أسامة العقيلي - عالم بلا جاذبية

حتى الآن هو تحت البطانية يتقلب .. ساعة .. ساعتان مرتا وهو يمارس تلك الحركات اللاشعورية أو الشعورية .. هكذا هو دائما قبل أن ينام .. لا بد أن تمرّ مثل تلك الساعتين أو أكثر منهما لكي يكتشفَ أنّ الصباحَ يطرق على شباك تلك الغرفة القصية .. يوقظه لممارسة مهام روتينية ، صارت محببة إليه بالإجبار لكنه يكرهها كرها شديدا .. ولكن ... لامناص من ممارستها ..
أغمض عينيه بقسوة كبيرة .. ضغط جفنيه على البؤبؤين ثم فرك بأصابع قدمه اليمين على أصابع قدمة اليسار .. كادت القدمان أنْ تشتعلا .. لم يكن الجو باردا في مثل تلك الأوقات من الخريف .. غير أنه يشعر ببرد شديد .. بردٍ على غير عادة السنين الخوالي .. برد جعله يرتجف فيضم كل أشلاء جسده في موضع واحد نافذا زفيرا حارا تحت البطانية لتصبح الأجواء أكثر حميميّة , ولتتلاءم مع مسامات جلده في هذه اللحظات بالذات ذي القشعريرة المحاصَر بتنملات مليونية اكتسحته بالكامل ..
في عمق عينيه رأى عالما كبيرا واسعا .. إنه عالمه المحبب .. عالمه اليومي .. عالمه اللازماني واللامكاني .. عالمه الذي يصحبه في كل مكان .. ليس من الصعب رؤيته أو الوصول إليه .. ما عليه سوى أن يغمض جفنيه ويضغط عليهما بشدة ..
أشياء هائلة تتطاير بحرية كاملة .. صور من أشياء لا معنى لها تقطع الطرق المظلمة.. مثلثات .. مربعات .. زوايا قائمة ومنفرجة .. أشياء ناعمة غاية في الصغر تتطاير .. تمر مرورا سريعا .. زئبقيا .. تتلاشي ثم لا تلبث أن تعود كأنما تتناسل في مكان ما من ذلك العالم .. صغيرة ومدورة وشفافة كأنما هي فقاقيع صابون ...
طرق كثيرة سوداء .. عمارات شاهقة ليست واضحة يخال أنها اشعلت مصابيحها لكنها ليست بيـّنة للعيان سوى تلك الزوايا التي تلتمع بين الفنية والأخرى ..
طرق مظلمة لكنه يراها .. عالم مجنون لكنه يرى مكوناته تتطاير بعقلانية .. عقلانية ذلك العالم الحر .. عالم تلك الهوة في عينيه المغمضتين بقسوة صحراوية .. عالم مجنون .. نعم .. عالم مجنون يتطاير .. كان عاشقا لهذا العالم الذي يحمله بين عينيه .. هذا العالم القابع خلف عينيه ..
في مثل تلك الساعة من كل يوم يراوده ذلك الأحساس المسحور .. ذلك الاحساس بالانتماء الى عالمه المظلم الحر .. كوّر جسده كي يقفز من خلال البؤبؤين الى ذلك العالم الشيق فارتطم رأسه بالجدار خلفه .. بدت عيناه كفجوتين .. كوّتين تطلان من كوكب آخر .. سأل إن كانت تلك العوالم هي خلايا في نفسه لا يمكن رؤيتها .. سأل عما إذا كان الناس يرون الذي يراه .. سأل إن كانت تلك العوالم تخصه وحده .. شعر بالخوف حين شك بذلك .. ماذا لو أنني سأجد الوجوه نفسها هناك ؟؟
ماذا لو أنه غادر العالم الذي يجذبه للأسفل ليجد كل المجذوبين معه هناك .. لا لا.. ربما سأجدهم قبلي .. يا ألهي .. لا أظن ذلك ؟؟ مستحيل .. لا يجوز .. إنه عالمي أنا لوحدي .. لن يشاركني فيه أحد .. سأرتكب جريمة إن وجدت أحدهم هناك .. نعم سأكون سفاحا .. هل سأقسم على ذلك ..
بعد ذلك الخوف ، تناوشه شعورٌ أخـّاذ ٌ بالحرية .. ذلك الشعور الذي يعم المكان الكبير خلف بابي عينيه .. لم يعرف كيف يقفز ليدخل إليه فينضم بسعادة غامرة إلى عالم اللاجاذبية .. اللاقيد .. الحرية المطلقة ..
مظلم هو .. نعم .. معتم هو .. نعم .. ولكني أرى فيه كل شيء .. ذلك يعني أن هذا العالم المسحور تمثل فيه الظلمة ُ النور َ... ولكن لماذا ؟؟ ببساطة لأنه لا يوجد صباح هناك .. لا زمن له .. لا وحدات لقياسه .. إنه ضياء داخلي .. صباح داخلي لا يشعر به غير القابضين على جفونهم .. غير الهذيانيين أولئك الذين يخربون أنفسهم ودواخلهم ليروا النور .. يفقدون الجمال المحيط بهم ليصنعوا جمالا يظنون أن ْ لا أحد يشاركهم فيه .. يظنون ذلك بسبب هذياناتهم ، أما الحقيقة فهي أن الأخرين يسبقونه إليه على الدوام .. والأسوء من ذلك أن الجميع يمتلك شعورا مشتركا من أن هذا العالم يخص كلَّ واحد منهم .. وهم يعلمون تماما أنهم يكذبون على أنفسهم .. وهم يعلمون تماما أنهم يشاركون الجميع به.. الجميع الذي يهرب كل ليلة بالطريقة نفسها .. الجميع الذي يتوسل النوم بالسفر إلى عوالم نفسية مظلمة فاتحي عيونهم على مصراعيها ليتخيلوا أنّ الظلمة نور .. نور يشع على الفراش وتحت البطانية .. الحقيقة أن ْ لا شمس .. لا نار .. لا مصابيح ..
مرة أخرى تكور وأدخل جسده في عظامه .. تضائل حد أنه تكور كله على المخدة .. لا يعرف كيف حدث ذلك .. لا يهم .. المهم أنني تضاءلت لتتسع إلي ّ تلك الكوة في عيني .. ولكن .. من أية كوة سأدخل .. اليمين أم الشمال ؟؟ أظن أن اليمين مباركة وجهتها مباركة .. الشمال أصحاب النار .. من يدري ربما تكون هاتان الكوتان تؤدي إحداهما للفردوس والأخرى للجحيم .. سأختصر الأمر على نفسي .. إنها اليمنى .. دفع جسده لينفذ من عينه تلك فاصطدم مرة أخرى بالجدار ... أووووووووه يبدو أنني لا أحسن النفاذ .. لا أعرف كيف أجتاز ذلك الحاجز .. فتح عينيه والتقط القلم القريب منه والموضوع على طاولة صغيرة بجانب رأسه .. أمسك الدفتر وخيل إليه أن قصيدة للرد على تلك المصيبة تنتابه الآن .. خربش .. كتب ..
ربما سيأتي ذلك اليوم الذي أفقد فيه جاذبيتي ..
سأطير .. أطير ..
سأرفع رأسي حينها إلى الأعلى ..
لن أنظر نحو الأرض ..
هناك أخرون يبحثون عني ..
ليكتشفوا طريقة موتي السحرية تلك ..
هو هكذا دائما .. ما أن يصحو حتى يجد أن ما كتبه لا يمكن قراءته .. كان يضع إصبعه على الورق ثم يمشي مع القلم على خط يظن أنه مستقيم .. في الصباح يكتشف أن لا خط ّ مستقيما موجود .. لا على الورق ولا في حياته .. فيعيد ما كتب ماسحا تلك السخافات التي يستهزئ بها صباحا .. ههههههه هل هذا شعر .. أيها السخيف .. لا تستسهل الحياة فتختصرها بكلمات تافهة .. إمحو ذلك وبسرعة قبل أن تستيقظ قريحتك الأخرى .. قريحتك الحيوانية فتصفعك على عينك اليمنى ..
ضاعت كل الأشياء .. عاد فأغمض عينيه .. بدأ عالم ٌ جديد ٌ وها هو يراه الآن .. كرات فضية طائرة ، عمارات شاهقة يراها ملونة لكنها مظلمة.. إشارات مرور .. تجاوزت الساعة الثالثة بعد منتصف تلك الليلة .. من أعلى نقطة في الكون كان يطل برأسه ثم يبحلق بوجهه فيضحك .. إنني هنا مرة أخرى .. إنني أطير الآن .. هل ترونني .. أنا أسميكم الآن بأسمائكم .. أيها التافهون .. الكذابون .. المنافقون .. السارقون .. أنتم .. ها أنني أسميكم بأسمائكم ..غدارون أنتم حد أنكم تختنون أخلاقكم بقطع جذورها السماوية.. مستبدون أنتم ومخادعون .. إنني أطير الآن .. ما أجمل ذلك .. لقد غاردتكم وإلى الأبد..عرفت كيف أهرب من تلك الوجوه الملونة التي تخشى الليل .. عرفت كيف أرى في الظلمة .. أعرف الآن تماما كيف أنتقم منكم كلكم .. جميعكم .. من دون أن أريق قطرة ماء من ماء أصلابكم الموبوء ..
انقلب على جانبه الأيسر فسمع قلبه ينبض على الفراش .. كان صوت تلك النبضات واضحا .. خيل إليه أن قلبه ينام إلى جانبه ويلعب مثل قطة هرمة ولكنها نشطة ..أصابه الرعب .. خوف لا حدّ له .. لا أستطيع الإصغاء إلى هذا الصوت ..ربما سيتوقف الآن .. هل تقصد قلبي ؟؟ نعم قلبك .. وهل قلبك أزليّ .. لا بد ّ أنه سيتوقف لحظة ما .. انقلب بسرعة البرق لينام على ظهره .. شبك أصابع يديه على جبينه .. لكنني لم أنم بعد .. هل نمت وصحوت ؟؟ ربما نمتَ قليلا .. أقسم لكَ أنني لم أنم ولم تأخذني سنة واحدة منذ أن وضعت هذه الرأس الملعونة على هذه المخدة المسحورة ..
أوووووه .. أيها المجنون لقد كنتُ في عالم آخر ..
بالله عليك هل كنت هناك حقا ؟؟ أم أنك على وشك الجنون ..
هذا ما تسميه أنت والآخرون .. الآخرون الذين أحاول أن أتلافى لقاءهم .. ولقد واتتني الفرصة أخيرا بالسفر إلى هذا العالم القابع خلف عيني ّ ..
تقرفص طاويا قدميه إلى اليسار فبدا كأنه رشاش كلاشنكوف .. قدماه المقبض وعجيزته مخزن الرصاص .. ضحك في سره من هذا الوصف .. ربما سأبدأ بأطلاق الرصاص لأغيّر هذه الأجواء الرتيبة تحت البطانية .. هههههه
غير حركة قدميه وضم عجيزته إلى الخلف قليلا فبدا كأنه خفاش ملتصق بفراش من حجر .. ضحك أيضا .. وكيف سأنام ؟؟ ها كيف سأنام ؟؟ أية وضعية لا تشبه شيئا ؟؟
لا زلت تغالط نفسَك .. شئت أم أبيت فأنت تنتمي على عالم البراز والمخلفات الحيوانية .. لن تستطيع تغيير ذلك .. أنت تنام وتحمل في جوفك فضلاتٍ كثيرة ً ..غيركَ أيضا أملكا ً كان أم قائدا ً.. شريفا كان أم وضيعا .. كلهم يحملون فضلاتهم معهم ويتبخترون .. فلا تهرب .. هيه يا أنت يا علبة الفضلات الراقد هنا ..
فتح عينيه .. لم تكن الغرفة بأحسن حالا من عالمه البؤبؤي الحر .. غير أن الأشياء فيها ثابتة .. راودته فكرة ٌ حمقاء .. ماذا لو أنّ العالم المظلم الحر الذي يهرب إليه والذي لا جاذبية فيه سيكون مكتضا بالآخرين أيضا .. ماذا لو انهم يتغوطون .. في الهواء الطلق إذ لا جاذبية .. مصيبة .. كارثة عظيمة .. سيصبح عالما من الخراء المحض .. لم يرتح للفكرة ..وربما ساءته للدرجة التي خاف ان يفتقد معها ذلك العالم الحر .. آمل أن لا أجد أحدا هناك.. ستكون مصيبة .. سنسبح بالخراء .. لاشك في ذلك أبدا ... ولكني حتى اللحظة ما صادفت أحدا هناك .. لعله يبقى كذلك ..
الجاذبية دمرت كل حياتي .. سأفكر بشيء آخر .. ماذا لو أنني ربحت اليانصيب .. مليون دولار .. ولماذا مليون دولار لنجعلها ثلاثة .. أو أربعة .. مادمت قد فزت لما لا تكون سبعة .. نعم .. نعم سبعة ملايين تكفيني تماما .. ولكن ماذا سأفعل بها ؟؟..
سأشتري سيارة لآخي الكبير وأفتح له محالا لقطع غيار السيارات.. إنه يحب السيارات كثيرا .. سأشتري لأخي الآخر سيارة أيضا ولكن أجعلهما يتشاركان في المحال .. الشركة تفسد الأمور على الدوام .. سأفتتح له معرضا لبيع السيارات .. هو مغرم بالسيارات أيضا .. سأجعل أمي تحج مرة أخرى وتذهب لزيارة الإمام الرضا .. تلك أمنيتها .. سأبعث معها مرافقين يعملون على خدمتها .. هي كبيرة ولا تستطيع المشي .. سأبني لخالتي منزلا .. المسكينة لازالت تعيش في منزل بلا سقف وتعج بين أركانه العقارب والأفاعي .. لن أنسى .. هناك محفل من الأولاد الذين أصبحوا رجالا الآن وهم بحاجة للعمل .. سأفتتح مشروعا كبيرا ليعمل فيه الجميع ..
ولكن ماذا عني ؟؟ سأقوم بجولة قاريّة كبيرة .. من أين أبدأ ؟؟ سأذهب إلى بيروت ..لالا بيروت ، وفي مثل هذه الأيام .. إنها مدينة مؤهلة للإحتراق .. حلمي ان أذهب إلى أمريكا الجنوبية .. هناك سأشتري سيارة لاند روفر وسيأتي معي حراس وسأحمل بندقية صيد وألبس ملابس الصيادين ثم أدور في الغابات .. هههه تلك فكرة حمقاء فالأعاصير النسوية تضرب تلك المناطق .. لا أريد ان تكون صورتي على المحطات كسائح فقد حياته هناك .. فكرة حمقاء بالفعل .. إذن سأذهب إلى الصين واليابان وهونك كونغ .. هي فكرة حمقاء ايضا .. تلك المناطق تضربها انفلونزا الطيور .. لالا ذلك شيء مخيف حقا ..
إذن أين سأذهب؟؟ .. أين سأذهب ؟؟
ظل يكررها وهو يحمل انواع الشيكات والسندات والغرفة تغطيها الدولارات ..
صباح اليوم الثاني كان محتفلا بالشمس الساطعة .. فتح عينيه .. إنه عالم الجاذبية
إذن .. ارتشف الشاي بسرعة ثم أشعل سجارته وخرج ليشتري بطاقة يانصيب ..


30 ـ أكتوبر ـ 2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى