رحاب محمد عثمان - خواطر مسافرة.. قصة قصيرة

جاء سائق العربة يدق باب بيتك قبيل صلاة الفجر بقليل استعدادا للسفر مع وفد نسائي رفيع المستوي إلي إحدي الولايات النائية ، وصلت العربة إلي المطار ، وتخلفت إحدي المسافرات قائدة الركب لأسباب غير معروفة .. آه هذه بداية غير مشجعة البتة !!.
ارتقيت أولي درجات سلم الطائرة خائفة وجلة .. مما تخشين ؟.. من الموت ، إنه سبيل الأولين والآخرين ، وحوض كلنا وارده .. كلا إن مايقلقك أنك لم تتركي وصية لمن خلفك ، وفي مقدمتها تسديد ديونك .. تبا لهذه الديون ظللت تؤجلينها يوما بعد يوم !، إذا لم تطلبي الصفح ممن أخطأت في حقهم يوما ، أو إغتبتهم ، ثم تقصيرك في واجباتك الدينية وتقاعسك عن قراءة وردك اليومي .. شريط طويل مر أمام ناظريك من أحداث ومواقف ، وأقوال ضد النسيان .. أهذا مايحسه الإنسان عنما تدنو نهايته ؟!. «فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد» .. هواجس وأفكار سوداء تنازعتك .. لم يكن إصرار عضوات الوفد علي الوضوء في دورة مياه المطار قبيل الصعود إلي الطائرة عبثا ، إذا فقد كان بداخلهن إحساس خفي بقرب النهاية!.
وذلك الضابط المتقدم في السن أخذ يسرد لكم قبيل إقلاع الطائرة ، قصة تحطم واحتراق الطائرة العمودية ، ويريكم آثارها علي المدرج ، وضمن ضحاياها كان ابنه العريس «فتي ملء برديه مكارم» ، والعائد لتوه من دورة تدريبية في روسيا ، ومازالت حقائب سفره وتجهيزات زواجه بالبيت ، لم يجرؤ أحد علي تحريكها ، وشق علي أسرته التنقيب في محتوياتها بعد استشهاده !، وكأن هذا الضابط جاءكم في هذا الوقت بالتحديد لتحذيركم من كارثة أو خطر قادم ..هكذا حدثت نفسك .
أكثرت من تلاوة القرآن ، وقراءة أوراد السفر والعودة ! ولكن مابال هذا الخافق لايهدأ .. لاتحفلين بمن راح وجاء في الطائرة ، غرقت في أوهامك وهواجسك تماما .. كان الهلع والرعب مجسدا في تصرفاتك ونظراتك ، فشلت كل محاولاتك لاخفائه ، تمسكين مرة بيد رفيقتك في الرحلة، ومرة تحاولين أن تتناسي أنك في طيات السحاب ، ومرة تحاولين أن تقرأي قصة أو رواية طويلة تغوصين في تفاصيلها وأحداثها ، وتنسينا ماحولك ،ضاعت جهودك أدراج الرياح!
كنت مثار ضحك وتندر رفيقاتك بالرحلة ،الرجلان الوحيدان المرافقان للوفد النسائي يتباريان في تخويفك وترويعك.. عفا الله عنهما !!، ثم أدارا نقاشا وجدلا طويلا عن ضحايا الطائرات ، وهل يعدون من الشهداء!
ثم الإعلاميات الثلاث اللائي تخلفن عن الرحلة دون إبداء أسباب وجيهة ، وتأخرت الطائرة بسببهن ساعتين كاملتين .
عندما أخذ الرفاق والزملاء يلتقطون الصور التذكارية مع ذلك الأسير العائد لتوه من معسكرات التمرد، احتفاء به..انتفض قلبك بالقوة!
لابد أن هذا الأسير لم يركب معكم الطائرة عبثا عبثا ، لأنه سيكون أحد أهم التفاصيل التي تضيفها صحافة الإثارة في اليوم التالي للحادث
لاضفاء المزيد من عناصر التشويق والإثارة وإحكام الحبكة للحادث المشؤوم.
ماحال إخوتك وأخواتك بالبيت ؟! والدتك قالت: كم مانعت ورفضت هذه الرحلة .لكنها رفضت الإصغاء إلي ، أو الاستماع لنصائحي .. كان قلبي يحدثني أنها لن تعود من هذه الرحلة.!.. عاااااافية منها وراضية عليها !، والدك يقول: أردتها أن تخوض تجربة جديدة في عملها ، لكن القدر كان أسرع !
عندما أعلن المضيف من المايكرفون الداخلي أن الطائرة هبطت بسلام علي أرض المطار ، انفرجت أساريرك وتنفست الصعداء بقوة .. إذا فقد انتهت الرحلة بسلام !، وبدأت رحلة جديدة في بلاط صاحبة الجلالة .


* صحيفة الأزمنة
الجمعة 25 يوليو 2003م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى