إسماعيل غزالي - وقائع غريبة قد تحتاج إلى دلالة

إلى وجدي الأهدل وحسن بلاسم


ما من شك أني شاركت الشيطان حساءه هذا الصباح :

لا للوقوف المقيت على الرصيف ، بانتظار الحافلة المعطوبة ،رقم "7"، التي ستقلني إلى قعر المدينة حيث أضحك على نفسي، فيما يشبه ،وظيفة لاتليق إلا بخنفس . أقول . فأركض من لقاء لحظة عابثة ، وراء عجيزة أنثى ورافة الجهتين . أخطط للإيقاع بها في أقرب شارع تنعطف إليه . يرسماها خيالي عارية في سرير ويحير في واجهتها الأمامية . أدخن سيجارة وأناأوبخ عطب فكرتي الماجنة . لم أعتد اركض وراء خلفيات النساء . وسريري الذي نضج برصيد لابأس به من ريش دجاج نافق ، شاهد على أن الأمر كان يحدث كيفما اتفق دون عناء ترتيب . كلامي الخالي من كولسطرولهن ، كما هو زنخ عند أغلب الأصدقاء ،من عبدة البياض ، غالبا ما يثير شبهة خلل ما، يبرر أو يقف وراء انصرافي عن أعراضهن ، أو حتى التباهي برائحة تلفيق كذب عطن ، تمجد أسطورة الفحولة البليدة . في أردأ الأحوال ، هي عجيزة يمكن أن تفتح شهية النهار الذي تقرر قبل قليل ، من الآن ، ودون رجعة ، التمرد على إيقاع طقوسه ذات الرتابة الشنعاء وإن بتبعات وخيمة . لابد من قلبه كمصران معزاة . ها صاحبة العجيزة الفاخرة تنعطف في شارع صغير ، يتيح الإنقضاض العاطر بوابل من دسائس الكلام السخيف ، وهو ما لم يعتد عليه لساني الفظ ولا حاول مرة السقوط في ابتذاله . يتمهل حماس خطوتي بعد أن وقفت عند هاتف الرصيف وهي تلتفت كلية لتعطيني – بل لتهب نظرتي بناءها الأمامي ، بينما ، تدخل بطاقة في ثغرة ميغناطيسية وترقص أناملها على رقم ، كنت أود أن أكون صاحبه لو لم أكتشف بأسف عظيم ملامح وجهها البشع . فزرعت الخطوة خارج الوجهة إليها وأنا أردد بإلقاء شعري مايمكن أن يكون أول جملة شقية في قصيدة أفشل من نجاحها وأنجح من فشلها :
- لو لم يخذلك الوجه الغادر ايتها العجيزة الفاخرة...
ومع ذلك، أواصل سيرة الإنقلاب على عادات النهار الفاسدة . أشرب قهوة بنكهة الأعشاب في مقهى حقير .، صاحب المقهى الذي بلغت به شطحات العمر الحافة المرتقبة، يتحرش بالنادلة الجديدة . أخبرتني وهي توقد لي سيجارتي الثانية :
- لااعتقد أن هذا النهار سينهي بخير...
- وهل تعتقدين أنه بدا بخير لينتهي به؟
هذا ماسيأتي جوابه حينا ، بسقوط شخص من الطابق السابع للعمارة المحاذية . سقطة قاتلة، جعلت مخه يندلق من أنفه وأذنيه . حصلت هذه الفظاعة بالقرب من طاولتي وأنا مفجوع من أمر الجثة التي اختارتني الشاهد الأول على هول الإصطدام ، وقفت خلالها على مغادرة كلاب الروح لحديقة الجسد ، الآيلة إلى قمامة وتلاش محزن . هل من علاقة بين عجيزة الأنثى وسقوط الجثة ؟ يخمن سؤال عربيد في رأسي . أفلت بين زمرة المحتشدين وهم ينتناسخون ويتفاقمون وأنعطف في زقاق ضيق ،اعتقدت أنه يفضي إلى شارع جانبي . زقاق طويل أكثر مما ينبغي ، تتشعب فيه الإلتواءات وتتناسل دهاليزه حتى يخال المرء أنه مقذوف داخل سجن سري . ومع أنني لم أعر شكل السماء انتباها، لم أستطعم بتاتا كيف تلبدت سحبها اللقيطة، بهكذا سرعة خارقة ، وأجهشت بمطر اندلق ببطء ، قطرات ثقيلة، ثم احتدت وتيرته بشراسة مصحوبة ببرد ضالع في الرجم . فتح باب أزرق . ادخل .قالت سيدة ودخلت كمتشرد بانتظار أن يعتدل مزاج السماء العكر . تفضل .قالت . وتغلغل حذائي الذي أبى إلا أن يربض على العتبة . لاتقلق ، فبعلي لايؤوب إلا مساء متأخرا ،تضيف وهي تزرع كأس شاي في يدي . أنا امرأة مدمنة على حب على الغرباء. تسترسل وهي تقذفني بوسادة تصهل بمديح الطروز . أضعها تحت ظهري وأنا أستشيرها بإشعال سيجارة .فتخرج واحدة من شق ثدييها ، تمسدها بحنان شبق ، توقدها بولع وتمدها لي لأتنسم رائحة حشيشها في الحين . من شهر والزقاق موحش لم يطأه حذاء غريب تواصل . كلماتي الحقيرة عبثا تناور وتسقط باهتة مثل ذباب في صحن تعرض لمسحوق إبادة جماعية وامتنع عليه ألق التحليق . أدخن اللفافة و تزغرد رأسي . أضحك بدون سبب . وإن كان من سبب منطقي فلإني أتامل حذائي المارق أوبخه بعد أن بالغ في شطط استعمل سلطته وتجاوز كمين العتبة إلى هذه الفضيحة التي لن تنتهي إلا بإثنين لاثالث لهما : سجن أو موت . على الحائط أمامي لوحة / بورتريه ،لوجه امرأة أحاول العثور في قمامة ذاكرتي على شيء راسب يدلني على ملامحها . تبالغ بالسؤال عن أحوالي المهنية والسكنية و .... وأتشبت بسؤال واحد ، أحد ، عن اللوحة . اقتنيتها من بائع جوال للأشياء المهملة تقول ... لاأنجح في تذكر اللوحة وأنجح في تذكر قصة لم ترقني لكاتب فاشل ، يعتور خياله الترهل ، أزهقت بها وقتا ضائعا عن امرأة تستدرج ضحاياها من الرجال ،بأشكال موهوبة من الغواية وتقتقلهم بسكاكين ومدى وتلقيهم في بئر عميقة ببيتها ...مستلقيا على بطني فوق طاولة جانبية ، ستشتغل أصابعها تدليكا على أعضائي المتعبة ، ورأسي تطارد غيمات مزعجة تود أن تصحو أشياؤها على فهم واضح لما يحصل . قصابة أجساد هذه المرأة ، تطارد بيدها لوثة الدم في قلق العضلة المجنونة . في اللوحة أزرع النظرة بعيدا كي أستنبت مايمكن أن يقيني ويصرف عني بشاعة المخ الذي اندلق من أذني وأنف الجثة . لو أن صاحبة العجيزة الفاخرة تمتلك هذا الوجه الشاسع الغموض والوسامة ؟ لكانت وجهتي قد أخذت مصيرها البهي ، بخلاف ماأنا فيه الآن من لبس اللحظة وجسامتها . مايشبه دق مسمار يسمع في الحائط الجار . ربما يتعلق الأمر بتثبيت صورة على الجدار أو ترسيخ أواصر مشجب . وهو ما سيجعل اللوحة تسقط ويتهشم زجاج إطارها على شاكلة مثلثات . سقوط غير متوقع جعل أعضائي تهتز وهي تغير من أريحية الوضعية الحميمة ، فيرتعش جنون العضلات أكثر وعيناي مباغتة بكل هول الدهشة من السكين اللامع نصل غدره ، في يد المرأة وهي شارعة في ارتكاب جريمة ، كنت سأقع ضحية ساذجة لها على مايبدو . تندلع ضحكا وهي تلحظ تموجات الرعب العالية الضغط في أطرافي . تلقي بالسكين بعيدا وهي تقسم بشيئها التناسلي ، محاولة إقناعي بأن الأمر لايعدو كونه طقسا وحشيا من طقوس تحريض الرغبة وإنضاجها . أتلقف ثيابي قطعة ، قطعة ، ألبسها كيفما اتفق . تنقض علي مستعطفة وهي تبالغ في إعادة تكييف اللحظة . أدفعها عني بكلتي يدي ويتراجع جسدها إلى أن يصطدم بالحائط وتسقط مغمى عليها . أنفض عن اللوحة شظايا زجاجها . ألففها بجريدة وأقذف جثتي من الباب إلى الزقاق وأركض دون وجهة واضحة، أتسلل في الدهاليز .. كأنني مطارد ، تدور بي المسالك دون أن أعثر على ثغرة تفضي بي خارج المتاهة . أتوقف لحظة شائكة على انتباهي وأنا أوبخه إذ اكتشف أن الأرض صلبة والسماء بازرقاق شائع تعربد فيه شمس حقودة . ولاأثر أبدا لعلامة مطر ، تهاطل في دليل الزقاق قبل ساعتين أو ثلاث من الآن . باب أزرق آخر يفتح ، ينطلق منه شخص أشعث الرأس ، يشهر مدية والشتائم السوداء والويل يندلق من فمه كرصاص غاشم . فيما يمكن أن يفهم من خطابه الفحل، أنه يتوعد امرأته التي قيل بزعم منه ، أدخلت غريبا إلى داره بنوايا انتقام طاعن له ولنكتة عرضه وحماقة شرفه . أتحاشى زعيق مروره بالإنعطاف في نفق يشبه جسرا أرضيا . تطمئن أرانب حواسي من اكتشاف سوق صغير لبيع المهمل من الكتب والخزف وأدوات الديكور المستعمل واللوحات والساعات ذات الماركة المزيفة . ..الخ ... شخص أغبر يتقدم نحوي . بكم تبيع اللوحة ؟ يسألني . الآن اقتنيتها من بازار الشارع الخلفي أجيبه وينصرف ... أدخن ونظرتي سائبة على الفوضى الحزينةالمعتملة في كآبة المكان :
امرأة تكشف ثديا مترهلا لبائع فاكهة يقايضها بموزة . كلب يتبول فوزق حذاء شريد على سفح عمود إسمنتي . امرأة تعوي بدون سبب . رجل أبرص يبيع السلاحف البرية . كتب مبتورة عارية تفضح مصارينها ، يؤوي إليها الغبار كلما فقدت رائحة الشعر . زجاجات خمر فارغة باذخة الأشكال . قيثارة فاقعة فقدت حبالها الصوتية . ناي قصب معطوب الحنجرة . منفضة نحاسية منقوش في بطنها شبح آدم المعتوه وحواؤه الشبقية . حمار ينهق في قعر الزحام، مثقل الجانبين بجلود الدباغين . بغل سبقه تغوط دون حرج وشاعت رائحة روثه الطازج . مظلة بدون ساق وكسور ضلوعها مزدوجة . عجوز في خيمة ينفخ في جمرات وأمامه طابور من جمهور يعاني أفدح أمراض الروماتيزم وداء المفاصل بانتظار دور الكي . شخص عابس يبيع عقاقير من خلف صندوق سجائر . فتاة عانس تبيع كعك الخيبة . عجوز متهالكة ضبطت وهي تسرق تبانا . مومس رخيصة مثل شحم فاسد تبحث عن زبون متعفن . عازف كمان ضرير يقتات بأغنية "العلوة ". بائع السردين النتن يرفع صوته بآخر صندوق ، يعدد الدراهم بانتظار سهرة عربدة غير محمودة العواقب في وكر معلوم..........

ثم هاهي ذي تمطر من جديد وأنا لاأستطعم كيف تلبدت السماء بهكذا سرعة ، خارقة ، وأجهشت برذاذ انطلق ببطء قطرات ثقيلة .واحتدت وتيرته بشراسة مصحوبة ببرد ضالع في الرجم . سيارة زرقاء ، فارهة ، ضلت طريقها اعترضت خطوي الراكض . ينزل زجاج نافذتها ويطل وجه أنثى شقراء مشتهاة طبعا، تسألني عن سينما (الغراب الأبيض ) . تشتغل ذاكرتي بمرونة كما يليق بالمقام وترسم لها دليل الخارطة نحو قاعة السينما . تبتسم لي وتثغو بفرنسية منسابة شاكرة صنيعي . مفعول الإبتسامة الخرافية أنساني في المطر الأهوج المتهاطل . أتدارك، فأركض إلى رصيف سقيفة . أوبخ صنيع الذاكرة الرخيصة التي فاجأتني بهكذا إشراق تفاصيل . كيف غاب عن البلهاء ذاكرتي لحظتها ، أن وجه الأنثى الشقراء هو نفسه وجه فتاة اللوحة /البورتريه . ستلوح ليعني ثغرة من أدراج تخللها مراحيض مخربة . أتسلق الأدراج لأجدني فوق الجسر :

شبه هضبة، أطل منها على المدينة الواطئة التي كانت آدميتي تنتمي إلى وحلها ، قبل قليل، لولا عبث المصادفات هذا . ترتبك بحيرة استذكاراتي من جديد . أدخن سيجارة وقد غاب عني رذاذ المطر باكتشاف صورة الجسر المألوفة جدا أمامي . هو نفسه الجسر الواطئ الذي كانت تطل عليه شرفة الغرفة المأجورة بمدينة الأبراج أيام درلااستي الجامعية . هنا ، يشطر برق السماء من فوقي . وبرق ثان مضاعف ، يشطر دماغي إذ أضرب كفا بكف وأنا أستبلد نفسي واستهجن خرف ذاكرتي المغفلة . فالغرفة كنت أتقاسمها مع صديق رسام . وأغلب لوحاته الإنطباعية، كنت الشاهد الأمين الوحيد لسيرة ولادتها وأحوال وتحولات تشكلها ، قبل أن تأخذ هويتها الأخيرة المفتوحة ... ومنها اللوحة / البورتريه التي أتأبطها الآن . أمزق الجريدة التي تلففها ويتأكد لي يقين حدسي الأول من لحظة رؤيتها في بيت المرأة الغريبة المشبوه . كيف فات على جمرة نباهتي فحص التوقيع الذي يفصح عن إسمه . أشير إلى طاكسي صغير، مارق ، وأملي عليه وجهة السينما ، فالأنثى كانت عازفة بيانو . مدمنة على المسرح . وتمارس الباليه . صفات وإن كانت تنسحب على ميولات بورجوازية بمنطق المرحلة الحماسية تلك، فأغلب الأطراف المتعاطفة مع كتلة يسارية حمراء ، كانوا يطاردون ظلها بكل مفاوز المدينة . ترددت لفترة على الغرفة كرفيقة لصديقي الرسام . وغابت في قلب الموسم لأسباب غير موثوقة ، فأصابت صديقي الرسام حالات قاتمة من الهزال والرماد والإضمحلال، وكانت اللوحة التي أتابطها من ثمرات اللحظة الوجودية المزمنة . أيعقل أن يكون مصير اللوحة هذا إبطي بعيد انصرام عقد من الزمن . أحث السائق على إسراع ممكن بغية خيط أمل ضئيل جدا ، هو أمل الإلتحاق بها وتسليمها اللوحة الموشومة . على الرصيف المحاذي لسينما ( الغراب الأبيض ) تقف سيارتها الفارهة وسط طابور من رواد المكان . دون أن أسال حارس موقف السيارات ، سأحصل على تذكرة وألج القاعة . هي فرصة لأقف على لون ذائقتها ، فلا يمكن لوجودها هنا إلا أن يكون عن اختيار مشاهدة الفيلم الذي احترمت وقته المضبوط ، المخطوط ، بدفتر مفكرتها الصغير . ومن يدري ربما هي في القاعة كذريعة للقاء شخص عزيز . هي ذريعة أيضا لأبدد عضلة من وقتي بإتلاف مخيلتي المزعجة ، آملا أن تكون قصة الفيلم جديرة بكل هذا التعب :

( تبدأ قصة الفيلم بشخص يركض وهو يحمل لوحة . تطارده جمهرة من العامة بالهراوات والسكاكين . ينعطف في شارع جانبي ويتسلل داخل زقاق ضيق يشبه متاهة أرضية . باب أزرق يفتح أمامه . يدخله لاجئا ويختفي فيه إلى أن تيأس الجمهرة من التنقيب عنه في جيوب الزقاق وتتفرق . يتضح فيما بعد أن البيت الذي اقتحمه وكر دعارة . تستضيفه امرأة الوكر بوابل من التعاطف وتسدي له خدامات الإقامة إلى حين . يخبرها بأنه مطارد من ميليشيا لسبب تافه جدا هو أنه كان يشتغل في شركة وهمية نصبت على الناس وهو نفسه ضحية ساذجة لها . سيغادر مساء وقد غير شكله بعد أن يهديها لوحة عزيزة ستعلقها على حائط البهو . بذات المساء ستقع مشادة بين نادل مقهى حقير في رأس الشارع وممتلكها تنتهي بكسر زجاج الواجهة وتهشم عدد وافر من الفناجين والكراسي . نتيجتها الوخيمة طرد النادل بتدخل من البوليس . شخص يشبهني سينام مع صديقة له بعمل سابق تدس له حبة هلوسة في فنجان صباحه انتقاما من عدم وفائه بالإرتباط بها ويأسا من التعويل على علاقة بائسة لاأمل في استمرارها الذي لايفضي إلى خلاص عقد زواج . سيتلذذ بشرب قهوته فيقع فريسة مهرجان من التحولات والتهيؤات . مع أنه استقل من عمله مدة تربو على الشهر . سيخيل له أنه مايزال يمارس مهنته المقيتة . يلبس بدلته الرسمية مع أن اليوم عطلة . في طريقه إلى موقف الحافلة سيقرر فجاة الإضراب عن العمل . تثيره عجيزة ممتلئة لامرأة وارفة . يركض وراءها مثل سلوقي للإيقاع بها في أقرب شارع . مع أول التفاتة لصاحبة الخلفية العظيمة وهي تستعمل هاتف الرصيف سيخيب باكتشاف بشاعة وجهها . كانت تهاتف على مايبدو زوجة الدبلوماسي السابق الشقراء لتفضح لها زمن الوصل بالأندلس . سيجلس بالمقهى الذي وسمناه بالحقارة ليشرب فنجانا اخر . بانتظار سقوط فكرة خلاص تدمي رأسه أملا بتغيير الوجهة إلى مصير رائق . تتمتم له النادلة بجملة في أذنه . لحظتها يسقط شخص من بلكونة الطابق السابع للعمارة المحاذية . وبفحص جثته سيتضح أنه دبلوماسي سابق . مخه المنسكب من أنفه وأذنيه جعل صاحبنا يقف باشمئزاز وينفلت هارعا ليتخلف عن الجوقة المحيطة بالجثة الدامية . صاحبة العجيزة المزمنة لم تشهد حادثة الإنتحار تلك وهي معنية بالأمر مادامت الشقة في الطابق السابع من ملكيتها . في الزقاق الضيق الممتد بلا نهاية سيداهم المطر صاحبنا وهو يبحث عن ثغرة تقذفه خارج المتاهة الأرضية التي يكتشفها لأول مرة . تثيره الممرات والدهاليز والمسارب ويفكر بحكاية دائرية يخطط لكتابتها على شكل سيناريو . باب أزرق يفتح أمامه مع تضاعف وتيرة هطول المطر . هو نفسه الباب الذي اقتحمه صاحب اللوحة مساء البارحة . تستضيفه امرأة الوكر بحفاوة مشبوهة بينما تتعلق نظرته باللوحة المعلقة على حائط البهو . لايثق أبدا في ما سردته له من الأعمال الجليلة التي أسداها الوكر للبلاد، كانت وراء دحر الإستعمار في الماضي القريب . ورثته عن أم لها بالتبني وهي الآن تدبر شؤونه مع زوج مخنث . تسهب في فضح الوجوه الرسمية التي ارتادت المكان . تسطو عليه هواجس قصة سبق أن قرأها لكاتب سيناريو فاشل، قد يكون هو في الغالب ، عن امرأة تستدرج ضحاياها إلى سرير الموت الذي تنصبه في بيتها . انتقاما لأمها التي ذبحها أب جزار وقصب أطرافها عضوا، عضوا . بذات السكاكين والمدى ترتكب الجرائم وتلقي بالجثث في بئر عميقة داخل بيتها . هذا ما ستقشعر له أطرافه وهو يلتفت إليها بفعل سقوط اللوحة ، بينما كان مستلقيا على بطنه تاركا لها عضلاته المتعبة من أجل طقس تدليك . فيضبط السكين في قبضة يدها وهي تشرع في ارتكاب جريمة . تسقط مغمى عليها وهو يدفعها بضراوة جهة الحائط . يلفف اللوحة في جريدة ويهرع إلى الزقاق راكضا يتخيل جمهرة من الناس تطارده . سيقف عند منعطف دهليز . ينتبه إلى أن السماء زرقاء تماما ولا شيء يدل على أنها أمطرت من شهور . شخص أشعث الرأس يندفع من باب أزرق يشهر سكينا بيده وهو يتوعد زوجته مع نادل المقهى المطرود لشبهة الخيانة . يتسلل في الدهليز المنعطف كي يتحاشى الشخص المرعب وتطمئن أنفاسه لمرأى جسر يغلي بشرذمة من الكائنات تتصايح تحت سقيفته فيما يشبه سوقا صغيرا . بائع لوحات مهترئة يلح على أن يقتني منه لوحة البورتريه ويصر على فحصها . يثبت نظارة بزجاجتين تشبهان قاع كأس يهتف : هذا بورتريه من إنجاز بيكاسو أيها الوغد...
المرأة التي كشفت ثديها لبائع الفاكهة هي نفسها المرأة التي نظفت بيته أكثر من مرة وغسلت ثيابه ... الشريد الذي يدعي النوم تحت عمود الكهرباء هو من انتشل محفظة نقود المرأة التي تعوي وهو يترقب ميلان النهار لاقتناء زجاجة رخيصة... الكلب السلوقي الذي تبول على حذائه كان أميرا فيما مضى يمتلكه صاحب المقهى قبل أن يتوب عن هواية القنص وطرده بعد سرقة طالت مقهاه وبيته ذات ليلة ظلماء نام خلالها الكلب نوما ثقيلا مما سهل عملية الإختلاس تلك ... بائع السلاحف كان يمتلك المقهى المذكور سابقا . ساءت أحواله بزواج من امرأة جلبها من البادية افترت عليه بمعية صاحب المقهى الجديد الذي سيقترن بها كان مجرد خياط نساء حقير ... صاحب الكتب المعروضة على الرصيف بدأ شاعرا للقصيدة العمودية. جرب المديح والهجاء والتكسب ولم يلفح ولا مرة حتى في نشر قصيدة واحدة في جريدة صفراء ... بائع زجاجات الخمر الفارغة كان بستانيا للدبلوماسي السابق أيام العز ... القيثارة الفاقعة ظلت تزين حائط غرفته لسنوات يذكر كيف هشمها على رأس جاره الذي اتهمه بالتحرش على زوجته ادعاء وباطلا لكونه غريبا على الزقاق حيث مكان إقامته . .. الناي المعطوب الحنجرة هو لحارس شارع السينما ... المنفضة المنقوش في قعرها شبح آدم وحواء هي هدية من المرأة التي نام معها البارحة وهي صديقة عمله . طالت علاقتهما اليائسة دون أن تثمر ولو بخطوبة ... الحمار المثقل بجلود الدباغين ينهق حنينا إلى صاحبته بائعة اللبن ...البغل دأب على التغوط بالمكان كلما تخلص من رباط العربة الغاشمة وهو يلقي بصاحبه في رصيف غير معلوم من المدينة . وفضاء الجسر كان اصطبلا بالأمس القريب... المظلة ذات الكسور الزدوجة انتشلت من قمامة شقة صاحبة العجيزة الوارفة وهي عشيقة الدبلوماسي السابق... عجوز الخيمة من أقدم المحاربين الذين قاتلوا في الحرب العالمية الثانية وهو يدعي بأنه أسر من طرف الألمان وأفرجوا عنه لسبب طريف بعد أن شفيت ظهر هتلر بكيه الشريف ... بائع أقراص الهلوسة الذي يتذرع ببيع السجائر من خلف صندوق كرطون هو أول حب بالنسبة لصاحبة العجيزة ... الممثل الذي يؤدي الدور الرئيسي في الفيلم هو المسؤول واقعا على اغتصاب الفتاة بائعة كعك الخيبة ... العجوز المتهالكة التي ضبطت تسرق تبانا فلسبب متواضع جدا ومعقول هو أن تبانها سرق منها ليلة البارحة وهي تنام على كرسي المحطة ... المومس الرخيصة نامت مع نصف رجال المدينة لاتجد حرجا في فضح طول وقصر أجهزتهم التناسلية كلما تناولت أقراص هلوسة ... عازف الكمان الضرير الذي يقتات باغنية "العلوة" هو صاحب أول كمان في المدينة وأغانيه كلها مسروقة ومنحولة تذاع عبر الأثير والتلفزة ... بائع السردين النتن سيقبض عليه مساء وهو يغادر الجسر بتهمة قتل امرأة الوكر ... أنثى السيارة الزرقاء الفارهة هي زوجة الدبلوماسي الشابة تخونه مع مخرج سينمائي هذا أول عرض لفيلمه الذي امتنع علي إكمال تفاصيله وأنا اشعر بتقلصات موجعة في دماغي وصدري بسبب اكتشافي أنني كاتب السيناريو الحقيقي ... سيناريو اختلس مني وضاع في غفلة من يقظتي العابثة ذات يوم ولاأعرف كيف سقط بين يدي هذا الصحافي الوضيع الذي انتحله ونسبه إلى إسمه . هو بالتأكيد صحافي عمل معي بنفس فريق الجريدة السابقة .........................)

أبارح الكرسي وأخرج من القاعة لأوقد سيجارة .على العتبة ألمح صاحبة العجيزة الوارفة وهي تفتح باب السيارة الزرقاء، الفارهة ، التي اعتقدتها سيارة الأنثى الشقراء ، موضوع بورتريه اللوحة ... أمنح اللوحة لحارس شارع السينما كي يهديها لبائع اللوحات المعتوه في سوق الجسر، تنويها بفحصه الغريب لها ونسبها إلى بيكاسو... أشير إلى طاكسي صغير وأقفل راجعا إلى البيت بدماغ مشطور إلى نصفين . سينشطر نصفا النصفين من دماغي وأنا أفتح غرفة النوم فأجد نادلة المقهى الحقير في فراشي وهي تقول لي :
- لاأعتقد أن غدا سيمر بخير....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى