عبد الرزّاق بوتمزّار - اللوحة الأخيرة

(مهداة إلى سعيد حاجي)

بعدما انتهيتُ من محادثة حكى لي فيها تفاصيل حكايته مع زائرته اللّيلية الاستثنائية، صرتُ أتوجّس من كلّ ظل أو خيال أو حركة أو سكون. انقلبت علاقتي بالمكان، التي ظلّت مبنية، طيلة أيام وأيام، على التساكن والتآلف، إلى حالة حذر وتوجّس دائمة. إن تحرّكت مجرّدُ ذبابة تافهة حولي خلتُ أنها هي، تلك المخلوقة الغريبة التي زارت صديقي في مرسمه.
تلبّستْني الحالة؛ الخوف القديمُ من شيءٍ ما، يُرعبني، لغايةٍ ما، لا أدري ما تكون. حالةُ التطهّر؟ أتلازمُني حتّى مع هذه القصّة العجيبة للوحةٍ وقعتْ عليها عينا كائن من عالَم آخَر؟ منذ مدّة، لم أعش حالة التطهّر؛ هل تردّت الفرجة السينمائية أم إنّني لم أعد أشاهد الأفلام المُطهِّرة حتى في التلفزيون، فبالأحرى في قاعة سينما؟ السّينما!.. لا شكّ أنّ ما حدَثَ في اللّيلة لصديقي الرسام لم يكن سينما. كنتُ قد أطفأتُ النور حين كتبتُ الجزء الأول من القصة بوحي مما حكى لي، وهو يستعيد تفاصيلَ مشهد غير ممكن...
درفتا باب البلكون مفتوحتان؛ أتركهما مشرعتَين قليلاً حتى يطرد الهواءُ المتسلل منهما رائحة دخان الغرفة ريثما أنتهي من عملي أو يطيب نومي. بعد أن أطفأتُ ذلك المصباح اللعين، في تلك الليلة، وقد شرعتُ في تدوين حكاية اللوحة الأخيرة، عرفتُ أنني سأعيش الحالة، لن أتمكّن من النوم! شيءٌ ما يتربّص بي خلف باب البلكون، الذي تركتُ درفتَي بابه، اللعينتين، مُشرَعتين قليلاً.
-مِن بين شُقوق نافذة قريبة ظهر في المكان جسد نورانيّ هلاميّ طغى حضوره على المرسم، خلب لبّي وجعل كل ذرّة في كياني ترتجف بلا توقف...
قال صديقي. ثم تابع:
-لم أكن، يوماً، ميّالاً إلى تصديق مثل هذه الظواهر ولا مؤمناً بكثير ممّا يقال عن هذه الكائنات. كنتُ غارقاً في نشوة توجيه حركة الخطوط وضبط تدفّق الألوان وحسن مزجها، وأنغامُ موسيقاي المفضّلة تهزّ الفضاءَ الخاليّ إلا مني ومنهم...
-مَن؟ مَن هم؟
أوقفتُ تواليَ سطوره في المحادثة الفورية المكتوبة.
-كنتُ أعرف أنك ستسألني هذا السؤال بالتحديد.. قد تضحك ممّا سأقول لكنْ -وَالله- لقد زارتْني. كانت كما حورية ترفُل في ثوب أبيضَ شفّاف حدّ الإدهاش. وجهُها، "الجميلُ جمالاً غيرَ بشريّ"، جعل عينَي تستقرّان عليه، وقد انعدمتْ صلتي تماماً بعالمِ البشر طيلة المدة التي استغرقتْ زيارتُها لي. صدّقْ أو لا تصدّق، لم أكن أحلم! كانت الساعة الثانية صباحا، وأنا أرسم هذه اللوحة المشؤومة، حين ظهرت لي. انسابتْ ضاحكةً بثغرٍ ملائكيّ فتنَني وجعلني أبُول في سروالي وأنا واقفٌ، مسلوباً من كلّ قواي، وعيناي لا تستطيعان أن تُفارقا أجمل وجهٍ رأتا، في واقع أو في لوحة. ثم اختفت بعد دقيقة؛ والله إنني لا أحلُم! سمعتُ ما يشبه حفيفاً قادما من خلف الباب، ثم رأيتُ طيفَها ينساب، خفيفاً، برشاقة مذهلة تليق بمخلوق نورانيّ انبثق من اللامكان، من اللازمان، إلى داخل المرسم. وإن لم تُصدّقْني، استدرك، بخفّة ظله المعهودة، سأجعلها تزورك لتأكل من عدَسك.. ههههه.
قال صديقي الرسام.
سألتُني، للمرّة الألف: "لماذا أطفأتُ المصباح اللّعين وتركتُ درفتَي الباب، اللعينتين، مفتوحين؟"..
-اقتربتْ من الطاولة على يميني. تأمّلتْ، ببسمةٍ بروعة المستحيل، الكتبَ والجريدة وقنينة الماء والمشروب الحليبيّ الرخيص وقشور ليمون وبقايا عنب وعلبة سجائر وأدوات الرسم. كأن ثغرها السّاحرَ ضرب لجسمي المنهك مساميرَ شلّت أطرافه فوق السرير.
"لماذا تركتُ الباب مشرعاً، لماذا؟ كيف أطفأتُ النور وأنا أكتب هذه القصّة الأخيرة؟... أقصد قصّة هذه اللوحة الأخيرة. اعذروني، أنا مريض. نعم، منذ حكى لي عنها وأنا مريض".
-أنا الآن مريض، مضطرب فكريا الآن... أفكر في زيارة طبيب.
قال صديقي الرسام، الذي لم يعد يسعد بالرسم بعد تلك الليلة. ثم تابع:
-أظن أن الطابق السفلي للعمارة مسكون بالجنّ. ربما أزعجتُهم بضجيجي في ذلك الوقت المتأخر فأرسلوا إليّ تلك الحورية الجميلة لتنبيهي أو تحذيري. لقد أفرغتُ كل محتويات محترَفي ولن أشتغل فيه مجددا؛ بل لا أظنني سأرسم أبداً بعد تلك الليلة! صديقٌ قال لي: من جميلِ سعْدك أنها جنّية مْسلْمة؛ لو كانت كافْرة لكانت تلك نهايتَك! والحقّ أنها لم تؤذني. كيف لذلك الجمال أن يؤذيك، ولو كان لكائن من عوالمَ أخرى!؟ لا، لم تكن جميلة، بل كانت الجمالَ مُجسّداً. حولها تنبَثّ هالةٌ من نور أبيض لا يوصف. كلّ شيء فيها شفّاف بكيفية مستحيلة. حتى جسدها شفّاف! نعم، وجهُها وجسدُها وعيناها وثغرُها النورانيّ وشعرها ورداؤها.. كلّ شيء فيها شفّاف، كلّ شيء فيها لا يُصدّق. كنت خائفا جداً ولم أنتبه إلى جسدها كثيرا، لكنّ وجهها جميل جداً جداً...
تابعتْ سيرَها بخطوات بلا صوت، كما لو كانت تطير في الأرجاء. نظرتْ إلى الجهاز في حجري وإلى سطور كنتُ بصدد خربشتها. ثم دنتْ من حافة السّرير. سرَتْ لملمسِ شعرها، الشفّاف مثل قنديل بحر في حكاية خرافية، قشعريرةٌ في مسامي؛ مواتٌ لذيذ استبدّ بكلّ الأطراف إلا جهة ما في الجسد اللّعين، استسلمتْ تماماً لرعشةٍ شيطانية، رغم غرابة المشهد.
"يا إلهي، لقد تطهّرتُ. رجاءً، كفى!"...
صرختُ. لكنّ المكان، الذي صار عدائياً في المدة الأخيرة وغامضاً ومستفزّاً بدون سبب ظاهر، خنق الصوتَ في مهده، في حنجرتي. هل أنا أحلم، إذن؟ أكنتُ أهذي؟.. ماذا قلت، لا! أنا لا أحلم؟ آه! ربّاه، متى أنتهي من هذا الحلم، من هذا الواقع المستحيل؟
-صرتُ أفكر في مغادرة العمارة. الجيران لا يعرفون شيئا بعدُ. لكنّ المكان كلّه بدأ يضيق بي.
قال صديقي، ثم تابع:
-كيف أستطيع الرسم بعد الآن؟ كيف أقدِر حتى على إنهاء هذه اللوحة غير المكتملة؟! كنتُ أرسم ذلك الكرسيّ، هناك في وسط اللوحة، بين الخطوط، حين ظهرتْ، ليُستلَب المرسمُ والموسيقى واللوحات وَ... الرسّام.. زوجتي، حتى الآن، لا تُصدّق ما وقع، تظنني أُهلوس...
قاطعتُه:
-ربّما فقط لأنها مْسلْمة شغلَك أمرٌ ما عن التدقيق في جسمها. فلو كانت كافْرة لأتيحتْ لك، ربّما، فرَصٌ أكثرُ للنظر في أماكن أخرى في جسدها؛ فتنظر إلى أسفل، مثلا، فترى حافرَين، عِوَض قدمين، فتكون نهايتك.
-لا... قال لي صديقٌ خبير بهذه الأمور إنّ أقدامهم لا تظهر لنا نحن البشر.. والحقّ أنّني -مسلوباً بقوة غريبة- ركّزتُ على وجهها دون غيره. لقد عشتُ موقفاً مرعبا جداً. تمكّن مني الهلع وجمدتْ أطراف جسدي وحواسّي. لن أستطيع أن أشرح لك ما عشتُ مهما حاولت!
ابتعدتْ قليلاً وظلت تراقبُني، وحول ابتسامتها الملائكية هالةٌ من نورٍ لا يوصف وشفافية وسكينة عجيبتين.
ربّاه! هل أنا أحلم؟ لقد تطهّرتُ. (رغم هول الموقف، فكّرتُ: لمَ لمْ أشعل، على الأقل، نور التلفون اللعين قبل أن تتسلّل، في الظلام، إلى الغرفة اللعينة؟)...
صوت بعيد يصلني من مكان ما، في زمن ما، في قصّة ما لا تريد أن تكتمل.. حكاية اللوحة الأخيرة.
-كنت أرسم الكرسي الأحمر عندما ظهرتْ.. سمعتُ صوت رياح وضحكات خفيفة "ها ها ها"، ثم رأيتُ ضوءا أبيضَ يملأ المكان. مرّت بجانبي، تنظر إليّ وإلى اللوحة. تسمّرتُ في مكاني غير مصدّق الأمر. ظننت أنني أحلم.. لا، لم أكنْ أحلم؟ كيف بلتُ في سروالي واقفاً، إذن، لو كنت أحلم!؟
قال صديقي في تلك الليلة.
في الليلة الموالية، قلتُ لي، وقد أطفأتُ النور ونسيتُ باب البلكون، اللعينَ، مفتوحا:
كنت أحاول وصف ذلك الكرسي الأحمر في اللوحة عندما ظهرتْ.. سمعتُ صوت رياح ولم أسمع أيّ ضحكات؛ جاءتني وحيدة.. هل زارت صديقي الرسامَ مجدّدا وأرسلها لتُفسد ليلتي؟ رحت أسألني. ضوءٌ أبيضُ يشعّ في المكان. مرّت بجانبي؛ تنظر إليّ وإلى الجهاز. "كان يرسم الكرسي الأحمر حين ظهر له طيف الجنّية"، كان هذا آخرَ ما كتبت. خشيتُ أن تنظر إلى الجهاز وتقرأ الكلمة الأخيرة تحديداً فيكون حتفي، لا محالة. تخشّبتْ أطرافي وتكلّستْ حواسي كلها، غيرَ مصدّق ما أرى. للحظة، ظننت أنني أحلم.. لا، لا، لم أكنْ أحلم، وإلا... كيف بلتُ في سروالي وأنا أنقر حروف هذه الكلمات اللعينةَ في أفق القبض على... حكاية اللوحة الأخيرة!؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى