أحمد عبد المنعم رمضان - الفتى الطاير

المشهد غريب للغاية، أرى السماء ساطعة من فوقى وضوء الشمس يغمرنى والأرض بعيدة عنى، لا تمسسها قدمى .. وموقفى سيئ للغاية، فأنا معلق فى الهواء، لست معلقاً على مشانق موتى، ولكن غريب الأمر أننى معلق فى شرفة منزل، بلكونة يعنى، وأغلب الظن أنه ليس منزلنا لأنه منزل علوى، كما لو أنها ناطحة سحاب فى إحدى الحوارى، فبالرغم من أنه ليس منزلنا، إلا أنه شارعنا الضيق الصاخب الملئ عن آخره بالورش والعمال والصنايعية والأطفال الذين يلعبون الكرة والأمهات اللاتى يحدثن بعضهن عبر البلكونات، يتدلى من تلك البلكونة شىء ما، قد تكون ملاءة أو قطعة من الملابس، شىء من هذا القبيل، شىء ما مصنوع من القماش، لا أستطيع أن أحدد هويته وأنا معلق هكذا فى الهواء، فأنا ممسك بأطراف هذا المخلوق القماشى المتدلى من شرفة هذا البيت العلوى، ويبدو أن تلك القماشة ثابتة فى شىء ما داخل الشرفة، وهو ما يجعلها تحملنى ولا تنزلق من بين أطراف أصابعى، ومن حسن حظى التعيس، أن تلك الخرقة أو القماشة متماسكة نوعاً ما، لم تكن مقطعة أو مهربدة، فتحملنى معها إلى أسفل سافلين.
يدى تتصبب عرقاً، والعرق يتساقط على وجهى، وعينى تنظر عالياً نحو سماء مشرقة، وكأنه ليس يوم موتى، وقدمى تتحرك فى الفضاء وكأنها تبحث عن قطعة أرض تتلمسها، مازلت أتشبث فى تلك القماشة، ويدى تنزلق رويدا رويدا، وأعصابى تنفلت من زمامها، وعيناى تطلبان العون ولكن ما من معين، لا أسمع أصوات المارة فى الشارع، ليس فقط لأن الشارع بعيد جداً عن موقعى الفضائى، ولكن أيضاً لأنى لست بحاجة أن أسمعهم فى هذا التوقيت بالذات، كنت دائما أهتم بكلام الناس وحكاياتهم السخيفة التافهة التى كانت تمثل بالنسبة لى الحكايا الأكثر إمتاعا والأكثر أهمية، كما كانت النميمة هى إحدى هواياتى المفضلة تماماً مثل النساء، أما الآن فأنا لا أسمع إلا شيئاً واحداً، صوت تمزق الخرقة من بين يدى، فهى لا تحتمل جسدى الممتلئ عن آخره، طالما نصحنى والدى أن أكون رشيقاً، فإن ذلك يزيد الصحة ويطيل العمر ولكنى لم أكن أهتم، الآن علمت قيمة تلك النصيحة، لو كنت أقل وزناً من وضعى الحالى لظللت معلقاً فترة أطول فى تلك القماشة الملعونة.
خيوط الخرقة تتفكك من بين يدى، والخرقة تتهتك أمام عينى، لم أكن أعلم يوماً ما أن تهتك خرقة بالية مثل تلك سوف يكون مشهداً مؤسفاً مؤلماً ومميتا إلى هذا الحد.
فلتت يدى...
فلتت يدى وسقطت من أعلى الكون إلى أسفله، عيناى انفتحتا عن آخرهما لأرى كل شىء ممكناً فى تلك اللحظات، فرأيت شرفات منازل كل الجيران ورأيت وجوه المشاهدين فى الشرفات ونظرات الشفقة فى أعينهم، رأيت أسلاك الكهرباء والتليفون والمواسير والجدران ورأيت أشياء لم أهتم أن أنظر إليها أبداً، فأنا لم أعتد النظر إلى أعلى وقضيت معظم حياتى ناظراً إلى الأمام، أو مغلقاً عينى من الأصل، كان الوقت طويلاً جداً ما بين سقوطى إلى حيث هبوطى، أحسست أننى أحيا حياة أخرى طويلة جداً، وجاءنى إحساس غامض أن نهاياتى لم تأت بعد، وأن حياتى سوف تمتد قليلاً أو كثيراً، لا أعلم حقاً متى سوف أموت ولكنى أظن أنه ليس الآن.
لم أشعر أبداً طوال حياتى بشدة الهواء مثلما أشعر به الآن، كم تعانى تلك الطيورالصغيرة الرقيقة، التى ترافقنى الآن فى الجوار، لم ألحظ أبداً أنها رائعة الجمال قبل الآن، أشعر أنها تنظر إلىَّ كما لو كانت تود أن تنقذنى وتحملنى على جناحيها إلى حيث الأمان، يبدو أنها مخلوق طيب لم يتسن لى معرفته من قبل.
أعتقد أننى اقتربت من الأرض، فإن حرارتها تفوق حرارة الشمس، أشعر بلهيب يحرق جسدى وأنفاس حارة تتجول من حولى. هل يا ترى هل هناك أحد ينتظرنى فى الأسفل ليستقبلنى على ملاءة بيضاء مثلما يحدث فى الأفلام التى استغرقت حياتى فى مشاهدتها، أم أن أحداً لا يهتم بحياتى سواى، إن كنت أنا أهتم أصلاً، والمخرج غائب عن تصوير مشهد النهاية، أخذنى التفكير فى تلك اللحظات التى قد تكون الأخيرة لى فوق تلك الكرة، عمن سيفرح بنهاية عمرى ومن سيحزننى فراقه ومن سيحزنه فراقى، ومن أتمنى أن يلقانى ويكون فى حسن ِاستقبالى، أفكار حمقاء، ولكن حياتى لم تسمح أبداً بأن أفكر فى تلك الأشياء، فقد كنت مشغولاً جداً بالتفكير فى أشياء أكثر حماقة.
يوم جديد، شمس مشرقة، بالتأكيد هو ليس يوم موتى أو اعتلائى المشانق، أغسل وجهى الملىء بآثار الرحلة الطويلة، وأنظر إلى ساعتى الغالية جداً، وقبل أن ألاحظ التوقيت، ألاحظ آثار الخدش الذى أصاب واجهتها، ثم ألاحظ أننى كالعادة متأخر جداً عن عملى، أسرع فى تجهيز نفسى من أجل أن أخرج إلى ذلك الشارع الذى كنت أطير فيه منذ ثوان معدودات، نزلت إلى أرض الشارع، أنظر فوقى، أتأمل تلك الشرفات وأسلاك الكهرباء والتليفون والمواسير والجدران، ولكنى ما ألبث أن أنظر أمامى وأسرع خطواتى نحو العمل، كما اعتدت أن أفعل حتى الأمس.

أحمد عبد المنعم رمضان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى