تقوى سعيدانة - أدب الثورة في كتابات بوراوي سعيدانة

يجمع المفكّرون على أنّ الثّورة لا تقوم "بالطّفرة الفوريّة والارتجال"، قبل أن تكون قد سبقتها مراحل تهييئيّة، وممّا يهيّء لها نذكر الأدب، والأدب الثّوري على وجه الخصوص. وأديبنا، تونسيّ الجنسيّة كانت له إصداراته وإبداعاته الّتي نشرها كاملة ومتفرّقة قبل اندلاع الثّورة التّونسيّة بعد أن ضيّقت عليه السلطات طيلة سنوات عطائه الأدبي والإبداعي. لذلك، يطرح السّؤال عن مدى تجلّي أدب الثّورة في كتابات بوراوي سعيدانة؟ لكن، قبل الخوض في هذا التّساؤل، وجب أن نشير إلى ماهيّة أدب الثّورة.

أدب الثّورة
عند البحث في هذا المصطلح، طالعتني تعريفات متباينة لأدب الثّورة تجتمع في جملة من العناصر ويفرّقها عامل الزّمن. فهناك من قصر أدب الثّورة على المؤلّفات الأدبيّة الّتي تعقب الثّورة، وهناك من اعتبره ذلك الأدب الّذي يتزامن مع الثّورة. ومنهم من تحدّث عن أدب لا يكتب في أثناء الثّورات ولا بعدها مباشرة، وإنّما هو يحتاج إلى نوع من التأمّل والتّدقيق لذلك هو يكتب بعد فترة يأخذ فيها الأديب وقته للإلمام بموضوع الثّورة".
ويرى الدّكتور محمّد حسن عبد الله (أستاذ الأدب والبلاغة بكلية دار العلوم بجامعة الفيّوم المصريّة):" بأنّه بالرّجوع للطبيعة التّغييريّة للثّورة، فإنّ الأدب يتحرّك وفق ثلاثة محاور قبل الثّورة وفي أثناء الثّورة وبعد الثّورة. فالأدب قبل الثّورة له طبيعة إسقاطيّة أو فعل التّصريح، والأدب في أثناء الثّورة له صفة الدّعم أو البثّ المباشر، والأدب بعد الثّورة فيقوم بدور الرّصد والتّوثيق".
أمّا الدّكتور جورج حنّا، فقد عرّف الأدب الثّوري في كتابه (معنى الثّورة) بقوله : " إنّ الأدب الثّوري هو ذلك النّوع من الأدب الّذي يخلق الوعي في النّفوس ويعمّقه فيها، ويصف الحقيقة على وجهها العاري، وببساطتها، كي يعرفها الشّعب ويدرك قيمتها، إنّه الأدب الّذي يفتح عيون الشّعب وبصيرته على الحقيقة ويفتح الأذهان المغلقة على حقيقة الثّورة وضرورتها وأخلاقيّتها". ويختم بقوله: "هو الأدب الّذي يلهب النّفوس الخاملة، المستسلمة، المتواكلة كي تبصر وتعي، وتتحسّس وتتألّم، وتستيقظ وتعمل".
ويضع الدّكتور حنّا لأدب الثّورة جملة من المميّزات، أوّلها: أن يأخذ هذا النّوع من الأدب بالحقيقة، والحقيقة هنا يقصد بها تلك الواقعيّة لا النّظريّة. ثانيها بأنّه أدب إنسانيّ لأنّه يرتبط بالثّورة، والثّورة تختصر معنى الحياة. وهو أدب شعبي لأنّ مرجعيّـته تتمثّل في الجماهير، وهو أدب تقدّمي لأنّه يدفع إلى الأمام. والميزة الأخيرة برأيه هي أنّ أدب الثّورة يتميّز ب"التّفاؤليّة" باعتبار أنّ الثّورة تنبعث من الأمل.
ومهما اختلفت تعريفات أدب الثّورة فإنّها تتّفق على أنّه أدب يوعّي القارئ ويكشف أمامه حقيقة الواقع الّذي يحيط به ليدفعه نحو التّغيير.
ولعلّ تاريخ الثّورات الّتي عرفها العالم في قرون سابقة، أثبت بأنّ لكلّ ثورة أدباؤها الّذين مهّدوا لها وفتحوا الطّريق أمامها حتّى تخرج الجماهير للسّاحات وتعلو الحناجر رافضة للاستبداد منتفضة ضدّ آلته. فالثّورة الرّوسيّة سبقتها أعمال أدبيّة تدعو لها وتحرّض على الحاكم المستبدّ ككتابات "تولستوي" و"غوغول" و"تشيكوف" و"غوركي"... والثورة الأمريكيّة ضدّ الاستعمار البريطاني سبقها إلهاب للنّفوس ودعوة إلى طرد المستعمر من طرف الأدباء "توم يين" و"بنيامين فرانكلين" وغيرهم، والثّورة الفرنسيّة أشعل نارها كلّ من "فولتير" و"مونتيسكيو" و"ميرابو" و"دانتون"...
فللأديب، في مجتمعه، دور لا يمكن الاستهانة به، فهو كما يقول "فولتير" "راعي مجتمعه" (Le berger de sa société) ، وهو برأي "مكسيم غوركي" : "مهندس النّفوس"، وعلى رأي جمال الدين الأفغاني: "صاحب القلم لا يحتاج إلى عصا". تلك العصا الّتي لم تكن بحاجة الأديب بوراوي سعيدانة لأنّ عصاه كانت في قلمه الّذي ألهب النّفوس ودعاها للتغيير.

بوراوي سعيدانة وأدب الثّورة
أشهر سعيدانة قلمه في وجه نظام الحكم الظّالم، وراح يميط اللّثام عن منظومة الاستبداد الّتي تغلغلت في وطنه الأخضر ليكشف الحقيقة البشعة المعاكسة للصّورة الّتي لم يلبث الإعلام والأدب يغطّيها وينمّقها. فأخذ يصدم القارئ ويخاطبه بلغة خشنة تنبذ استسلامه وتحرّك دفين إرادته، فيصف البشر ب"الكائنات ذات الأذيال"، ويسوّي بين الضّحايا وجلاّديهم، الأولى منبوذة لاستسلامها والثّاني لعنفه. وفي ذلك يقول الدكتور فرج الحوار ( أستاذ جامعي وكاتب تونسي) عن نصوص بوراوي سعيدانة: " يعتمد سعيدانة في نصوصه برمّتها على مفاهيم الفوضى والنّظام، والنّعيم والشّقاء، والمعنى والّامعنى، تجعل من الإنسان مسخا، ومن العالم زريبة يسكنها خليط من البهائم والسّرائم، تتراوح طباعها بين المسالمة إلى حدّ الجبن، وبين العنف إلى حدّ التّصادم". ويضيف: " يصوّر بوراوي سعيدانة الكون برمّته كصورة مشوّهة لجنّة مفقودة ومرتقبة يتعيّن على الثّائرين وحدهم البحث عنها وإحلالها محلّ الجحيم الّذي ابتزّها مكانها".
لذلك، يورد بوراوي سعيدانة في مجموعته القصصيّة الأولى "أخبار حمدان القرمطي وأتباعه" بأنّ : "الثّائرين هم القادرون على التّغيير، وفي التّغيير وحده يكمن جوهر الوجود".
وما يلبث أن يستهجن قبول المواطن بالذّل ورضوخه للظّلم، فيقول سعيدانة: " لا رأي لمن يأكل خبزه ممرّغا بالتّراب". ويذهب إلى أبعد من ذلك عندما" يهزّ وعي القارئ بعنف، فيشحنه بالغضب على مصائر الطّيبين ويدعوه للتّفكير لماذا كائنات هشّة ومسالمة تستحقّ كلّ هذا العنف. فالكائنات المسالمة كالكائنات الشّريرة يجب الخلاص منها لأنّ الخير وحده لا يكفي، يل يجب أن يكون مدعّما بالقوّة والوعي الحاد". (والقول للنّاقد المصري سيّد الوكيل)
فمالذّنب الّذي اقترفه صابر، في أقصوصة "سارق الشمس"، سوى أنّه كان يمشي حذو الحائط ويلقي صلعته اللمّاعة لشمس وطنه، فلم تكن نهايته إلاّ أن قطع رأسه ودفن في العراء، فآلة الاستبداد لا ترضيها حتّى هكذا أحلام بسيطة. ومن خلال هذه الأقصوصة أحال سعيدانة إلى سرقة الحاكم لكلّ شيء في وطنه، فأورد على لسان صابر: "لقد سرقوا عرقي وعرق وطني وهواءه وأنفاسه، فلماذا لا أسرق أنا شمسه؟!".
ولم يكن مصير "عبد التوّاب"، في ذات المجموعة القصصيّة "مزالق المهالك"، أفضل من مصير صابر، فهو الّذي خانته زوجته فضبطها متلبّسة بجرمها وهرع إلى الشّرطة التّي كعادتها تلكّأت في قضاء شؤون المواطنين وتراخت في ضبط الزوجة ، لتنقلب في نهاية القصّة التّهمة على عبد التوّاب ويسجن هو. فالأديب التّونسي، من خلال ما يقدّمه من نصوص إبداعيّة، هو يعرّي الحقيقة لشعبه ويزيل القناع عن واقع بشع يهان فيه الإنسان في اليوم ألف مرّة، واقع تشوبه المغالطات والكذب والرّياء. ففي مؤلّفه الأخير " حفل تأبين ثقافي" يكشف مهاترات المسؤولين ومغالطاتهم بقوله: " فالوزراء أيضا هم من العرّافين لأنّهم يتنبّؤون بمستقبل باهر كلّما سئلوا عن مصير كارثة أو مصيبة، ومع ذلك فهم لا يملكون التأشيرة القانونيّة لممارسة مهنة العرافة".
وهاهو، يلقي الضوء على المحاكمات غير العادلة للمساجين السيّاسييّن في وطنه الّذي وصفه بأنّه تحوّل إلى سجن كبير،وعلى تعذيبهم بأبشع الطّرق، فيقول: " لا يظنّن الّذين حوكموا في محاكم الحقّ العام من أجل تهم تمسّ بالنّظام العام والإخلال به أنّهم سيرتاحون من مشاقّ أوضاع "الدجاج المصلي أو المشوي"، فإنّ ما ينتظرهم في السّجون المدنيّة أتعس ممّا رأوه في دهاليز الدّاخلية والخارجيّة".
وهاهو يتحدّث عمّا لا يجوز الحديث عنه من تقييد لحريّة الإبحار على الانترنت، إلى جانب حريّة المراسلة، فيقول: " وبما أنّ الحكومة تخشى على مواطنيها من التلوّث، فإنّها تنبّههم بأنّ الإبحار في شبكة الانترنت حرّ بدون قيد أو شرط ما عدا بعض المواقع المغرضة الّتي تكلّف زائريها زيارة إلى بيوت خالاتهم لا تقلّ عن العشرة أعوام سجنا." ويضيف: "وقد تفتح الرّسائل العاديّة والطّرود البريديّة وتراقب المكالمات الهاتفيّة وتقرأ المراسلات الإلكترونيّة وغيرها من وسائل الاتّصالات البشريّة وغير البشريّة. ولا غرو في ذلك، ما دام حالنا أصبح كحال الأمريكان والبلدان الديمقراطيّة الذين اقتنعوا بعد الحادي عشر من سبتمبر العظيم بحسن خياراتنا وتوجّهاتنا." وهو لا يسخر من الحكّام فقط بل من الشعوب أيضا، وكثير من قصصه تقوم على فضح السياسات العربيّة المتناقضة والخانعة، ففي قصّة (قرار من مجلس الأمن الدّولي) يظهر العرب ككائنات مثيرة للغضب أكثر ممّا تثير الشفقة ( والقول لسيد الوكيل، راجع مقاله : "أدب الغضب والعنف عند بوراوي سعيدانة").
فيحيل سعيدانة إلى خيار الثّورة صراحة ضدّ ما وصفه "بالاعوجاج التام" ، فيقول: "ما رأيكم لوتجمّعتم يوما في ساحة من ساحات البلاد؟ أم أنّكم ترون الأمور مستقيمة كالمسطرة لا تستحقّ عويلا أو لطما أو أنّ الأمر يتطلّب تأشيرة دخول من القنصليّة الأمريكيّة أو العبريّة؟". ولكنّه ما يلبث أن يستدرك : " ولكن من يجرؤ على إلقاء النّار في التّبن إلاّ متهوّر عقد العزم على أن يدفن في تربة غير تربته".
إذن، فإنّ بوراوي سعيدانة يقدّم : " أدبا ملتزما يتجلّى عنده الالتزام بتغيير الأوضاع القائمة، بصفته أدبا مناضلا يتوق إلى تغيير العالم. فيتحدّد الأفق المعرفي والإيديولوجي لنصوصه ضمن فضاء الثّورة والرّفض بامتياز." ( والقول للدكتور فرج الحوار، راجع مقاله" إيجابية العدم في "أخبار حمدان القرمطي").
إلاّ أنّ سعيدانة يدعو إلى ثورة في الأدب حتّى تتواءم النصوص الإبداعيّة مع هموم الشعوب ومشاغلها، ويعيب على الأدباء تعاليهم وغرورهم، ليقرّ بأنّ الأدب وحده لا يكفي للتّغيير فيقول : " هل الأمّة بحاجة إلى إبداع ومبدعين حتّى تتذوّق طعم الحريّة والكرامة؟ وهل يتغير العالم بالكلام والإبداع؟ إنّما الإبداع جبن وعناء على الورق وتعب ومشقّة، وكلّ ذلك لا يغيّر مجرى التّاريخ ولا قنواته ولا يغيّر رسم خرائط الدّول أو حدودها.." وهكذا، قدّم بوراوي سعيدانة لأبناء وطنه الصغير تونس ووطنه العربي الأكبر أدبا ثريّا غنيّا ملتزما رافضا ثائرا فانتفضت الشعوب لكنّها لا زالت تحتاج إلى من يوعّيها ويوقظ حسّها بأخلاقيّة الثّورة وبعدها الحقيقي، فمن يا تراه يكمل الطّريق ؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى