عزيز تبسي - موسم العطور..

موسم العطور" بقلم: عزيز تبسي

آخر تحديث: November 2, 2015, 11:04 pm

أحوال البلاد

أحوال البلاد
إنهم يطلبون المزيد من العطور.
يقول الباعة، الموزّعون على الأرصفة وناصيات الشوارع، ومواقف انتظار الحافلات، وبوابات الحدائق والمشافي والمستوصفات والمراكز الحكومية. حيث لم يبق مكان في شوارع المدينة وساحاتها، خالٍ من بائع عطور، تكاثروا حتى لتحسبهم طوابع لا نهائية على أوراق معاملة حكومية.
من أين أتى كل هؤلاء الباعة؟ بعضهم، الأكبر عمراً، كانوا قبل سنتين أو ثلاثة، من أصحاب الحوانيت الفاخرة في أسواق المدينة القديمة، تلك التي كانت موكبًا متلاصقًا من البهجتين المعمارية والبشرية، لتمسي اليوم كلها لا بعضها، أرضاً مهجورة رابضة تحت أنقاضها وحرائقها وخرائبها ودفائنها. عجائز، أو بالأحرى رجال كبار السن، ارتسمت على جباههم هموم سنوات التعب خلف المهنة. تعلموا خفاياها وأتقنوا مزج خلاصات الورود البلدية التي يحضّرونها بأنفسهم، بكدٍ طويل وبحثٍ في البراري عن نباتات وزهور مجهولة.
يستقطرون منقوع خمائرها في أنابيق، ويعيدون مزجها بأقساط دقيقة، للتفرّد بالوصول لعطور مخصوصة، يدرجونها في باب المهارة والخبرة المتراكمة بالتجريب والاختبار، لاستحواذ ختامي على "سر المهنة" وامتياز الرواج. لكن أغلب الباعة الجدد من الشبان، الذين اعتمدوا على خلاصات عطرية جاهزة، تحمل أسماء لامعة، تنتجها مخابر أوروبية وآسيوية مختصة، يكتفون بعد إقناع المشتري بها، بتمديدها بالكحول ووضعها في عبوة تناسب الكمية.
العطور الجديدة، الآتية من أسماء لامعة، اعتلت سلالم الفن والموسيقى والرياضة والأباطرة الجدد، مكثفات كيماوية في عمومها يجري إعادة مزجها، وتمديدها بالماء والكحول، ووضعها في زجاجات يغلق فوّهتها مرشاش، وعبوات بلاستيكية صغيرة تغلق بكرات من المادة البلاستيكية ذاتها، يخرج سائلها بعد تدليك خفيف على المكان المتوجب تعطيره.
وكأن الناس يريدون الخروج برائحة عطرية، تخفي رائحتهم.
رائحة عرق التعب والحرارة اللذان جفّا على ملابسهم، وأغلقا مسام جلودهم. رائحة الأجساد ومفرزاتها بعد تركها لأسابيع من دون استحمام، رائحة اليأس الذي هدّ عافيتهم، وانتزع الدم من قلوبهم كما المصل من خلاياهم. رائحة الخوف التي دفعتهم لاعتناق مسالك السلاحف والقنافذ. رائحة عفن الأقبية التي يقيمون في جوفها، والبيوت التي يخشون فتح نوافذها. رائحة الأتربة الرطبة العالقة في ثيابهم. رائحة الحنين لأهل غابت مصائرهم، رائحة الدم الجاف، الرابض تحت ضمادات يخافون الإفصاح عن أسباب جروحها، ليتجنبوا التورط بما هو أشدّ هولاً من جراحها.
يغادرون منازلهم بآثار مسرفة في التبرج، المستكمل بضوع عطور مدوخة، علها تُسكر الزمن والوقائع. لكنها كذلك إيذان مضمر، لرغبة مخنوقة في تضليل عسف الحياة، التي تفلّتت أطيابها وتهالكت فتنتها واندحر ضوؤها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى