علياء مصطفى مرعي - اشتياق.. قصة قصيرة

كُنْتُ في طريقي عائدًا من زيارتي الشهرية لطبيبِ أسناني.

لطالما مثَّلت تلك الزيارةُ عبْئًا على نَفسي؛ فأنا حقًّا أبغضُ هؤلاء القومَ الذين يفعلون ما يحلو لهم بأفواهِنا، مُتكئين على عدمِ فهمِنا لتفاصيلِ فكِّنا، يؤلموننا بأدواتِهم القاتلة، ثُمَّ يطلبون منا العناية بأسنانِنا. أُراهنُ أنهم يُصرِّون على إضعافِها بطريقةٍ أو بأُخرى، حتى نترددَ على عياداتِهم المُخيفةِ مراتٍ ومرات.

كُنت أُتمتمُ بتلك الكلماتِ في سيارتي، حمدًا لله أني اقتنيتها حديثًا، فلولاها لكُنْتُ الآن أغطُّ في الطين، غارقًا في مياه السيولِ المُنهالةِ هذه الليلة.

"أرأيت؟ حتى السماء غاضبةٌ وكأنها تتضامنُ معي في كُرهي."

أوقفْتُ السيارةَ بأعجوبةٍ حين ظهرت فتاةٌ تركضُ مُسرعةً بالشارع، حالفني الحظُ أني لم أصدمْها، أو ربما هو القدرُ يبعثُ لي برسالةٍ أن هُناك خيرًا بهؤلاءِ الأطباءِ، وأن حُكمي ما هو إلا نتيجةُ خوفٍ مرضيٍ يجعلني أصب جام غضبي عليهم، وأن الأمطار ما هي إلا محضُ صُدفةٍ فكم مِن مرةٍ لم تُمطرْ فيها يوم زيارتي.

توقفت كُلُّ الأفكارِ التي عصفت بعقلي لحظة وجدْتُ رجلًا يلحقُ بالفتاةِ هائمًا على وجهِه، التقطها بسُرعةٍ وأخذها بين أحضانِه، عانقها بقوةٍ حتى أنه هُيئَ لي أني شعرْتُ بدفئه، نظر إليها مُمررًا يده على شعرِها ثُمَّ طبع قُبلةً خفيفةً على وجنتِها. لم أُدركْ ما حدث بعدها حتى سمعْتُ صُراخَ سائقٍ خلفي، تنبهْتُ فإذا بالرجلِ وفتاتِه قد اختفيا وأنا لا دورٌ لي سوى إعاقةِ مرورِ السياراتِ من بعدي، وصلْتُ إلى بيتي وتركْتُ سيارتي، إلا أني شعرْتُ برغبةٍ في الترجلِ قليلاً، لا أدري وُجهتي لكني أحتاجُ إلى بعضِ الوقت بمُفردي، بعيدًا عن كُلِّ أشيائي الروتينية المُملة، أخذْتُ أُفكر، لِمَ تأثرْتُ بمشهدِ الأب وصغيرته؟ أيُعقَل أني قد اشتقْتُ لابنتي! انفصلْتُ عن والدتِها من ثلاثِ سنوات، كانت جميلةً في عُمرِ السنتين، لم أعرفْ عنها شيئًا منذ ذلك الحين، بالتأكيدِ أصبحت فاتنةً الآن، ما هذا الذي أقول، قطعْتُ عهدًا ألا أفكِّر فيها البتة، لكن شيئًا بقلبي يُخبرُني أنها في حاجةٍ إليَّ، لِمَ الآن بالذات؟ لَمْ يُصبْني هذا الشعورُ قبلاً، إذن فلِمَ الآن!

نظرْتُ إلى السماء وعلا صوتي وأنا أُكلِّم ربِّي: "يا الله، إِنْ خطبًا أصاب ابنتي فأعلمني، وإن كانت بخيرٍ فلا بأس لن أُزعجَها."

عُدْتُ إلى منزلي بعدما شعرْتُ أن ثُقلاً أُزيحَ من على صدري لأني ناجيتُ ربي، دخلْتُ شقتي المُملة، وجدْتُ الأشياءَ كُلها مُبعثرةً تمامًا كما تركتها، لا شيء بمكانِه، ولا أحد يُعيدُ ترتيبَها سواي، لطالما كانت فوضويتي سبب صراخ زوجتي المُستمر عليَّ، وجدْتُ رسالتين على جهازِ الإجابةِ التلقائي، سمعْتُ الأولى فإذا بصوتِ ابنتي العذب:

"أبي، اشتقْتُ إليك كثيرًا، غدًا يوم الآباءِ بالمدرسة، أيُمكنُك اصطحابي؟ سألني الجميعُ عنك بالعامِ الماضي، وأخبرتهم أنك في رحلةِ عملٍ كما قالت لي أُمي، أمازلت هناك؟"

شئٌ ما بصوتِها اقشعر له جسدي، أخذْتُ نَفْسًا عميقًا وكأن كُلَّ حرفٍ أراد التوغُّلَ بين أساريري والاستقرارَ بداخلِي، خِفْتُ أن تكون الرسالةُ التاليةُ رسالةَ عملٍ فتمحو كُلَّ تلك الأحاسيس، سمعْتُها على مضضٍ فإذا بصوتِ زوجتي، تمامًا كما تركته لم يتغيرْ:

"مرحبًا، لم أُردْ أن تُحادثَك الفتاةُ لكنها بكت كثيرًا ولم أستطعْ منعَها هذه المرة، سخر منها الأطفالُ بالمدرسة وأخبروها أن لا أب لها، هو تصرُّفٌ غيرُ أخلاقي لكن ليس على الصغارِ حرج، سأكونُ مُمتنةً كثيرًا إن تفهمت الوضع، وخففت عن ابنتنا، أعلمني إن عزمت الحضور حتى أُرسلَ لك التفاصيل."

إذن لم يكن شعوري محضَ مُصادفةٍ، بالتأكيدِ سأذهبُ إليها، عساني أستطيعُ تعويضَها ولو ببعضِ ما فَقَدَته بسببِ غيابي.

أرسلْتُ رسالةً نصية لزوجتي أطلبُ منها تفاصيلَ اليوم، لأني لن أُخيِّبَ ظن الفتاةِ أبدًا، كان المَوعِدُ باليومِ التالي، حتى أنني لن أستطيعَ أن أحضرَ هديةً إلى ابنتي، لا بأس ربما أُحضرُها مرةً أُخرى، هذا إن سمحت لي والدتُها بمُقابلتِها، ضبطْتُ مُنبهي وأنا أتخيلُ يَوْمَ غدٍ كيف سيكونُ، ماذا سترتدي أميرتي الصغيرة؟ ماذا سأفعلُ لحظةَ رؤيتِها؟ هل سيشعرُ الحاضرون بدفءِ عناقي كما شعرْتُ أنا اليوم؟ العشراتُ من الأسئلةِ التي راودتني، لا أدري ما حدث بعدها، لكن أحدَهم أيقظني ظانًّا بأني قد فقدْتُ حياتي، كُنت مُلقى على الشاطئِ القريبِ من منزلي، مُبللة كُلَّ ملابسي، أخبرني أني هُنَا منذ أربعِ ساعاتٍ لا أتحرك حتى أنه قلق، خصوصًا أن لا أحد يأتي إلى الشاطئِ في يومٍ عاصفٍ كهذا، يقول أنه سمعني أُناجي ربي، ثم لم يسمعْني بعدها، ظن أني أُريدُ الاسترخاءَ لكني لم أُحركْ ساكنًا من وقتِها، سألني إن كُنْتُ بخير، أمأْتُ رأسي بالإيجاب، شكرْتُه ثم عُدْتُ إلى منزلي وأنا أتمنى أن أَجِد رسالةً من صغيرتي؛ فقد اشتقْتُ إليها حقًّا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى