لطفية الدليمي - قناديل الطاقة السحرية للكلمات..

1
اعتقد السومريون أن الكلمة الأولى ولدت ( متخفية ) بين نبات القصب والبردي في الأهوار وكانت الكلمات في رؤى السومري وتخيلاته مختبئة بين أنين القصب وحفيف الصفصاف ومختلطة مع شدو طيور الماء وأصوات الطبيعة، فعزم على اقتناصها وتحريرها من فوضى الطبيعة وتطويعها، فقام أول كاتب في العالم بقطع رأس القصبة بشكل مثلث وهيأ قطعة طين طري من شاطئ الفرات، ورسم على الطين أول حرف أو رمز في تاريخ البشرية، ومن تلك اللحظة ولدت الكتابة مع أول شكل رسمه ذلك الكاتب المجهول بهيئة صورة في نحو (3500) قبل الميلاد ثم طور الصورة إلى رموز ليكون بوسعها استيعاب الأفكار المجردة والعواطف والصيغ الروحانية، واستطاع بهذه الطريقة تدوين نوازعه ورؤاه وكتابة أول سلم موسيقي وأولى قصائد العشق، ثم استخدم الكلمات في الطقوس السحرية والدينية والضراعة لاعتقاده بالطاقة العظيمة التي تنطوي عليها كلمات اللغة .
كان السومريون وأقوام المايا والأزتيك ومعظم الحضارات الابتكارية في الهند والصين ينسبون إلى الكلمات قوى سحرية خارقة ويستخدمونها في الطقوس والشعائر لاستجلاب المطر والنصر والحب والخصب والوفرة، حتى ان التقليد البابلي والسومري كان يؤكد على قوة الاسم وقدرته على التسبب في الخير والشر لصاحبه، فكانوا يطلقون أسماء علنية على الأبناء للاستخدام بين الناس ويخفون الاسم الحقيقي المسجل في اختام العائلة، ليحولوا دون استخدام الاسم في السحر الشرير فنجد لديهم أسماء مزدوجة من أجل اتقاء الشرور..

2
من الصعب أن نتخيل كاتبا يحرم من الكلمات، فتلك عقوبة ترقى إلى مصاف التعذيب النفسي، فما معنى حياة الكاتب دون الكلمات ؟؟ لايدرك وجع الحرمان من الكتابة ومرارة العجز عنها سوى كاتب سُرِقت من روحه الكلمة، لايحس آلام فقدان الكلمة سوى شاعر عجز عن قطف الكلمات اليانعة من شجر اللغة وحيل بينه وبين اقتناص المعاني بتعطيل مخيلته؛ فإن شئت للكاتب قصاصا ينهك قلبه ويوجع جسده فيمكنك ان تحرمه من كل وسيلة للكتابة وبذلك تسلبه معنى وجوده وتقطع نبض الحياة الحيوي عن جسده، فالكاتب لايجد أمانا إلا في صحبة الكلمات الجديدة، اسجنه، ولكن امنحه قلما وورقا فسوف يحيا، ضعه في معزل عن كل وسائل الاتصال وامنع عنه الورق والأقلام فسوف يذوي وتذبل روحه وتفتر همته، ففي تدوين الكلمات والأفكار أمان لقلب الكاتب وروحه فبالكلمة الساحرة يقتنص المعنى ويبتكر الدهشة، وبالكلمة يزدهر الكاتب وتتشكّل شخصيته من طراز لغته وتنويعاتها وعليها تقوم أحلامه وتنبثق خلاصات الفكر .
نزدهر بالكلمات او نندحر، نرتقي بها أن تنحدر بنا او تخذلنا فبالكلمات تحددت المصائر وبها صنعت مفردات الحضارة ومبتكرات العقل وبها نتحدى وحدتنا وأحزاننا، بالكلمات يُدان الناس او يحظون بالبراءة وبالكلمات نبرر افعالنا وأخطاءنا وأهواءنا، وبها نُغوى وبسحرها تغمرنا النشوات أو نركن إلى الآمال العظيمة، وعندما ينطق طفل أولى كلماته نحتفل بالنطق المتعثر واللثغة الفاتنة ونعترف به إنسانا بإمكانه التواصل مع الناس والمضي في الحياة، الكلمات سرنا الأول ووسليتنا في عبور الزمن إلى مبتغانا .
تطويع الكلمات لتجسيد الأفكار والرؤى والأحلام مهمة ليست باليسيرة ولايمسك بها غير الشاعر الفنان والكاتب الرائي والروائي المنضبط مثلما يمسك المؤلف الموسيقي بالنغمة الصحيحة متفاديا خلل النشاز، فجمال الكلمات لايقدح شررُه دونما فكر واقتدار في القول وبراعة في استخدام المفردة لإطلاق موسيقاها الخفية وسحرها الكامن في ذاكرة البشر ومخيلات المبدعين .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى