إبراهيم قاسم يوسف - كيوي.. قصة قصيرة

من بعيد كان يترصّدها، كنسر يتربّص بطريدته. يراقبها، ويخالسها النّظر، كأنّه يدعوها إلى الرّقص، وترشيه بلحظها السّكران، كأنها تحرّضه على الدّعوة، "وحين تعطّلت لغة الكلام" جرع كأسه مرّة واحدة، حزم أمره، تخلّص من خشيته، استرد شجاعته ودنا منها بخطى ملكيّة، فاستأذنها، وسمحت، "وأرقّ الحسن ما سمح."

بعض الإضاءة الخافتة، لا تخفي تضاريس الجسد، بل تكاد تعرّيه عند الصّدر والوركين، وأنفاسها الحرّى على عنقه تستفزّ عواطفه وتشعلها. كلّما لامس نهدها النّافر، ينقبض وينفرج بمرونة المطّاط الحي، أحسّ بدمائه تغلي في عروقه، فيهمس في أذنها كلاما مثيرا خطّط له بإتقان.

"لا تؤاتيني الشجاعة، أن أقول لك ما يتردّد في خاطري يا سيّدتي، فلو منحتني الأمان، أمان المتوسّلين الخائفين في حضرة سلطان جائر، لكشفت لك أمرا يحرّضني ويحرجني."

هكذا بدأ المناورة في التّسلّل إلى مشاعرها. وتجيبه بإدراك امرأة مفتونة بجمالها، مزهوّة بمعجبيها:

"هل تريد القول إنّني جميلة مثلا؟"

"أنت حقا جميلة وفاتنة يا سيّدتي، لكن ما أريده كلام آخر."

"إذا لعلّه إطراء لتسريحة شعري؟"

"تسريحتك تفوق في سحرها تلك الّتي أطلقتها فرح ديبا ذات مرّة، لكنّ القول في واد آخر."

"حيّرتني، تشجّع، قل ولا تتردّد. ما دمت السّلطان "فعليك الأمان". مهما يكن القول، فلن أعتب عليك أو أغضب منك."

"فلنخز الشّيطان يا سيّدتي."

"أيضا خزينا الشّيطان، لعنه الله، قل بلا إحراج."

"أيّامي حزينة"، قالها يستجدي عواطفها، ويقطع عليها طريق العودة عن وعدها.

"أيّامك حزينة وتستحق الشّفقة، فماذا بعد؟"

كمن يلقي عن كاهله حملا أتعبه، قامر دفعة واحدة بما يملك وقال:

"ما دام الأمر كذلك، فلون سروالك يا سيّدتي شبيه بأيّامي"، قالها بسرعة واقتضاب. قالها وقضي الأمر.

كلام جريء، بلغ حدّ الوقاحة فأصابها بالصّدمة والذهول، وحين أفاقت من صدمتها، قالت له:

"أنت الشّيطان"، وتذكّرت: نعم، عندما استحمّت في الصباح الباكر، ارتدت سروالا أسود. عجبا كيف لهذا الشّقي أن يعرف؟ قوله هذا يخدش الحياء، لكنّها في الواقع لم تشعر بالمهانة، لأّنّ المفاجأة أذهلتها. تظاهرت بالغضب وانسحبت. تركته خائبا مربكا، أو لعلّه تظاهر بالإرباك، كما تظاهرت هي بالغضب وفي سرّها كانت راضية وسعيدة.

عادت إلى مكانها، وقد علت وجهها حيرة وحمرة. أخفقت أن تكتم الخبر عن صديقتها، ثمّ أسرّت لها، وأفاضت بما دار بينها وبين الفارس. أخبرتها كيف اقتحم أسوارها برجولته، أخبرتها عن براعته في الرّقص، عن رنّة صوته وجرأته حين غازلها، عن عينيه: تفضح "قرمه" للنساء، ورائحة التّبغ على ياقته تثير الحواس، ثمّ قدرته الخارقة في كشف ما خفي من ألوان السراويل.

أغوت اللعبة الصّديقة المستمعة وأحسّت بحاجة مجنونة للمغامرة. استأذنت صديقتها ودخلت دورة المياه، وتأكّدت من شيئها الصّغير المنمنم، ومن اللون إيّاه، ثمّ عادت مسرعة تبشّ له، تحرّضه أن يلعب دورا آخر، ونجحت في استدراج الفارس الوسيم، للرقص معها، تلك هي المرأة، وهذا هو الرّجل، سواء بسواء.

أسرها البدوي الفارس ذو الجبهة السمراء، كما أسرتها الرّقصة، فانثت أعطافها في لين ورقّة، وحملها مغمضة العينين، على غيمة بين ذراعيه، وراح يدور بها في لطف النّسيم، خفيفة كالفراشة، سريعة كالخاطر، رشيقة مثل السّواقي.

هو ينحدر من أصول بدويّة شديد الاعتزاز بها، ولو انّه يرتدي ثيابا مدنيّة أنيقة وربطات عنق مبتكرة. يحبّ الحياة ويخاف من غدر الليالي. في حياته كلّها لم يجن مالا ولم يسع إليه، لم يصب نجاحا كبيرا يرجوه، ولا شغلته المناصب، وحدها المرأة كانت همّه وهاجسه، من أجلها عاش، وعندما تنتفي حاجته إليها عليه أن يرحل.

لو أنها المرة الأولى التي يراقص فيها امرأة بهذه الإثارة، ولولا بعض الحياء، وبقيّة من مدنيّة تعلّمها وعاشها في بلاد "الإفرنج" لارتكب حماقة وخيمة، واغتصبها عنوة أمام الجميع.

انتهت الرّقصة، ولم يقل شيئا، أحسّت بخيبة في قلبها. شدّته من ذراعه قبل أن ينسحب وهي تقول بمرارة وعتب: "هل أنت أخرس، وهل تعاني من مشكلة في النّطق يا سيّدي؟" ويجيبها نفيا بإشارة من رأسه وعينيه، بعدما أربكته صديقتها.

عزفت الموسيقى مرّة أخرى، إيذانا برقصة جديدة، حين سألته عن رغبته بالرّقص مجدّدا:

"حسنا يا سيّدتي، ما دامت هذه رغبتك، فهي رغبتي أيضا"، قالها منصاعا مستسلما.

عطرها منعش ونفّاذ، ألهب عواطفه، وتحوّلت أعصابه إلى أشواك تبدّدت معها مخاوفه فقال لها:

"في رقصتنا الأولى خانتني شجاعتي ولم أقل ما في خاطري."

"حسنا، ببساطة قل ما تشاء."

"إنّها مسألة مربكة يا سيّدتي أن أكشف لك أمرا تضنّين به على عيون المتطفّلين."

هي تعرف هذا أسلوبه في التّسلّل، ليقول أخيرا ما يريد. رقص قلبها بوتيرة أعلى وسألته بمكر:

"وهل عطري هو ما أعجبك؟"

"عطرك، منعش ونادر يا سيّدتي ولا تجود به أشهر دور العطور وأرقاها، لكنّ الحكاية ليست هنا، الحكاية في مكان آخر، في جنّة أبعد."

فقدت صوابها، تسارعت دقّات قلبها، وتحرّك وجدانها من جذوره وهو يذكّرها بالجنّة والنّعيم، وأجابته مخادعة:

"إذا تريد أن تثني على ردائي؟"

"رداؤك جميل ومثير، لكنّ المسألة أيضا ليست هنا."

ثملت لهذا الإطراء يدغدغ عواطفها، لكنّها تريد جوابا مختلفا، جوابا محدّدا.

"لن تقول لي إنّك أحببتني من اللقاء الأوّل؟"

"لست جديرا بحبّك أو جمالك، ولا أستحقّ هذا الشّرف الكبير. "ما أودّ قوله..." ثمّ تراجع وسكت.

نفد صبرها، أعصابها بلغت حدود الانفجار، لقد راوغ ما فيه الكفاية، فهل سيكشف السّر؟ وإن كشفه، فهل فعلا سيعرف؟

قالت له: "توقّف، كفى، لقد أضجرتني، قليل من الجرأة يا صديقي: "فضفض" عن نفسك وقل ما ترغب، لقد أتعبتني، أرحني وقل ما تريد."

"الأمر مخز أن أحدّثك عن بذرة الدّراق."

"هل عدنا إلى التّلميح؟ ما شأن الدّراق وبذره بما نحن فيه؟ ما الحكاية؟ وأين بيت القصيد؟"

"لون بذرة الدّراق صعب ونادر وعصي على الوصف وهو الحكاية، إنّه لون سروالك يا سيّدتي."

لو تعاطى مع اللون شاعر أو رسّام لأخفق في المقاربة و الوصف، هكذا قالت في نفسها. فكّرت قليلا، وتذكّرت دورة المياه، وبذرة الدّراق وشيئها الصّغير المنمنم، فعلا إنّه اللون بعينه.

كانت قد هيّأت نفسها سلفا للموقف، فلم يفاجئها ولا أدهشها الخطاب، وأجابته:

"حسنا، هذا صحيح، إنّه حقا كذلك وهذا هو لونه. لكن قل لي بربّك كيف عرفت؟"

انحنى إلى الأمام مبتسما وأشار بسبّابته إلى حذائه اللامع، أشدّ بريقا من مرآة فضّية الصفاء وهو يقول لها مزهوا بحاله:

"إنّه كيوي. كيوي يا سيّدتي. مدهش وعجيب، ويستحقّ هذا الاهتمام."



* كيوي : ثمرة أصلها من أستراليا ونيوزلندا، واسم طلاء لتلميع الأحذية (Kiwi).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى