ألموج بيهار Almog Behar - "في المطابع، فصلٌ من رواية "تشحلة وحزقيل".. تر: نائل الطوخي

في روايته "تشحلة وحزقيل"، الصادرة بالعبرية عام 2009، والتي صدرت ترجمتها العربية (نائل الطوخي) عن دار "الكتب خان" في القاهرة منذ أيام، يكتب ألموج بيهار عن زوجين يهوديين يعيشان في القدس، تشحلة (راحيل) وحزقيل. ينتظر الزوجان ولادة ابنتهما الأولى كما ينتظران عيد الفصح الذي سيدعوان لمائدته معارفهما وأصدقاءهما، وخاصة الحاخام عوفاديا، المعلم الروحي لهما. في فترة الانتظار هذه، وإحدى الثيمات المركزية في الرواية هي "الانتظار"، يبدأ حزقيل في تذكر أصله ولغته العربيين، هو الآتي، مع زوجته، من جذور بغدادية، يبدأ في قراءة الشعر ومحاولة كتابته، في تعريف نفسه بوصفه "يهودياً شرقياً"، عن طريق صديقه الناشط السياسي، كما يبدأ في التعرف على أخيه المسلم.
في الفصل المنشور هنا، وبعد أن يطرد حزقيل من عمله في المطبعة التي يعمل فيها حمّالاً، يحاول البحث عن عمل في مطابع القدس الشرقية. في هذه الرحلة، يقطع حزقيل خطوتين، واحدة باتجاه التعرف على الشعر الحديث، عن طريق لقائه بمحرر لمجلة للشعر الراديكالي وتقديمه قصيدته لنشرها هناك، والثانية في اتجاه مقاربة جذوره العربية، عبر التجول في شوارع القدس الشرقية ومقابلة الفلسطينيين هناك، وشرائه أخيراً اسطوانات موسيقى مغربية وعراقية، بعدما ظل والداه طويلاً يسمعان الموسيقى ولا يشتريانها.

شرب حزقيل من دموع راحيل. قالت له: هل سمعت من قبل قصة أبويّ، كيف فقدتهما، ماذا تبقى في ذاكرتي منهما، لم تسمع ولم تسأل، وبدأت تحكي له تفاصيل التفاصيل، القميص الذي لبسته والابتسامة التي رأتها والأصوات التي سمعتها والأطعمة التي أكلتها والكلمات التي قالتها والأمنيات التي تمنتها، قدمت له كل ما استطاعت حفظه. لنصف ساعة كانت تتحدث، وتذكر حزقيل أنه لم يسمع الكلام يتدفق على لسانها هكذا أبداً، حتى قال لها: عليّ أيضاً أن أقول شيئاً ما، وحكى لها كيف أنه لم يخرج من البيت في الليلة السابقة للبحث عن عمل على لوحات الإعلانات، وإنما ذهب لمقهى يُقرأ فيه الشعر، وكان قد ذهب مرة سابقة الى المكان نفسه، بل قرأ شعراً، وهو لم يقرأ عليها كلماته حتى الآن، ولكن قد يريها لها في المستقبل. وأضاف، أعدك بأن أذهب اليوم للبحث عن عمل ليدي وكتفي. وقالت له: أدعوك أيضاً للذهاب للمقاهى، لا أضع ختمي عليك ولا تضع ختمك عليّ.
غسل وجهه من الدموع وقال: سأتمشى الآن بين أماكن الطباعة في المدينة، ربما أعثر لي على عمل فيها. واتجه أولاً إلى شارع إجريفس، تهرب من مكان جورجيا، ودخل من باب محل صغير كان يصور ويجلد كتب "ابن الرجل الحي"، ويبيعها بالقليل من المال. كان يتطلع دائماً إلى شباكهم عندما يمر، ويوفر ماله ولا يدخل. دخل الآن وبدأ يتمعن في أوراق الطباعة حتى قبض على ذراعه صاحب المكان وسأله عما يفعل. قال: أبحث عن رزق وآمل أنكم تحتاجون لعمال طباعة، فأنا أعرف القليل من هذه الحرفة، وأدرس كتب يوسف حاييم هذا أسبوعياً في بيت الحكيم. تطلع إليه وإلى طوله وقال: هل ترى كهفنا المنخفض هذا، كيف ستعمل به منحنياً طول الأيام، الأحسن لك أن تذهب لمكان يستطيع فيه العمال الوقوف. وأين أجد مكاناً كهذا؟ قال له، اذهب ربما لمطبعة وزارة التعليم، اذهب من هنا وامش لمسافة عشر دقائق وقد تجد عملاً لشخص طويل مثلك. في هذا الوقت كان حزقيل يتفحص الكتب الخارجة من الطباعة ويجد من ضمنها "ابن الرجل ذي البأس" في مجلدين، والذي أخبره الحكيم أنه كتاب عظات سيدنا الكبير يوسف حاييم من بغداد والمخصص للسبوت الأربعة الكبيرة، وسأل عن سعره، قال له الرجل: الواحد بثلاثين شيكل، والمجلدان بخمسين. ارتبك بينه وبين نفسه، فقد تعهد ألا ينفق المزيد من المال حتى تخرج الرضيعة. اشترى كليهما وخرج بكيسه سعيداً. عبر السوق ووصل لشارع يافا ومنه اتجه لطريق الأنبياء، وسار فيه حتى شارع أسباط إسرائيل ووزارة التعليم، وهناك سأل الحارس عن مكان المطبعة، ووجّهه هذا لبناية قريبة. دخل، تطلع إلى الجدران التي عُرضت عليها وجوه قادة الدولة ووزرائها الموتى والأحياء، وفتش بين أرفف الكتب ليرى إن كان سيعثر على الكتب الدراسية التي درسها في سنواته الأولى، وبحث عن مدير المكان. عندما وقف أمامه خفض نظراته وقال: كنت آمل أنكم تبحثون عن شخص للعمل في الطباعة، فأنا ذو خبرة بها. صحيح أنني عملت سابقاً في حمل المطبوعات، ولكنني مستعد للعمل أيضاً بجانب الماكينات وقد عرفت كل عملها فعلاً. قال له صاحب المكان: وصلت متأخراً أكثر مما يجب أو مبكراً أكثر مما يجب، لقد فصلنا بالفعل بعضاً من عمالنا ولن نضم عمالاً جدداً إلينا الآن. وجد كراسة جميلة كانوا يطبعونها في هذا الوقت للمدرسة، وبها نخبة من قصائد شعراء العصر الذهبي في أسبانيا، حررها وفسرها يهودا رتسهاڤي، تفحصها وعرف بعض القصائد بها وسأل عن سعرها، أجابه: خمسة وعشرون شيكل، وارتبك مجدداً في نفسه بسبب تعهده ألا يخرج من جيبه ما ليس ضرورياً حتى الولادة. دفع وأخذ الكراسة ووضعها مع مجلدي "ابن الرجل ذي البأس"، وفرح بصفقاته. سأل المدير: وأين هو المكان الذي لستُ متأخراً عليه ولا مبكراً؟ قال له: أحد عمالي المفصولين ذهب للعمل غير بعيد عن هنا، في شرق المدينة، اذهب إلى باب نابلس وبعده بقليل ستصل إلى ناصية شارع صلاح الدين، وادخل الشارع، وفي أحد بيوته تقع إحدى مطابع جرائدهم، ربما يحتاجون لعامل إضافي.
خرج حزقيل بكيسه ومشى إلى باب نابلس، حيث ظهر الجدران مواجه للقبة الذهبية، وسأل المارة عن شارع صلاح الدين، وكان قد سمع عنه ولكنه لم يزره من قبل. عندما وصل الشارع سأل عن مطابع وورش عمال التجليد ومخازنهم، واكتشف أنها كثيرة، وأخذ يدخل من هنا ويخرج من هناك، ولا شخص يعرض عملاً على ذراعيه الطويلتين، وإنما يقولون نحن على وشك الإغلاق، فهم لا يسمحون لجرائدنا بالخروج لنابلس ورام الله، ونحن نقلص عددنا، فهم لا يعطوننا تصاريح لنقل المجلة للخليل، ومن لديه وقت اليوم للأدب، وسنغلق هنا الآن، بأمر الحاكم العسكري والقاضي العسكري ووزير العسكرية، لأننا كتبنا أشياء ممنوعة كتابتها، وغير مسموح لمراسلينا هنا بالخروج من القدس، لا شرقاً ولا غرباً، لا شمالاً ولا جنوباً، ومن يشتري جريدة كل أخبارها من القدس؟ ومن كل هذه الأماكن كان يأخذ الجرائد والمجلات ذات الأسماء المختلفة والحروف العربية، ويتذكر تعهده بتعلم هذه الحروف، ولم يتذكر إن كان الحكيم عوڤاديا يستطيع قراءتها، أو إن كانت جورجيا أمه تستطيع، بالتأكيد يستطيع أخوه الأكبر. وأخذ يشتري الآن نسخاً من كل الأماكن بعدة شيكلات. سأل في آخر محل أين يجد مكاناً آخر للعمل بالطباعة، وأجابوه بأنه في جانبكم من المدينة تأسست مجلة جديدة للشعر، وقد خدمناهم أيضاً ذات مرة، حيث طلبوا طباعة شيء ما بالعربية في جريدتهم، ونظمنا لهم القصيدة جيداً على الطبعة، وزرناهم في أحد الشوارع جنوب سوقكم، وذكر له اسم الشارع. خرج حزقيل إلى هناك، وتأسف لقلة كلماته التي تبادلها مع سكان الشوارع العربية في الشرق، توقف لشراء عصير لوز وتوجه إلى البائع قائلاً: السلام عليكم وأجيب عليه: عليكم السلام، وسأل إيشلونك؟ وأجيب بابتسامة، وأشار إلى إناء العصير وسأله بكم، وكانت الأرقام العربية سهلة على أذنيه. بدأ في الشرب ورد على البائع قائلاً شكراً، وأراد مصافحته أيضاً علامة على القرابة، فصحيح أنه لا يتحدث لغته بسلاسة ولكنه يشعر بنفسه قريباً منها، وقال في نفسه إنه من الآن فصاعداً سيصافح أيدي الباعة دائماً، فمن دونهم لن يحظى ببضاعتهم. واصل السير عائداً إلى طريق الأنبياء من أجل الوصول لحي نحلاؤوت، ووصل للشارع الذي ذُكر اسمه له، شارع هامدريجوت، وبحث هناك عن مطبعة لتلك المجلة وبدت له كل البيوت كشقق، بعضها صغير وضيق وبعضها يجتاح للأعلى، وفي عدة أماكن يقف العمال للهدم والبناء.
مر مجدداً على الشارع وتطلع إلى صناديق البريد، متسائلاً: أي اسم يصلح لمجلة، حتى رأى في أحد الصناديق رقعة ملصقة صغيرة، لدرجة أنه احتار كيف سيراها ساعي البريد، مكتوباً عليها بحروف لامعة وضعيفة "مجلة للشعر الراديكالي". صعد على السلالم وتوجه للشقة التي أشارت إليها اللافتة، كانت جانبية وصغيرة، وأين ستقف بها ماكينات الطباعة. طرق على الباب وفتحه شاب من عمره لم يخجل من ترك لحيته. وقفا ونظر كل منهما إلى الآخر، يدرسان من سيخبر الثاني أولاً بسبب وقوفه. قال له حزقيل: أبحث عن عمل وفي إحدى مطابع شارع صلاح الدين أشاروا إلى بيتك وقالوا إنكم ربما تبحثون عن عمال طباعة في جريدتكم. ضحك الشاب وفتح الباب على اتساعه لإدخال حزقيل: هل ترى، ليس لدينا إلا جهاز كمبيوتر لتجهيز المجلة، للقراءة والاختيار والإعداد، ثم نرسل من الكمبيوتر ما نريده إلى المطابع، ست صفحات فقط لكل مجلة، مثلما يمكن للشعر الراديكالي أن يُكتب، وبعد الطباعة نوزع أوراقنا مجاناً في كل البلد. أراد حزقيل أن يسأل من يمول توزيع الأوراق هذا ولم يسأل، ربما تم استحداث بلاط سخي وحكام يدعمون الشعر ويعيدون مجد الأندلس إلى أيامه السابقة، أراد أن يسأل ما هو الشعر الراديكالي ولم يسأل، ربما يهين هذا الشاب شعراءنا الكبار مثل دونش وهاناجيد وجڤريئيل وابن عزرا واللاوي ونجارة وأناشيد يوسف حاييم، ويقول إن الشعر الحديث والراديكالي جاء ليحل محلهم، أراد أن يسأل إن كان بإمكانه أن يرسل إليهم قصائد معدودة كتبها لتُنشر في مجلتهم وخاف، ربما لا مكان لشعره بين شعرهم، وكيف يجرؤ على عرض شعره أمام الغرباء.
مد إليه الشاب بنسخ من أعدادهم الثلاثة المطبوعة، وكانت موضوعة في أكوام كبيرة بالبيت، وبحث عن تلك القصيدة المكتوبة بالأحرف العربية، وعندما لم يجدها سأل. تفاجأ الشاب وقال: صحيح أننا فكرنا في نشر تلك القصيدة بالعربية، ولكن لم يتبق لها مكان بين القصائد الأخرى التي لم نحب التضحية بإحداها، ربما نطبعها في المرة القادمة، هل تقرأ العربية؟ اعترف حزقيل بأنه لا يقرأها، وقال الشاب: أنا أيضاً لا أقرأها، ولكن يقال إن لديهم شعراً رائعاً، أردت أن أجعلك تقرأ هذه القصيدة، لتقول لي رأيك فيها. تعطل حزقيل قليلاً أمامه حتى قال له هذا: هل تكتب الشعر؟ قال له حزقيل: كيف عرفت؟ ضحك وأجابه: وهل هناك من لا يكتب الشعر في هذا الزمن، كيف تبدو قصيدتك؟ فكر حزقيل قليلاً وبدأ يستظهر شفوياً أبيات قصيدته الأولى التي كتبها، وكان كمن يبذل مجهوداً في الانتقال من بيت لبيت. سكت أمامه وقال: لست متأكداً إن كانت تلك قصيدة راديكالية، ولكنها قصيدة، وبعد أيام سنطبع عدداً ثالثاً، ربما توافق على نشرها. مكث حزقيل قليلاً ثم وافق، وشده الشاب وراءه كي يقف من خلف جهاز الكمبيوتر بينما هو يضع قصيدته بداخله، ثم سأل عن اسمه، وسأل عن عنوانه أيضاً، لكي يرسل إليه العدد. تعطل مجدداً، وتساءل أي عنوان يعطيه له، وفي النهاية أعطاه عنوان بيته وبيت راحيل. قال له: من وافر الحظ أنك أتيت اليوم. فأنا أحرر المجلة مع شاب آخر، وهو أكثر راديكالية مني ولن يحب أن ينشر قصيدتك في العدد، ولكنه طار اليوم إلى الهند، وبعد عدة أيام سنطبع العدد، ولن يكون بمقدوره إخراج قصيدتك منه. منذ متى وأنت تكتب الشعر؟ تأمل حزقيل وقال: منذ أيام معدودة، وحتى الآن لم أنته، أولاً عن آخر، سوى من ثلاث قصائد.
خرج من البيت وألقى التحيات، قال لنفسه إنه ربما أخرج نقوداً في رحلته أكثر مما قد يدخل إليه، ولكنه سمع عن محل للأسطوانات في محانيه يهودا وكل الأسطوانات فيه عربية. لن يكونا مثل والديه اللذين كانا ينتظران الأنغام من الخارج، من الشارع، وإنما ستتردد الأنغام من داخل البيت، ليُسعد تشحلة بأحد ألبومات أم كلثوم التي تحبها للغاية، سيأتي للحكيم بأناشيد دينية من بابل، سيذكّر مزال بأنغام المغرب، وسيعثر لنفسه أيضاً على ما أحبه أبواه. توجه من شارع إجريفس لشارع السوق الواسع، ووجد فوراً على اليمين محل الأسطوانات، قريباً من مدخل السوق، دخل وقال: أريد شراء عدة أسطوانات لأسعد الناس، سأله البائع المسن: ماذا تريد؟ قال له: أم كلثوم، قال له: اشتر أمل حياتي ليفرحوا. قال: وموسيقى عراقية. سأله: من هنا أم من هناك؟ قال: لنبدأ من هناك. يهود أم غير يهود؟ قال له: هذا وذاك. قال له: لتبدأ بهؤلاء، ووضع أمامه ألبوماً للغزالي وألبوماً لسليمة باشا وألبوماً لصالح وداود الكويتي، وربما ترغب أيضاً في بعض من الجدد، ووضع أمامه إلهام المدفعي وكاظم الساهر، وماذا تريد من هنا، ديني أم غير ديني، بالعبرية أم العربية؟ أجابه: هذا وذاك. ووضع أمامه يهودا عوڤاديا فتيا ويائير دلال وميلو حمامة وفلفل جورجي ويعقوب نشاوي. دهش من الأخير وسأله من هذا، قال له: هذا الكبير بين الشباب، وهو يملأ القاعات في رامات جان وفي أور يهودا والقليل هنا في القدس. شرح له حزقيل أن اسمي عائلتيهما متطابقان، وطلب عدداً من ألبوماته، وسجل أمامه تواريخ حفلاته. وجد إحداها قريبة وسوف تقام في القدس. قال أيضاً: أريد شيئاً من المغرب. أعطاه سليم الهلالي وسامي المغربي وزُهرة الفاسية والربي حاييم لوك. قال: كم عليّ أن أدفع لك؟ قال له: كل ألبوم بثلاثين شيكل، ولكنني أبيع للإشكنازيين بخمسة وثلاثين شيكل. سأله: هل أبدو لك إشكنازياً؟ قال له: لكنتك تقول لي نعم واسم عائلتك يقول لا وملامح وجهك تحيرني لسنوات طويلة. رأى أنه قد تكدست لديه ألبومات كثيرة وأنه على وشك خسارة نقود كثيرة في مقابل البحث عن عمل، سأله: كم سعر الألبومات كلها معاً؟ قال له: أرى أنك لا تعرفها وأجري كبير مقابل هذا التعرف الأول، سعرها جميعاً أربعمئة وثمانون شيكل وسأدعك تدفع لي أربعمئة شيكل فحسب. قال إنه سيضع بعضاً منها ويدفع ثلاثمئة فقط، ثم يذهب إلى البنك لإخراج نقود. ذهب وعاد وهو يفكر هل ستسعد تشحلة أم ستغضب على يومه، دفع وانتظر الحافلة ثم تحرك.
عاد لبيته ووضع أمام راحيل ألبوم أم كلثوم الذي اشتراه لها، ورأى أنها سعيدة وقبّلها، وضعا الألبوم لكي يتردد صوته ويعلو على أصوات البناء القريبة، وقال لها: في الحقيقة لم أجد لي عملاً، رغم ذهابي لأماكن كثيرة، وأعترف بأنني أخرجت نقوداً كثيرة بينما كان عليّ ادخارها، وأراها كل ما اختبأ في أكياسه، "ابن الرجل ذي البأس" في مجلديه، كراسة الشعراء الأسبان، عدة جرائد بالعربية ومجلة واحدة، الكراسات الثلاثة الرفيعة للشعر العبري الراديكالي، والتي ذكر لها أنه أخذها بالمجان، والأسطوانات. لم تغضب منه بل قالت: أريدك أن تكون قادراً على العودة كل أسبوع وبيدك الأكياس، ولكن في نفس الوقت فنحن نحتاج للرزق، ولن تستطيع الشراء هكذا ما لم تجد لك عملاً، وما زال بإمكاننا الانتظار يوماً أو أسبوعاً أو أسبوعين، ولكن ليس أكثر. قال لها: استشهد أمامي الحكيم بحِكم من ألف ليلة وليلة ومن كلام شهرزاد. قال لي: دع البيت يبكي على من أسسه ولا تدع نفسك تبكي على البيت، حذرني من أنه ليس كل مرة تسلم الجرة، ولا كل مرة تتخلص السمكة من الشبكة بدون أن تصعد على اليابسة. قال الحكيم إن الندم يأتي دائماً حيث لا ينفع وبدأ يحكي القصص، وتعلمتُ منه هذه الجمل لأقتبسها أمامك كمقولات، أقول لك أنتِ على حق وأنا على حق وليس علينا أن نصبح كقدْرين يصبان بعضهما في بعض، وجيد لنا أن نكون كسكينين يُسنّ الواحد في فخذ الآخر. قالت له: جُمل كثيرة لديك لتستشهد بها، كمقولات وكحقائق، وهي جميلة في نظري أنا أيضاً، ويمكننا قضاء عمر بأكمله معها، لولا تلك الجنينة في بطني، لولا أنهم فصلوك ولولا ليلة المنهاج التي نعد فيها وجبة للحكيم ولزوجته ولأمه ولضيوف آخرين أنت تريدهم، لولا أننا موشكون على الإنجاب بعد أقل من أربعة أشهر، لولا أن الطعام يحتاج مالاً، وحتى الشقة تحتاج مالاً، والماء والكهرباء والغاز والتلفون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى