ادوار الخراط - رائحة لن تعود أبدا..

كان حسّه بالفقدان الذي لا يعوّض، عميقاً
قال: الحياة ذهبت.
عادت إليه فجأةً رائحة الفولكس واجن القديمة، من أولى سنوات السبعينيات. رائحةٌ فيها أثارةٌ من اللبن الطازج، والمنيّ، والبنزين وعطر "لافام" الذي يعرفه من رامة.
قال: رائحة الخصوبة. رائحة الدينامية. رائحة لن تعود أبداً
قال: وليكن، لن تعود. ما الذي يعود قطّ؟ أية أهمية لهذا كلّه؟
كانت هي التي تقود الفولكس واجن، كالمعتاد، تصعد الربوة العريضة المسفلتة، بعد أن تركا "مينا هاوس" بكل بذخه التاريخي المُتداعي نحو تدهورٍ فيه أناقة الشيخوخة وكبرياء آخر القرن التاسع عشر، وقد صدمهما نور القمر الباهر المؤلم في سطوعه القاسي
كانا قد أخذا كأساً في الردهة الفسيحة الخاوية بالليل، وكانت السلالم القديمة تصعد من وراء القبوة المخطّطة بالبني والبيج - على نمط مباني الجوامع - وكان هو يعرف طعنة الحبّ ومتعة صنع الحب في غرفةٍ علويةٍ وجانبيةٍ تطلّ نافذتها العريضة الحارّة على صحراء متموّجة ويلمح منها قمّة الهرم الكبير المكسورة تحت سماءٍ داكنة الزرقة.
أوقفت رامة السيارة على مبعدة، قليلاً من الطريق المسفلت، على مسطّح مستوٍ من الرمال الصلبة النقيّة، ونزلا. كانت قدماها سمراوين، في حذائها الصغير، يضغط عليهما الجلد الثمين الناعم، فتبرز لهما نعومة مغوية، وهي تسير ببطء في الرمل، الجيبة القصيرة الواسعة تتموّج فوق فخذيها الكبيرتين.
قال: أحبس طوفان الشوق والحب، أحجز أمواجه العارمة التي تهدّد بتدمير كل شيء لو أنّني أطلقتها.
قال: هل إذا دفنتُها في رمال نفسي المتحرّكة تموت؟ أم تزداد شراسة حياتها؟
عندما وقف تحت الحجر الهائل، ونور القمر يسقط على أضلاع الأحجار الراسخة، ونظر إلى أعلى، رأى أنّ السماء نفسها قد أصبحت حجراً من هذه الأحجار الألفية التي جرّدها الزمن عن كل توشية، وأعطاها هذا اللون الرمادي الأبيض الذي هو لون السماء نفسها في هذه الليلة، هو لون نفسه الداخلية في توقه إلى الأنوثة المحبوسة إلى جانبه، بكل ما تحمِلُ في طواياها من احتشادٍ وحنانٍ مكتوم.
الصخور الضخمة قد فقدت حوافّها بين النور المشعشع وغواية الظل الشاحب، كأنّها ذابت، وهي مع ذلك بكل صلابتها، هل أحجار السماء ناعمة ولا يهزّها شيءٌ أبداً؟
حجر الحب رازح وساطع الظلام.
بعد نصف الليل، في تلك الأيام لم يكن ثمّ حرَسٌ ولا عساكر بوليس ولا وجود حتّى لأولئك الحمّارين والجمّالين والخيّالين الذين ينكّدون عليك بإلحاحهم الثقيل؛ "وان باوند مستر"، "إين ليفرمسيو". كانت الصحراء الأبدية نقية، وكأنّها مُلكٌ لهما. كأنّها هبةٌ لا يمكن رفضها، ولكن قبولها فوق طاقة الاحتمال.
كانت الأرض تحتهما صخرية، وقطع الجرانيت الصغيرة متناثرة عليها صغيرة وكبيرة ناتئة الحوافّ أو مشطوفة نعّمتها السنوات. وجدَا بقعة رملية ناعمة - جزيرة لا زمن فيها وسط شظايا الزمن - وأحسّ دفء الرمل تحت قدميه.
ودون كلام، ودون تمهيد، كان ما يجري أمامه لا يُصدَّق، وله سطوة الحلم وخفّته معاً، لا يُناقش ولا محل لإنكاره.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى