقّة أكبر. وتقرأ طريقة الطبخ في المجلات النسائية التي استعارتها من الأصدقاء والجيران. (هي لا تنفق مالاً أبداً لشراء الكتب والمجلات)، تريد تعلّم طبخ أطعمة رخيصة. كم تشعر باللذة، وهي تضيف إلى الرز بالعدس المتبقي من اليوم السابق شيئاً من الماء والبصل المقلي ومن اللحوم المتبقية من المرق الذي طبختها به قبل يومين، وبطريقة مبتكرة من دون أن تستعين بالراديو والمجلة. تأخذ الطعام إلى الطاولة ليأكله أفراد الأسرة وهم يقولون: "ما أطيب هذا الحساء!"، وتبتسم السيدة فاء وهي تقول في سرّها: "العشاء الرخيص!".
هناك أيضاً بعض الشهور، وهي نادرة، تكون تكاليف الشهر المنصرم أقلّ من راتب السيد فاء. في هذه الأوقات تبتسم السيدة فاء، وتحتسي استكان الشاي حتى آخر جرعة فيه، كأنه جائزة نالتها لجدارتها، وهي تضع يدها تحت ذقنها ملقية نظرة عبر نافذة المطبخ على حوش البيت. الحوش في هذا الوقت غارق في الظلمة، فلا ترى شيئاً، لكنّ ذلك ليس مهمّاً، فلا تريد السيدة فاء أن ترى شيئاً. السيدة فاء فرحة فقط.
اليوم الآتي يوم جيد. ليس مهمّاً أن تنزل الثلوج أو أن يكون الجو حارّاً جدّاً. المهمّ أن السيدة فاء ذاهبة إلى المصرف، لتدخّر ما تَوفّر في الشهر المنصرم، بالتساوي، في حسابين فتحتهما باسم ولديها الاثنين. في طريقها تحلم، وهي لا تشعر بالثلج الذي يزحف من ثقب في أسفل الحذاء إلى الداخل، ولا تستطيع حرارة الجوّ إلّا أن تصنع حلقات رطبة وعفنة تحت إبط السيدة فاء. السيدة فاء تفكّر الآن، تحسب، تخطّط. "لعلنا نستطيع بهذه النقود إيفاد برديا إلى الخارج لإكمال دراسته. وحين أرادت ياسمين الزواج، فبإمكاننا إعداد "جهاز" يليق بسمعتنا بهذه النقود". ويتجاهل الذهنُ بقوة سحرية قانون الزمن لينسحب من أحلام المستقبل إلى ذكريات الماضي البعيدة.
كان يوم ميلاد برديا يوماً حارّاً من أيام الصيف. ما أجمل هذا الوليد! كان بوزنه البالغ أربعة كيلوغرامات، بطلاً. لم يكن شيء ينقص "سيسمُوني برديا"؛ أربعة ملابس داخلية، اثنا عشر بنطالاً صغيراً، اثنتا عشر صدرية للطفل تُربَط بأربطة زرقاء، حيكت باليد عليها صور الأرانب والفئران والحمائم وحيوانات أخرى. كانت والدة السيدة فاء قد بذلت كلّ ما بوسعها لإعداد سيسموني. بالإضافة إلى أربعة وعشرين حفّاضاً من حفّاضات القماش التقليدية حيكت على كلّ واحدة منها وردة حمراء، كان هناك بعض الحفاضات الحديثة تستعمل لمرّة واحدة، وكان قد بدأ شيوع استخدامها آنذاك. كان الحفاض الحديث غالياً للغاية، لكنه كان ثمناً معقولاً للفت النظرات المعجبة لأسرة السيد فاء والأقارب والجيران. لقد حافظت السيدة فاء إلى حد الآن على تلك الحفاضات التي لم تعرف اسمها قط، كما لم تستخدمها أبداً. لقد حافظت عليها في حقيبة سفر كبيرة بُنية، وضعت فيها أعزّ ما لديها في الحياة: ملابس حفل زواجها، أوّل حذاء لياسمين، دفاتر واجبات بَرديا وياسمين المدرسية في السنة الأولى من دراستهما الأساسية، وأشياء أخرى كثيرة. البيت صغير، ومكانهم ضيق، لكن السيدة فاء تقاوم في كلّ مرة يرتفع فيها صوت احتجاج كلّ من ياسمين أو برديا قائلاً: "ارمي هذه الحقيبة الكبيرة القبيحة خارج البيت". وتفكّر وتخطّط لتفسح المكان لكتب برديا أو أغراض ياسمين، كي تبقى الحقيبة الكبيرة القبيحة في البيت الصغير.
سواءٌ في الثلج كانت أم تحت أشعة الشمس، فإنّ السيدة فاء لا تذهب إلى المصرف إلا ومعها ذكريات الأمس أو أحلام الغد. قد تأبّطت دائماً "جزدانها" الأسود، فحزام الجزدان لا ثقة فيه نظراً إلى امتلاء المدينة باللصوص وسارقي الجزادين.
يشبه وصولُها إلى المصرف الوصولَ إلى بيت صديق قديم. هي تعرف السيدةَ تقي زادكان، مديرة المصرف، منذ زمن طويل، منذ يوم دخلت المصرف لأوّل مرّة لتفتح حساباً لبرديا. كانت السيدة تقي زادكان آنذاك موظّفة هيفاء خلوقة. خلقها الجميل باقٍ إلى حد الآن، لكنّ جسمها تغيّر. تحبّ السيدةُ فاء كثيراً مهارة السيدة تقي زادكان في إدارة شؤون المصرف والموظّفين، وخاصّة أنّها تعرف أنّ للسيدة تقي زادكان ابن وابنة أصغر سنّاً قليلاً من برديا وياسمين. ترحّب مديرة المصرف بالسيدة فاء كأنّها صديقة حميمة. تأمر بتقديم الشاي إليها، كما تسأل عن ولديها، ثمّ تتحدّث لها عن ولديها، وخلال هذا الحوار الأمومي تردّ المديرة على الهواتف، وتوقّع الكتب، وتقول لموظفّي المصرف ما عليهم فعله.
في طريق العودة تفكّر السيدة فاء في السيدة تقي زادكان، وفي جمعها بين شؤون البيت والزوج والأولاد، وبين عمل مليء بالمسؤولية كمديرة المصرف. ثمّ تقول في نفسها: "لعل هذا ليس صعباً كثيراً. لو كنت بقيتُ في مصلحة التعليم والتربية، لكنت الآن رئيسة قسم من أقسامها". لكنّها تعلم جيداً أنّها لم تكن آنذاك تحبّ عملها كثيراً، فحين طلب السيد فاء يدها، وهو يصرّ على تركها العمل، قبلت ذلك بأريحية. لكنّ ذلك لا يمنع من أن يركض إلى رأسها شعور قريب جداً من الحسد أو الغبطة. تقول وهي تدير المفتاح في باب البيت الخارجي: "التي تعمل لا تستطيع أبداً العناية بزوجها وأولادها بشكل جدي". وتفتح الباب بتبريرها هذا، لتعطي نفسَها هدوء الحوش وبيتها النظيف دائماً.
أحياناً فقط، في جزدانها قليلٌ ممّا وفّرته من النقود في الشهر المنصرم. بعد عدّة أيام تمضيها بين التردّد والتفكّر والتروّي، تقرّر أخيراً أن تشتري لنفسها شيئاً بهذه النقود. جوارب نايلون أو طرحة. بعد صراع في كلّ مرّة مع ضميرها، والتذرّع بعدّة مبرّرات لبذخها، وبعد إلقاء الأعذار لزوجها وحتى لولديهما، تعتريها أحوال حين تريد أن تشتري شيئاً، لا تحبّ أن يراها أحد فيها. في النهار حين تكنّس ويوجعها ألم في ظهرها، تذكر ذلك الشيء فتزداد سرعة في الكنس مثل دمية أُسرع تحريكُها. حين تصاب بألم في رجلها نتيجة الوقوف في طابور شراء اللحم أو الخبز، ينسيها ذكرى ذلك الشيء ألمها. تنهي الكنس، وتشتري اللحم والخبز لتعود إلى البيت. تغسل وجهها ويديها، وتمشّط شعرها، ثمّ تقترب بهدوء من درج، أو خزانة. تتلفّت راصدة الأصوات، خوفًا من أن يراها أحد. هذه اللحظات النادرة هي لحظاتها الخاصة في الحياة. تشعر بالذنب من خصوصية هذه اللحظات ومن أنّ ليس هناك لأحد من زوجها وأمها وولديها، حصة فيها. لكنّها لا تستطيع الوقوف في وجه هذا الإغراء الذي ينتابها بين فترة وأخرى. تخفيفاً لعذاب ضميرها، تلجأ دائماً إلى لحظاتها الخاصّة، بعد أن أنهت بدقّة واجباتها كلّها. البيت أنظف من أي وقت. الغداء أو العشاء جاهز. الملابس مغسولة مكوية. في هذه الأيام النادرة تطيل السيدة فاء زياراتها اليومية إلى والدتها. فهي تلقي السمع أكثر من الأيام العادية إلى كلام العجوز، وهي تشكو من ألم في رجلها، وانتفاخ في بطنها نتيجة أكل البطيخ في الليل، وأن جارتها قدّمت الحساء المنذور لسواها من الجيران، وامتنعت عن تقديمه لها. وتستمع بتأنّ وصبر إلى ما تقوله والدتها، ويمنعها الشعور بالذنب الذي ينتابها في اللحظات القادمة من أن تقول لأمها إنّ ألم الرِجل شيء عادي لمن في سنّها، ولا يأكل أي عاقل نصف بطيخة في الليل، وإنّ الجارة لم تعطِها الحساء لأنّها هي أيضاً لم تقدّم "الزردة" لهذه الجارة في شهر المحرّم السابق.
تخرج من الدرج أو الخزانة طرحة أو جورباً ملفوفًا بورق الهدايا. هي دائماً تطلب من البائع أن يطوي لها الغرض الذي اشترته منه في ورق الهدايا. تقول إنها "هدية". في كلّ مرّة يحمرّ لونُ وجهها من كذبها هذا، لكنّها تعود وتكرّر الكذبة نفسها. رؤية ورق الهدية الملوّن وفتحه، يجعل الشعورَ بلذّة اللحظة أعمق لديها. تنزع الأشرطة اللاصقة بهدوء عن ورق الهدايا، كما تفتح طيّاتها، لتُخرج غرضاً صغيراً تضعه أمامها تحدّق فيه.
"لما نذهب لزيارة مدير السيد فاء الجديد، سوف أرتدي هذه الطرحة".
"أما الجوارب ... ربما أعطيتها لياسمين".
ثمّ تضع يديها تحت ذقنها لتفكّر، وهي تحدّق في ورق الهدايا، بمدى السعادة التي تعيشها. لها زوج لا يؤاخذ بذخَ زوجته، مع أنّه ليس ممّن يسرفون في إنفاق المال. لها ولدان سَليمان: ياسمين التي يقال عنها جميلة وقورة، طبخها ممتاز. وبرديا الذي له قامة أطول من جميع أقرانه في العائلة، مستوى دراسته جيّد، ويطمح أن يصبح مهندساً معماريًا. لديهم بيتٌ مريح ينقذهم رغم صغره، من حياة الاستئجار وتملّق صاحب البيت. فماذا تريد المرأة من الحياة؟ تقول السيدة فاء في نفسها: "أنا سعيدة".
إنّ السيدة فاء سعيدة. وتحرق لها والدتها كلّ صباح من أيام السبت شيئاً من الحرمل.


* نقلا عن احوال البلاد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى