استيلا قايتانو - كل شيء هاهنا يغلي

المكان: حي شعبي أو بالادق عشوائي
الموقع: بعيد عن العاصمة بعد الصالحين عن الجحيم
الزمن: زمن النزوح .. زمن الخرب.. الذي ضدك أو ضدك.
السكان:غبش
الرائحة: البراز والخمر
الشوارع مثل ثعابين قصيرة تنتهي بطرق مسدودة دائما ، أهلها أدرى بشعابها ، اذا كنت تتجول في هذه الشوارع لاول مرة، وأنت تنساب بآلية فى طريق طويل فيه كل مقومات الشارع فد ينتهى بك بغرقها نوم أحدهم .
أنت تعيش هنا بعد أن فقدت كل شئ هنالك وتحلم بالعودة قريبا لذا تفعل كل أشياءك بصورة مؤقتة من اجل هذا فأنت تصارع كل يوم من اجل المأكل والمشرب . الملبس لا يهمك أمره،كثيرا ، حتى صرعت أخيرا ، صرعت وأنت تعول أسرة، أنت الآن راقد وواع تماما بعجزك ترقد والسل يدب في أحشائك دبيب السوس في العود ، تحولت كلماتك إلى سعال وصديد ، عظامك البارزة مواسير تنساب فيها الحمي، هنالك تقرحات على ظهرك من كثرة الاستلقاء / هذا بيني وبينك لان لا أحد يعلم عنا شئ حتى الآن ، لاشيء تفعله سوى النظر النظر فيما خولك ، صرت عينا ترصد كل الأشياء ،حتى الأصوات .الآن أنت مكتوم في غرفتك الخاصة الغرفه الوحيدة التي تخصك وتخص أفراد أسرتك زوجتك وتوأميك ولكنك ترى كل ما يحدث في حيك العشوائي أو بتسمية أكثر لباقة (معسكر النازحين) ترى الأطفال عراة وحفاة وهم يتمرغون في القذارة ، يقضون وقتهم في اللعب ومطاردة الكلاب في فوضى الأمهات والأباء يتجهون حثيثا نحو الجنون والسجون والموت . ترصد هذه الحلقات كل يوم من موقعك هذا، حلقات شجار بالآلات الحادة وحلقات الرقص التي تكون في العادة اكثر من بقية الحلقات ، رقص لان أحدهم تزوج ، ورقص لان أحدهم تمت ترقيته ، ورقص لان إحداهما أنجبت طفلا، ورقص لان أحدهم مات.
يصلك كل ما في الشارع من أحداث لانك تقريبا تسكن في الشارع، الآن يصلك صوت تبول أحد السكارى على جدار غرفتك ، وتقيوء ذلك أمام بابك وتدحرج ذلك مقاوما الدوار ،
ترى النسوة في نشاطهن اليومي ينقلن الخمور من مكان لأخر متنافسات على الخامة الجيدة ونظافة مجلس الزبائن ، فالشعار المرفوع هنا (بيتك للكل ، لان الكل في بيتك ،لان بيتك في الشارع والشارع من تراب ) .
زوجتك واحدة من النسوة ، تعمل في نشاط غريب ، تقوم بدورك ودورها البيت ، فأنت
زوجتك واحدة من النسوة ، تعمل في نشاط غريب ، تقوم بدورك ودورها البيت ، فأنت محبط ومريض ومثخن بجراحات لا تندمل لم تستطع أن تقي جسدك ، وعقلك ومعنوياتك من هذا الدمار الذي حل بك . أنت صورة لكثيرين لكنهم فقط يندسون خلف زجاجات الخمر حتى لا يطحنهم هذا الحاضر المرير . عينك بؤرة تلتقي فيها كل الأشعة المرتدة من حيك ، حيك الذي يمتد يوما بعد يوم ألي أقصى الأقاصي مستقبل النازحين المتساقطين من ركب المدينة الصاروخي . ليعيشوا هذه الحياة حياة لا مجال فيها للتساؤلات لان كل الأسئلة لها إجابة واحدة ومعروفة للكل( لا خيار ) …
ومن منطلق هذه الإجابة يتعامل الكل دون حسرة أو ذكريات جميلة قد تقطع عليهم مجرى حياتهم ، فزوجتك تنام ، فأنت ترصد استيقاظهم ليلا ونهارا ، ليلا تسهر معك لتحفف عنك الألم والحمي ،فهي مثل عمال المناجم تتصبب عرقا ودموعا ، تدك الأرض لاخفاء الآثار حذرا من الكشة فهي تنقل الخامة من حفرة إلى النار ومن النار إلى حفرة أخري ، ثم حفرة ثالثة لتبتلع الفضلات المتبقية فيجب إخفاء تلك الآثار جيدا حتى لا تكتشفها ( الكشة ) غدا وفي النهار تنساب بين الزبائن ملبية طلباتهم ، وتوفيرأدوات الشواء لهم ، لقد اعتدت علي هذه الفوضى حتى صارت جزء منك،كل هذا الضجيج يتحول رأسك ..أنت الذين مغتاظ لدرجة الموت من حين لاخر واصفين لك وصفات مذهلة للعلاج ، ورائحتهم التي تفوح شواءً وخمراً
.وخمراً وبصلاً ، تجعلك تكاد تتقيا أحشائك، كل هذا وأنت عبارة عن عين ترصد فقط يحيرك نشاط زوجتك المفرط، هي تحس بأنها إذا توقفت ستقف معها أشياء منها قلبك .وإذا نامت قد تفقدك تفقد توأميها.
تحيرك أيضا ابتسامتها المفرطة رغم نزيفها الداخلي لا السكارى سيظنون أن أخلاقها ضيقة لأنهم لا يحبذون ذوات الأخلاق الضيقة ، هاهي قادمة نحوك نحيفة تتلاعب داخل ثوبها مثل معلقة داخل ثوبها تستطيع بكل يسر أن تتابع عروقها وتفرعاتها من المنبع إلى المصب وبالعكس ، ترفع الوسادة التي تحت رأسك واضعة النقود. تفعل هذا الشيء في كل دقيقة تقريبا تجرى حساباتها وتضعها دون اعتبار لأي رأس ملق هنالك كأنك والوسادة شئ واحد، ولكنك تختلف قليلا لأنك تسعل فالوسادة لا تسعل، عندما تفعل ذلك يكاد رأسك ينفجر من الألم يتبعها سعالك فتنتبه لوجودك وتسندك بيد وتمسك العلبة التي تحوى بعض التراب لتبصق فيها لعابك الصديدي المريض باليد الأخرى ، ويتم ذلك خلال مخاطبتها مع أحدهم ومناقشتها له، ثم تسقيك بعض الماء وتذهب لتلبية الطلبات بعد قليل تأتى وتلقمك بعض الطعام وتسقيك الحليب ، ليس بينكما لغة فهي تتحاشى النظر إلى عينيك التي ترصد كل شئ حتى تفكيرها تفعل كل هذه الأشياء بآلية فيخيل إليك أنها تفعل أشياء كثيرة فى آن واحد.
حضر الصغيران وقفا بعيدا، كأن ليس بيتهما ،فهو بتهما فى الليل فقط عند النوم، لا يتقربان من الزبائن، لأنهما يذكران أن ذلك اليوم الذي ضربتهما الام ضربا مبرحا ،عندما دلفا وتلقفهما السكارى وصاروا يتحدثون معهم ،وكل واحد منهم يحس بمسؤولية تجاههما فيحشر اللحم فى أفواههم ويدس بعض العملات في أيديهما لشراء الحلوى، كانت الام ترمقهما بنظرة تأديبية خارقة حتى لا يأخذا النقود ،ولكن السكارى أصروا عليهما ، لأنهم كانوا في عالم أخر،عالم الإفراط في كل شئ فكانوا يقولون بان الأب أخيهم، واخر يعلن المرض واخر يحضنهما باكيا مع توالى الأكل على أفواههما والنقود في أيديهما لم تستطع الام أن تخرجهم من التراجيديا المفرطة تلك فذهبت وانتزعتها من وسطهم وأخذتهما خلف الغرفة الوحيدة وضربتهما ضربا مبرحا وهددتهما بأنهم إذا فعلا ذلك مرة اخرى فْانها ستذبحمهاذبحاقائلة:أنتم أفضل من هؤلاء الاطفال الذين يعلبون فى الشارع .
منذ ذلك اليوم إذا أرادا شيئا وقفا هنالك إلى أن تبصرهم فيعودان فتأتى وفى أحايين أخرى لا تبصرهم فيعودان إلى مطاردة الكلاب والتبرز فى العراء والعلب الفارغة متناسيين الجوع والعطش حتى المساء.
أنت الآن تسمعها وهى تقول لجارتها بأنها ادخرت النقود الكافية لتأخذك غدا إلى المستشفى، لانك إذا مت فأنها لن تغفر لنفسها ابدا، فتتكور أنت آلما.
تعلم جيدا هذه الفوضى التى تسود المكان، السكارى هاربون، والنسوة مهرولات يخبئن فى ذعر فالفرار… الفرار…والفرار وتصلك تلك الأصوات الطفولية هاتفة… الكشة … الكشة … الكشة تماما هي نفس النغمة عندما يهتفون الإغاثة … الإغاثة …الإغاثة ، هم كذلك لا يفرقون بين المصيبة والمصيبة . يلي هذا الهتاف اقتحام تلك الكتائب المسلحة لحفظ النظام العام ومحاربة الرذيلة والحرام وللترويض أيضا، يتفرقون فى كل البيوت ويسكبون السوائل على الأرض حتى الماء الذي تم الحصول عليه بعد شقاء مرير ويدحرجون البراميل على الأرض ،ويقبضون على ذلك وتلك، ويضربون أخر وفى أقل من القليل تمتلئ عرباتهم بالسكارى والنسوة والأواني وتتحرك إلى حيث أتت،ركض الأطفال خلف الشاحنات باكين منادين على أمهاتهم وإباءهم ويضيع بكاؤهم وسط شخير عربات البوليس ، ويتلاشى صراخهم وسط الغبار والعادم، كان طفلاك معهم لان زوجتك لم تنج هذه المرة ،كنت تراقبها عندما نبش ذاك الأرض ووجد مكان مخبئها واخرج الخمور وسكبها على أرضية الغرفة،كانت تتمتم وعيناها ذاهلتان:فقط لو أتوا في الأسبوع القادم… فقط لو أتوا في الأسبوع القادم… كانت تكرر هذه الجملة، وهى تقف هناك ويديها إلى الخلف كانت تتمايل إماماً وخلفاً كأنما تهدهد طفلاً، وتتحاشى النظر إليك كأنها تخشى ألا تجدك جرها ذاك امامه بقسوة، كنت تعلم أنها كانت تريد ان تقول شيئا ولكن …
اختفت العربات في الأفق وعاد الصغار منهكين من البكاء ودموعهم قد تركت اثرا مالحا على تلك الخدود الجافة عادوا كما كانوا متناسين ما حدث ، عادوا لمطاردة الكلاب والتبرز في العراء والعلب الفارغة محافظين على طفولتهم التي في أحضان اللامعقول.
عاد صغيراك إلى البيت ووجدا فوضى من الأواني المبعثرة والاسرة المقلوبة رأسا على عقب والخمور المهدرة على الأرض. بيتك صورة مصفرة للحى كله. بذل الصغيران جهدهما لوضع الأمور في نصابها أنت متكور عبارة عن قطة من الالم، تحس بتهتكات في صدرك، والحمى تسرى في عظامك اكثر ما يؤلمك انك تحولت الى عين عينك ستة على ستة تنظر فقط لا غير، ترى طفلتك التي تحس بأنها في هذه الأثناء يجب ات تحل محل إلام فصارت حازمة وذامة شفتيها فتبدو اكبر من سنينها القليلة بعشرات المرات، طفلك لا يفارق شفتيه فهو مصر على إظهار تلك الفراغان في لثته.
عندما تسعل يهرولان نحوك تشدك هي من ذراعيك ويسندك هو من ظهرك لتبصق لعابك الصديدي في العلبة،لقد ذهبت الام إلي السجن،الطفلان يعلمان أنها ستعود، وأنت تعلم ايضا، ولكن بأكثر دقة.. تعلم أنها ستعود ولكن ليس قريبا .. وربما لن تجدك وتعلم أيضا بان ألمها أكبر من ألمك لأنها تعلم بغيرها لن تكون الأشياء هنا.
ساد ضجيج أخر ولكنه يختلف وصاح الأطفال: الإغاثة.. الإغاثة.. الإغاثة كل من فى الحي يحمل صفيحا وأكياسا فارغة وعلبا لتلقى لإغاثة، فعل طفلاك مثلما فعلوا، وامتدت الصفوف، كبارا وصغارا ونساء ورجلاً وكثرت الشجارات وبكاء الأطفال طعما فى حفنة دقيق أو قطرة زيت، الشمس تشرق وتغيب على الرؤوس ، يوم واحد لا يكفى وتنظر أنت .. العين تنظر إلى تلك الجولات وعلب الزيت وقد كتب فيها بالخط العريض باللون الأزرق Usa ..…علب الزيت Usa لبن البدرة Usa...جولات الدقيق Usa... Usa... Usa... Usa.
وتفوه لعابك الصديدي … ولكن ليس في العلبة هذه المرة، بل على وسادتك.. لان الأطفال كانوا هنالك في الصفوف الأخيرة.
الصغيرة كانت تصنع لكما الطعام… طعام لا طعم له ولا رائحة ولكن لا مفر من آكله ،فلا ستموت جوعا.. وإنها لفضيحة أن يموت الإنسان جوعا في بلد هو سلة غذاء العالم .
لقد نفذت النقود التي تركتها زوجتك تحت الوسادة.. فقط لولا الإغاثة..
بعد عدة أيام ظهرت جرارات من على البعد، هتف الأطفال، الكشة.. الكشة تصادمت النسوة مع السكارى في الطرقات بحثا عن مكان لتخبئة تجارتهن وتمرغ السكارى على الأرض في طريق الفرار… الإغاثة …الإغاثة… وتدفقوا في الشوارع وفى أياديهم الأكياس والعلب الفارغة.. أيضا لم يكن الأمر كذلك فسبهم الكبار ورشوهم بالحجارة ، ابتعدوا عن الحي كانوا يعلمون بان هنالك شئ لكن لا يعلمون كنهه ، وأنت.. العين .. كنت تعلم ولكن لا تستطيع الهتاف اقتربت تلك المعاول التي تسير على أربع اكثر، تم هدم كل البيوت التي كانت قائمة على الشوارع الرئيسية كما قالوا ومناطق الخدمات ومجرى السيل، وبهذه الأسباب أصبحت البيوت الواقفة هنا وهنالك مثل أسنان في فم عجوز حتى، غرفتك الوحيدة ذابت تحت وطأة الجرارات.
اليوم التالي شمس حارقة ، تحول الحي الطيني إلى خرق عالقة في الهواء لاتقى رؤوس الرضع من الهجير ،تنتفض مع الرياح وتتلوى في كل الاتجاهات والبقية في انتظار المساء ليجود لهم بالظل ، أنت هناك متكوم تحت ظل الغرفة الوحيدة التي قربك وأثاثك من حولك ، الحمى تسرى في عظامك سريان السم في الأوردة ،لا تعلم شيئا عن زوجتك، طفلاك شبحان يظهران ويختفيان، رفعت عينك إلى السماء تتمنى شيئا، ربما الموت ولكن الطبيعة باغتك بمفاجأتها ،كانت هنالك عاصفة ترابية تتجمع في الأفق ومن خلفها سحب داكنة تصنع كائنات عملاقة ولكنها سرعان ما تغير شكلها قبل أن تحدد ماهية الأشكال،ساد اضطراب فيما حولك ، الكل يبحث عن ما يأويه من ثورة الطبيعة تلك، حيث لا مأوى ، غطت الأمهات أطفالهن بالمشمعات والملاءات مع تجمع كل أفراد الأسرة في مكان واحد ليقي كل الأخر بجسده.
سعلت كثيرا أثناء العاصفة الترابية حتى كدت تفقد وعيك لولا تلك القطرات المائية التي لامست وجهك، حضر صغيراك وتلفتا يمنة ويسرى.. أنت من تهمهم فى هذه الأثناء، بحثا عن مشمع لتغطيتك، أمسكت هي الطرفين الأماميين ومسك هو بالطرفين الخلفيين ، وصنعا لك سقفا ليقيك من المطر، انحدرت منك دمعة تغلى وأنت تراهما تحت المطر ،ويصارعان الرياح التي أخذت تعصف بهما وأحيانا تنزع من أيديهما السقف ويهرولان لجلبه بسرعة قبل أن تبتل أنت،هو يضحك مظهرا فراغات لثته وهى ذامة شفيتها لتبدو أكبر من أعوامها بعشرات المرات وتنظر إلى الأفق كأنها شئ ما، ويعودان لك مرة أخرى ،كنت تراهما من تحت المشمع وهما يحاولان جاهدين بالا تمسك قطرة ، ألتمعت تلك القطرة التي كانت عالقة بنهايات أذنيهما مثل البلور فلاح لك أمل هناك..أمل بعيد.. بعيدا جدا.
توقفت الأمطار، هما الآن يخلعان أثوابهما الرطبة ويندسان تحت فراشك من البرد والرطوبة، كنت مصدر دفء لهما ، عظامك الساخنة تغلى ،وصدرك يغلى، بالسعال، نام ذاك وهو يحلم بعودة الأم واللعب في ماء المطر واصطياد الأسماك الضالة التي انجرفت مع الماء من الترعة القريبة ،وترى تلك وعيناها مثبتة في الأفق كأنها في انتظار شئ ما ،أما أنت فكنت تتسلل من الحياة شيئا فشيئا حتى لا ينتبها لغيابك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى