كاظم الواسطي - مرثية لسيرة حلمٍ مطعون

1

كنت في زوايا صخبِ ذاك المكان، فتىّ يحلم بأجنحةٍ تخفقُ في الريح، وكانت متعتك الكبرى خطواتٍ مرحة، بين البابِ الخشبيّ لمدرسة في وسط السوق، وكشكٍ للجرائدِ يطلُّ على ساحة ومفارق طرقٍ أربعة. في زاوية قريبة، بوابة خشب عالية وصورٌ ملوّنة معلّقة فوق جدارٍ قديم. صورٌ لعضلات الأغريقي المفتولة، هرقل.. ولبطل الغابات وهو يتقافز مع "شيتا" الحاذقة بين الأشجار، طرزان.

هناك، كان اللعاب يسيل من رائحة العمبّة والصمّون والبيض المسلوق صباحا يعرضه رجلٌ ستيني على عتبة قريبة من باب السينما. وكانت أمنياتُ اليفاعة بوصلة تتحرّك بينَ ضجّة السوق، وما تعلنه الصحف اليومية المكدّسة في مقدم الكشك عن حرب "الأيام الستة" وكتاب جديد صادر عن دار "الهلال"، وآخر فيلمٍ في "الفردوس الشتوّي".


2

بحماسة الساخطينَ على وشمٍ للبؤسِ ينقر مثلَ غرابٍ أعمى في قلب الفقراء وزّعتَ ذات يومٍ بارد نسخاً من كتابٍ مشبوه بين تجاويف رَحلات الخشب في أكثر من صفٍّ متوسط، حينما الطلابُ تدافعوا على الباب، وقت الاستراحة، ضجرين من رتابة الدرس. بعد رنين الجرس الأخير، تفاجأ الطلاب بكتاب غريب بين كتب المدرسة ،وصورة رجل يشبه شكلَ القديسين بلحيتهِ الكثّة وطلّتهِ الوادعة أثار الحيرةَ في براءة عيونهم التي حدّقت في فراغٍ أخرس، أقلقَ أرواحهم الغضّة بالأسئلة.

تحرّكت الأصابعُ راجفة فوق الصورة، حيث المدرّسُ منشغلاً تحت بياض الطباشير بتحضير درس اليوم القادم.أعادَ البعض الكتابَ الى مَكمن الرَحلةِ، وآخرُ دسّهُ، بارتباكٍ، تحت القميص، أو حشَرهُ مرتبكاً داخل الحقيبة بالتفاتاتٍ حذرة.


3

في أحياء الفقر المدقع في "باب الشيخ" وأزقة "الصدرية" الضيّقة كدروب الأفاعي، وفي "الثورة" المستلقية على طينٍ بارد رافقها مذ كانت "خلف السدّة"، قرأوا لآبائهم النائمين على خاصرة الجوع طلاسمَ شيخ يُدعى ماركس، قصدهم من المجهول بـ"البيان" العجيب، وأرسل اليهم حروفاً مجنّحةً لـ"شبحٍ" يجول بعدّةِ الفارق الطبقي، في مكانٍ آخر يبعدُ سماءً عن المدرسة وبحاراً عن تلك الأحياء ولا أحدَ يعرف كيف دخلت صفّ الدرسِ.

وأيّ ساحرٍ ماكرٍ أتى بها من هناك وألقاها في رَحلاتهم. تحرّك رادارُ الكشف في فضاء الارتياب، بدوراتٍ تشبه لوامس حشراتٍ جائعة. عرفوكَ، وكنتَ الساحر في الصفِّ الثاني. أنتَ الحاذق في القصّ، ورمي الأفكار المحظورة، كما زهر النرد، بين عقول الفتيان.


4

حيث الجماعةَ لا تخلو في أزمنة الخوف من وشاية الضعفاء، استدعاك معاون المدرسة المُطلق سراحه حديثاً من السجن : كان واقفاً في غرفة الإدارة بمسدسه الظاهر تحت قميصٍ خفيف، وبوجهٍ غاضب، أطلق عليك شتائم أولاد شوارع خلفية، واتهمك صارخاً بأعلى صوته " أنت عدو للحزب والثورة ". أشار إلى حذائه مُهَدِداّ، فهدّدته بذات الحذاء الذي كان يُشير إليه إذا ما تطاول أكثر : جرّبْ أن تفعل ذلك وسترى ما يكون عليه الردّ.

خرج من الغرفة وهو يزعق في ساحة المدرسة الفارغة، ليُسمعَ من خرجوا من الصفوف مذهولين، مدرسين وطلاباً، بأن طالباً صغيراً يهدّد معاون المدرسة !!

عرفتَ القصدَ، وما يضمره هذا البعثيّ الخارج للتوّ من السجن، فغادرت، بلا حقيبة، تُسابق الريح هارباً من بوابةٍ تخيّلتها لسجنٍ وليس لمدرسة.


5

قصدت قريباً من ذوي النفوذ في السلطة وأخبرته بما حدث، غضب عليك أيضاً، ولكنّه عالج الأمر تدّخل العائلة. وكانت التسوية أن يُلغى قرار فَصْلك شرط نقلك خارج قلعة المعاون الحزبي، وكان الموقع الجديد بعيداً من مكان أحببته بأحلام الفتيان المشاكسة.

غضبتَ كثيراً، ولعنت قطارا صعدهُ " المنحرفون " يوماً بتذكرةٍ أمريكية، وقعّها القوميون بحبرٍ عربي، وولاءٍ من زمر شوارع منحطّة.


ابيضّت عيناكَ صغيراً من بشاعة صور التعذيب في ذاك الكتاب، فاسشعرت مبكراً ما ينتظر الأحلام الغضّة من مصائرَ سود، وما يوعد البلاد بانحرافات لا تتوقف في محطة قطارٍ، ولن يكون لصور الموت متسّعٌ في كتابٍ واحد.


6

تراءت لك، جالساً على ضفة دجلة القريب من المدرسة الجديدة، صور الأصدقاء الذين بقوا يدرسون في ظل مسدس، وكيف تمثّلتَ الأفكارَ من كتبٍ قرأتها صغيراً في بيت "الثورة"، لتذكرَ أفكاراً منها للثلةِ في المقهى، خلف الكشكِ المشرق في ركن الساحة.

أفكارٌ عن لينين وجيفارا، ونبوءات تروتسكي قبل الغدر به، في منفاه، من الجلف ستالين. وكنت تتقافز أيضاً، مثل رفيقة طرزان، في حقلٍ شاسع بين "السقطة" و"الغثيان" و"ضياع" الكاتب كولن ولسن "في سوهو". أبهجك الحلم السريالي ورؤى المجنون بريتون:

هل كنتَ (شيو- سوريالي) بلا نمطٍ واحد للتفكير، يوم عرفت الأحلامَ دافقة من هذيان أبناء الريح الفتيان، وحكمة الشيوخ المبللة بدموع خسارات العمر في أحياء – دون سد الرمق؟

قال صديقك الأكبر سنّاً، والمؤدلج حدّ تخيّله واجهة مفتوحة للشعارات "لمَ تقرأ لكاتب برجوازي مثل سارتر ونحن على خلاف مع فلسفته الوجودية؟!"

تذكّرت قسوة معاون المدرسة المدّجج بالرصاص دفاعاً عن فكرته الواحدة، وعن أوهام "رسالة خالدة" يا ما سالت من حروفها دماء ودماء.امتعضتَ كثيراً من رائحة الخوف من الأفكار في سؤال الصديق، فتركتَ ما تعلّب في عقله، غاضباً على كل تماثل في حجز الأفكار.


7

هو ذات المكان القديم نأى بركام أمنيّاتٍ معطّلة، وأشواطِ خرابٍ أحنت ظهر الأحياء في زوايا البلاد. وأنتَ.. عناداً، بعد سنين عذابٍ مقيم، وحربٍ صُهرت فيها الأجساد جملةً من أجل تلال متناثرة في العراء، حوّلتَ كلام الساحر في رحلات الصف النائي أوراقاً مكربّنة، تكتبها بخط يدك الساهرة حتى ساعات الفجر، ومساءً تطوي الكلمات الصارخة ضد جنون الحرب، تهرّبها إلى جيوب ثلّةٍ بعيدين زمناً طويلاً عن رفقاء الكشك المشرق في ساحة السينما. وحيث لوامس رادرك الخفيّ تعلّمتِ الدرس الأول من شراسة صور الموت في ذاك الكتاب القديم، تحسسّت، عن بعدٍ، ما يضمره البعض من نوايا الوشاية، وشممت في ثيابه رائحة أدرينالين تطرد الأمان من الروح، وتجذب الكلاب السائبة عن بعد نجوم.

فرميت الأوراق غاضباً...


8


لكن عناداً آخر قاد خطاك إلى جبالٍ تُعلّق البنادق على أكتاف سفوحٍ وعرة، وصلت إلى هناك بإجازة حربٍ مزوّرة، ودليلٍ لم يكلمك طوال الطريق، لحظة أخبرته عن خطورة الكلام في الحافلة المغادرة. تنفسّت الصعداء بعد آخر نقطة تفتيش، ودخلت ممر الجبل الآمن، بلا هواجس وشاةٍ على أوراقٍ مكرّبنة.

قطعت جبالاً وسفوحاً في ميدان "الأنصار" التطبيقي. لم تخش الثلج وصقيع آخر الليل، ولا صورة خطر تُراود خطو السائر في الدرب لأول مرة. أحاطك رفقةٌ يحملون السلاح على أكتافهم، ويُنشدون أغاني المحبة من نقاء قلوبهم. وهم، مثلما كنتَ، يُعاندون الصعاب من أجل أحلامٍ كانت لهم في ذات المكان.


9

لأنَّ البعضَ ظلّ كما كان سادراً في وهم الكلام، ومصراً على تكرار الأخطاءِ بذات الأسماء، وأسمال الكلمات المحنّطة في رأسٍ فارغ، حصدتَ مواجعَ لا تُحصى في القلبِ، والأكثرمن صدمة سوء التقدير، حيث هناك من يموت بأخطاء مّن أمن جانبه، واكتشف من نجا ما تفعله أسمال الكلمات في زمن الشدّة. فغادرت بأجنحة حلمك القديم، ولم يُفاجئك من كان يحتسي عصارة تلك الأسمال قريباً من زخات الرصاص، وهو يفرض عليك مكان محطتك القادمة : لا مكان آخر لك، فاختر بين اللهيب والنار.


10

تمرُّ الأيام ثقيلة بملامح حجرٍ صلدة، وبقيت حائراً بين مكانٍ لم تختر الإقامة فيه. وآخرَ اعتقدت، واهماً، أن تعود إليه بذات الحماسة، نكايةً بمن خذل حلم الطفولة.

اخترت موطن نارك، مغمضاً عينيك عن هواجس الوشاية التي هربت منها. بحثت عن ساعات فجرٍ مكربّنة، وأوراقٍ تطيّرها، وإن في الهواء، صارخة ضد الحرب، وفضح شِراك القتلة.

وبين العناد وسعة حلمٍ لا يُريد أن ينطفأ، يتربّص الخائفون من مطاردة شبح الخوف. وهم يبحثون عمن يُلقمونه مثل لحم الفرائس للصيادين المتخفّين في عقولهم المحطّمة.

وقعتَ في فخ الوشاية، سجيناً مؤبداً.لم يصدمك حكم " البندر"، بل أضحكك ما ورد في قراءة الحكم "مصادرة الأموال المنقولة واللامنقولة"، وأنت من لا تملك غير ساقين لا تريدان التوّقف في مكانٍ يستشرفهُ مرقب المخبرين.


11

هل حالفك الحظ، وأنت تخرج من أقبية سجن "أبو غريب" بعفوٍ من ميلاد الديكتاتور لتكون بيدقاً في رقعة حربٍ مجنونة؟!

أعرف حقاً، كنتَ تريد أن يكون الحكمُ نهائياً، وتكون تلك آخر المحطات.

خاتمةٌ بلا عثرات حلمٍ جديدة بين فخاخ السفلة، وتحت عيون وشاةٍ يتنامون مثل فطرٍ سام فوق جلودنا. ومثلما توقّعتَ فأنى تمنحك فوهة الحرب إجازة مؤقتة، لتدخل بيتك في اك الحي المعدم تُطاردك تحديقة المخبرين كما ظلك، وحيث تكون في شارعٍ أو زقاق وحتى إن كنت واقفاً في باب الدار.

وإذ لم يخفت عنادك بعد، ولم يُصادر قرار الحكم ساقيك الطليقين، راوغت كثيراً بين هدنةٍ تختارها وموتٍ ينتظر استسلامك تحت ظل غربانه السود. فأسعفكَ الوقت المسروق من فخّ الحرب فرص حياةٍ أخرى. ولعبت كثيراً في الوقت الضائع.


12

بعد سنين تشبهُ بعضها، وقفتَ بصمتٍ يعلو على صراخ من احتضّن توابيت الابناء القتلى، غريباً بين مدرسةٍ صارت بقالةَ فاكهةٍ وخضار، وكشكٍ للجرائدِ لاذَ حزيناً، بدموعٍ من إسمنت، وراء جدارٍ للقطعِ الفاصل بين الأحياء. ناظراً بخيبة الأحلام الضائعة إلى باب السينما التي ضاعت مثل ما الأبناءُ في ثقوب البلاد ومستنشقاً زيت العجلات المغشوش بديلاً عن رائحة العمّبة والصمون، والبيض المسلوق صباحاً في زاوية الساحة.


13

ماذا تقول الآن.. للمدرسة: وقد صارت بوابتها الخشبية بقالةُ خضار. لكشك الجرائد: وهو يلوذ بدموع الرماد وراء جدار الفصل الطائفي. لسينما الفردوس: تستبدل الأفلام بمحلّات إنشائية وبسطات مواد مستعملة. وزيت عجلات مغشوش.

لأحياء الفقر في بغداد: وقد نامت في أحضان الخوف من الغدر، على إيقاع صوت المفخخات.

لكارل ماركس: الذي ترك رَحلات الدرس القديمة وصار من "أطياف" دريدا، وزلّة لسانٍ في أفواهٍ درداء.

لفتيان الرَحلاتِ: وقد لامس "البيان الشيوعي" جلودهم صغاراً، وتركوه على رفوف الغبار شيوخاً، يبسّملون في أذان الأبناء بما لم يكن لهم زاداً في تلك الأيام.

لسارتر: الذي أصاب صديقك العقائدي بالارتباك، وصار الآن منسياً في أذهان اللاهثين بلا ذاكرة.

ولكاظم الصغير ذاك: يوم كان غارقاً بالأسئلة، ومنذوراً لحلمٍ لا يعرف المستحيل ولا يقبل هدنةً يفرضها أنذال. وهو اليوم، في الستيّن، معلّقٌ على أغصانٍ لا يسمع عليها رفرفةَ عصافير، ولا يرى في الأفق نجوم فتيانٍ حالمين.


...........................


اسمحوا لي أن أقول الآن، ما لم استطع الهمسَ به يوماً حتى لنفسي:

لقد فقدتُ الرجاءَ في هذا المكان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى