شهادات خاصة حسن بيريش - محمد شكــري كما عرفته (6).. الجغرافيا السرية لطنجة

صُحبة المُوتْشُو وسيدة الحانات:

كنا نستعد لمغادرة (الريتز) تعالى صوت المؤذن يعلن صلاة العصر، بادرني شكري:
ـ هل تصلي؟
ـ حاليا لا·
يضحك يمسك بيدي يقول:
ـ أنا فقط أتساءل، إن الله يناديك!
قرب سينما (غويا)، اعترضتنا امرأة في الخمسين من عمرها· تبدو مضطربة نفسيا· في ملامحها بقايا جمال آفل:
ـ شكري· اعطني ألف فرنك·
ناولها ما طلبت· قال: "حتى هي عندها حق فيَّ· أو لالا؟" أضاف بصوت مليء فيه بحة حزن: "أعرف هذه المرأة منذ ثلاثين عاما· كانت سيدة الحانات: مغترة بجمالها، لا تعاشر إلا الأجانب· وها أنت ترى حالها الآن· لا أحد يعرف أين تقيم· وماذا تعمل· قيل لي إنها تنام في بهو إحدى العمارات"·
وصلت مع شكري الى شارع "البحتري" (تولستوي سابقا) حيث يسكن في الطابق الخامس من عمارة بلا مصعد، إيجارها الشهري 330 درهما·
في مدخل العمارة كان ثمة رجل واقف، حافي القدمين يلبس جلبابا قذرا به الكثير من الرقع· صافحه شكري·
ـ أهلا الموتشو· ماذا تفعل هنا؟
ـ أنتظر القطار المتجه إلى (بني مكادة)!
ـ أين الله الموتشو؟
ـ الله؟ إنه في مستشفى الأمراض العقلية!!
يضحك شكري من قلبه· يربتُ على كتفه·
يشهر سبابته في وجهه:
ـ إذن أنت الذي أخذته الى هناك!
نتوادع ونحن نغرق في الضحك·

شكري والطفلة "صباح":

ذات ظهيرة صيفية قائظة·
كنت صحبة ابنتي صباح (أربع سنوات) لمحت شكري واقفا أمام مقهى (مدام بورط) سر لرؤيتي قدمت له صباح:
ـ ابنتي الوحيدة·
تبشش وجهه· لمعت عيناه ببريق طفولي جذل· انحنى على الصغيرة· أخذها بين ذراعيه، لثم خدها بقبلة:
ـ شنو سميتك آلغزالة؟
ـ صباح·
ـ هل تذهبين إلى روض الأطفال؟
ـ إيه·
ربت على رأسها بحنان· منحها ابتسامة متألقة:
ـ أوه! ابنتك رائعة، ياحسن، إنها لاتتبرم من الغرباء، هذا جميل·
أتعرف، يضيف شكري، ابنتك ذكرتني بابنة رشيد بن حدو، عرفتها وعمرها سنتان، الآن عمرها 28 عاما· عندما التقيها وتسلم عليَّ أستعيد بانشراح الطفلة التي كانتها·
بعد قليل· أضاف بمودة:
ـ لقد فعلت خيرا بزواجك وأنت شاب· سوف تكون صديقا لابنتك· عكس من يتزوج وهو كبير السن· إنه يطل على ابنه - ابنته من عمل· ابنه في الخامسة وهو في الخمسين· مثل هذا الشخص يرتكب جريمة في حق نفسه وأبنائه إذا جاء بهم·

وجوه مشاكسة:

"لم يعد شكري يأتي إلى هنا"·
قال نادل (النكريسكو) في لامبالاة· ذهبت إلى (إلدورادو)·
كان هناك إسبانيون كثيرون وبعض المغاربة· قال سي محمد (صاحب المطعم ـ مصارع قديم): "بالأمس كان هنا· لم يأت اليوم"·
تلفنت له· قال: "أنا في المنزل· تعال إن أردت"·
وصلت· أشار شكري إلى أوراق فوق المنضدة:
ـ إنني أنقح فصول رواية جديدة اخترت لها عنوانا مؤقتا هو "وجوه"·
ـ هل ستصدرها قريبا؟
ـ لا أدري· مازلت في مرحلة الحذف والإضافة والتنقيح·
لست مستعجلا· ماينمو ببطء يعيش طويلا، هذا ما أومن به· وأريد تحقيقه·
كنت أريد أن أثير فيه رغبة الاستفاضة· تذكرت قوله في حوار تلفزيوني "لا أحب الحديث عن كتابة لم أنته من إنجازها"· غيرت الموضوع:
ـ سألت عنك في (النكريسكو)، قيل لي إنك لم تعد تذهب إلى هناك·
ـ نعم· لم يعد يروق لي الذهاب إلى هناك· ذلك المكان أصبح يعج بالفضوليين ومتسولي الكؤوس!
تذكرت ما قاله شكري في "زمن الأخطاء" (ص 166): "سحقتنا الحانات الجديدة في هذه المدينة· وجوه لاتوحي لك إلا بالمشاكسة والغباء·
أصحابها أفظع من زبائنها· يا حسرة على مدام ترودي، والصرصار، والباراد· لم يكن أحد يتسول فيه كأسه· كان مثل (الشجرة التي تغطى كل الغابة)· كان المركز· أما اليوم فحانات ممسوخة وأربابها أمسخ منها"·

مدينة تئد أحلامنا:

كابد شكري طنجة ونفذ الى جغرافيتها السرية· وكانت علاقته بها (ليلها ونهارها) تقفز خارج كل الأسيجة والمواضعات والقيم الكابحة للنزوات·
هي لعينته مهما جفا كلاهما من الآخر· ذاكرته مشدودة إلى صورها الماضيات· وصورتها الآن؟ إنها مثل جملة معترضة مبتوتة الصلة بالإعراب!
أسأل شكري· ذات جولة بدأت من (الريتز) وتوقفت في مكتب المحامي الصديق عبد الله الزيدي، وانتهت على منضدة في مقهى (مدام بورط):
ـ كيف تبدو لك طنجة الآن، وقد أكلها الإسمنت، وحاصرتها البشاعة؟!
تباطأ في الجواب· حاولت أن أستحثه:
ـ هل ترى فيها بقايا من سحر طنجة: تلك التي "اللي ما شافاشي كتبكي عليه، واللي شافا كيبكي عليها"؟
جاءني صوته قادما من حزمة سنوات خلت:
ـ طنجة كانت تغري بحبها والعيش فيها· كانت لبقة· الآن إنها تتواقح، بعد أن تعهرت وتجرمت!! نحسر الجمال· استشرى القبح· وشاخ كل شيء وفقد بريقه·
بلهجة مشبعة بالأسى· يضيف:
ـ هذه مدينة تتبرأ من أحلامنا!
لم أنبس· ضربتها بسكتة·

وصاية بطريركية:

لا يحب محمد شكري أن يكون ناصحا أو منصوحا، النصيحة عنده وصاية بطريركية تختزل الواقع الإنساني في مجموعة تعاليم تقرر حدود المحرم والمحلل· وتكرس الوثوقية واليقينية·
كنت في شقته· نشتغل في كتاب مشترك، اتفقنا على أن يتكفل هو بطبعه، لفت انتباهي إفراط شكري في التدخين· كان يدخن سيجارة تلو الأخرى· لم أشعر إلا وأنا أقول له منبها:
ـ سي محمد· ألاحظ أنك تسرف في التدخين· ينبغي أن تراعي صحتك·
قال في أدب جم، لكن في حسم:
ـ اسمح لي من فضلك، أنا أدرى منك بما ينفع صحتي وما يضرها!
أردت أن أقول شيئا· قاطعني:
ـ إنني أكره أن يوجهني أحد أو ينصحني، لست وحدك· كثيرون وجهوا لي النصائح، أحدهم (ولن أسميه) بعث لي رسالة يقول فيها: "قلل من الشرب· لاتسهر كثيرا، إنك تبعثر أموالك في الرهان على الخيول ···"· هذه وصاية لايمكن أن أقبلها·
شعرت بالإحراج· لم يعد ثمة ما يقال· التزمت الصمت، شرعت أستحضر من الذاكرة نصيحة وجهها لي محمد شكري، ذات جلسة في (إلدورادو):
كنت أسحب الدخان من سيجارتي وأحتفظ بأكثره داخل صدري، وأحيانا كان الحديث يأخذني فأظل محتفظا بسيجارتي· فكان شكري قطع الحديث، ويضرب قبضة يده على المنضدة قائلا: "اخرج الدخان، انظر: إن سيجارتك لم يتبق منها إلا مصفاتها· إن النيكوتين يتجمع فيها· وهذا قد يضر صدرك كثيرا"·


8/12/2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى