يونس بن عمارة - أجندة الجنديّ يُوهانس ماكسويل.. قصة غموض وإثارة قصيرة

كُنت ولا أزال هاويا لجمع القطع النّادرة، ولمّا أقول نادرة فإنّي أعني الفريدة أيضا وبيتي مُصمّم خصّيصا لحفظ أغلى وأثمن القطع الفنيّة والتّحف.

أدينُ لهذه الهواية بثروتي والتي لم تكن هدفي أبدا، أنا إنسان أحبّ هوايتي وهذا كلّ شيء.

بدأت أوّل هوايتي هذه في بيت أسرتي الأوّل، لمّا كنت طفلا، ثُمّ ولمّا دخلت المدرسة، اتّجرت في بيع الخُردوات وبدأت أكوّن مجموعتي الخاصّة.

والمجموعة الخاصّة في عُرف هواة ومُحترفي جمع القطع الفنيّة:- هي الحصيلة من القطع الأثريّة التي لا يبيعها، وإنّما يحتفظ بها، كسيّد مُجتمع راق يتذوّق الفنّ ولا يجري وراء شهواته دوما… وفي مرحلة الثّانويّة كنتُ قد كتبتُ مقالا في “فنّ جمع القطع الفنيّة”.

وكنتُ أوّل الأمر أحتفظ بالقطع التي تُعجبني، كمكتبي الصّغير من شجر الأبنوس، المصنوع منذ عهد الاستعمار النّازي ومكتوب عليه بحروف لاتينيّة “غولدنبرغ”.

ومن قطعي قارورة حبر تُستعمل لحفظ حبر الكتابة، أهدتنيها راهبة تُدعي إميليا باتت من خُردوات الديْر لمضيّ زمن طويل عليها، ولم تحتفظ بها لأنّها لا تختص براهب أو قدّيس ليتبرّك بها، ولكنّها كانت تخصّ كاتبا مرّ على الدّير لاجئا ولمّا حاول الاعتداء على الرّاهبات ورغم توبته وإهدائه القارورة الخزفية كتذكار، إلّا أنّها أهدتها إليّ كي تتخلّص من ذكرى ذلك الآثم حتّى ولو تاب.

وما إن تخرّجتُ من الجامعة في ميدان الإشهار، حتّى تبدّلت نظرتي لهذه الهواية حين أرسل إليّ الدوق هانرفري من البندقيّة هذه الرّسالة:

“سيّد جون غولد شميدت، تحيّة عطرة:

لقد ذكرت في مقالتك “فنّ جمع القطع الأثريّة” أنّك حينما تعثر على قطعة فنيّة أو أثريّة تحوز إعجابك فإنّك لا تريد بيعها لأيّ أحد، ولكن أن أنصحك أنّك لو اتّبعت هذا المنهاج فلن تبيع شيئا، لأنّ المثل في مُهمّتنا يقول “إذا بعت ما لم يُعجبك، لن تقبض ما يعجبك” والمثل الايرلندي يقول “يحبّ الخبّاز الخبز، لكنّه يبيعه” ولا أريد أن أروي لك حكايات الحيوانات، وأنا كما علّمني باحث مُجدّ في هذا العلم، وأقول لك أنّ العنكبوت تأكل زوجها بعد الالقاح والأسد يأكل الأشبال إن لم تصطد اللبؤة شيئا. والمثل السّابق، ولا أعني به المثل الايرلنديّ، مثل صادق جدّا، لأنّ جامع الآثار لا يجمع إلّا شيئا نادرا محبوبا يحبّه كلّ النّاس أو يعجب به مُعظمهم من المُهتمّين بهذا الموضوع، وأنا أقول لك لو لم يُعجب به المُشتري كما أُعجبت به أنت وأردت الاحتفاظ به لما تقدّم لشرائه.”

وهكذا صرتُ أبيع كلّ الآثار، أعجبتني أو لم تُعجبني حتّى مكتبي الذي أحبّه كثيرا بعتُه، الشّيء الوحيد الذي قمت به هو أنّه لمّا أرسل العالم الأثريّ “بول كاستراخ” بنسخة إليّ من كتابه “فنّ جمع التّحف، كتاب للهُوّاة والمُحترفين” وسأذكر بعض أبوابه: فنّ جمع الفراشات النّادرة، نصائح للتّحنيط، فنّ جمع الجلود ودبغها (طبعا النّادرة)، اصنع مدبغتك الصّغيرة في بيتك (مع ذكر الموادّ اللازمة) الموادّ اللازمة أو خزانة الدباغ أشهر الجلود والفراء الغالية الثمن، أشهر عناوين الباعة الحاليين، فنّ جمع الخزف الصّيني، أشهر الكلمات الصّينيّة التي غالبا ما تُكتب على الخزف وشرحها، الخطوط العربيّة والرقاع الثّمينة، كنوز البحار، كنوز الكهوف البريّة، طرق سحريّة عربيّة لاستخراج الكنوز…إلخ

وكتب في آخر فصول الكتاب: “خاصّ بالمُحترفين” وتحته عنوان فرعيّ: “الأرشيف العامّ لأعمال المحترف جمع الآثار الفنيّة والإنسانيّة عامة”.

وقال حرفيّا: “يجب على المحترف في هذا الفنّ أن يقوم بنسخ كلّ الأوراق المهمّة (وعليه نسخ الأوراق التي لا يرى أنّها مهمّة (الآن أو مُؤقّتا فقط) في ألبوم لوحده وعليه ألّا يعتقد أنّ أيّ ورقة –مهما كانت بسيطة- غير مُهمّة وليحتفظ بها في ألبومه) والتي تُعتبر وثائقا (آثارا) يُمكن بيعها. وعليه أن يُصوّر كلّ القطع والآثار التي حازها تحت يديه حتّى ولو لم يبعها.

وعليه أخيرا أن يتّبع هذه المُلاحظة: نسخ العديد من هذا المصنّف (السّجل أو الألبوم) الذي يحوي النّسخ والصّور، ويمكنه طبعه وبيعه كحصيلة هوايته واحترافه.

وعليه أيضا إتّباع هذه الخطوات:

– ألّا يُهمل تصوير أيّ قطعة كانت قيمتها زهيدة أو تافهة.

– ألّا يُصوّر النّسخ المزيّفة (عليه تصوير النّسخ الأصليّة) إن كانت من لوحة فنيّة لا تحتمل فلاشات التصوير، ولكي يتمكن من ذلك، عليه إقتناء آلة تصوير دون فلاش أو يقتني مصوّرات مُختصّة. وإن كانت غالية وتُستورد من ألمانيا، فعليه الاشتراك في إحدى جمعيّات الهوّاة أو المحترفين لكي يتمكّن من استعارتها…”.

وانخرط جون غولد شميدت في عدّة ملاحظات مهمّة لكلّ هاو أو محترف، وهذا ما قمتُ بعمله أيضا، أي صنع سجلّاتي الخاصّة.

* * *

لم أكن مُحترفا مُختصّا في شيء ما كالطّوابع البريديّة أو الخزف أو المطبوعات النّادرة، بل كنتُ محترفا عامّا في كلّ شيء، والمثل الانجليزيّ يقول “الذي يعرف كلّ شيء لا يعرف شيئا” ولم تكن النّاس تنظر إليّ نظرة محبّبة بمهنتي الغريبة هذه، غير أنّي سأروي شيئا طريفا لمّا أعلنت في جريدة لندن اكسبريس حصيلتي الموجودة لديّ لبيعها، بعث إليّ أحدهم، مجهول الهويّة: “جون، إنّ هته المهنة التي تمتهنها، مهنة حقيرة للغاية، مقصدا وغاية ووسيلة وطالما سمعنا عن لصوص الآثار والمتاجرين بتراث الشّعوب والذين يُكوّنون ثروتهم بطرق غير شرعيّة من خلال هذه الهواية البغيضة. إنّ حصيلة سلّة مهملات بيكاسو ومسودّة رواية كاتب وعدّة خردوات قديمة لا نفع منها وعظام حيوانات مُتحجّرة.

أظنّ أنّك يا سيجون، لست إلّا رجلا غريب الأطوار، أو رجل خردوات من نوع مُتحضّر أو مُحتالا بشكل مُميّز”.

والآن سوف أرجع إلى كتاب “بول كاستراخ” ونقرأ “لكي تحفظ تحفة من الخزف الصّينيّ، اعلم أنّ الخزف الصّينيّ (أو أيّ خزف آخر) نوعان، نوع مشوي مرّة واحدة ونوع مشوي مرّتان والثّاني أجود وأعلى سعرا.

كما أنّ القِدم والمكانة التّاريخيّة لها ثمنها أيضا. إذا كنت في سيّارة، درّاجة، أو حقيبة باختصار ناقل أو مركب يهتزّ باستمرار فاستعمل حافظات التّحف (تجدها عند جمعيّات جامعي التّحف، وتُقدّم كهدايا في مجلّة الهواة “عيّنات من الماضي”) وهي علب كرتونيّة وأحيانا بلاستيكيّة مملوءة بسحاب بلاستيكيّ (حُبيبات بيضاء مُلتصقة ببعضها) أبيض كالذي يأتي مع الأجهزة الجديدة دوما كي يحفظها من الانكسار. هذه الطّريقة تؤمّن عدم انكسار الخزف أو التّحفة بالاهتزاز ولكن يُمكنها كسر التّحفة إن سقطت على الأرض. الطّريقة الثّانية هي وضع الخزفيّة في علبة مملوءة بالرّمل، وهذه الطّريقة سليمة ونسبة تكسّرها حين تسقط على الأرض 15% فقط. أمّا الطّريقة الثّالثة فهي وضعها في القطن وهذه أشهر الطّرق، ونسبة تكسّرها إن كان القطن كثيفا من جوانبها كلّها 5% فقط. والطّريقة الرّابعة وضعها في شاش طبيّ أو قماش، وإن انعدم التّراب يُمكن وضع حصى صغير أو أوراق الأشجار.

هذا كلّه إن كنت خارج المدينة في رحلة تنقيبيّة أو كنت في منطقة نائية.

يُستعمل الشاش الطّبيّ، إذا كانت العيّنة طويلة ولا تدخل في علبة الحفظ وإذا كنت لا تملك العلبة أصلا (فلا يُمكنك في هذه الحالة ملء الحقيبة بالرّمل مثلا! أو بالقطن فهو لا يكفي ويلزم للعيّنة كثافة كبيرة من القطن لئلا تنكسر).

ملاحظة أخيرة:- مهما كانت صلابة العيّنة واحتمالها للانكسار، يجب اتّخاذ الاحتياطات وعدم المخاطرة. وهُنا تأتي حكاية أحد باعثي الرّسائل المحليّة (عيّنات من الماضي) المهتمة بهذه الهواية واسمه: آدم سميث.

“لقد وجدتُ عظما مُتحجّرا، صلبا للغاية وقوّمت تاريخه لأوّل مرّة بمليوني سنة، كان صلبا جدّا لذلك فقد رميتُه في الحقيبة هكذا لمّا كنتُ في الغابة وبعيدا عن المدينة… لكن فاجأني دبّ هائج اضطرّني للسّقوط في النّهر وفقد الحقيبة، بعد مدّة وبعد هربي من الدبّ، عدت إلى المكان نفسه لأجد العظم قد تحلّل تماما وبطريقة خارقة للعادة. سألتُ أحد المختصّين كيف يتحلّل العظم بسرعة في مدى أسبوعين أو أقلّ، فقال: إنّ الأمر في الحقيقة يستغرق سنينا، إلّا أنّ هناك بعض الحالات الخاصّة المُتعلّقة إمّا ببكتيريا غريبة أو مرض عضويّ أصلا في العظم…”

وهذا خير دليل على قولنا أنّ من الأفضل عدم المخاطرة بأيّ شيء…”.

ثمّ نقرأ في فصل آخر: “كيفيّة حفظ الأزهار النّادرة.

إذا كُنت في منطقة نائية ويتطلّب رجوعك للمنزل مدّة طويلة أو لا بأس بها عليك أن تقوم بما يلي:

– الرّسم التّخطيطيّ في كرّاستك لشكل الزّهرة ومميّزاتها.

– تدوين المُلاحظات المُهمّة مثل: لونها (في اللحظة التي حملتها فيها، فقد تذبل الزّهرة ويتبدّل لونها).

– مكان وجودها (طبيعة المكان= مشمس، مظلل، حجري، رملي…).

– النباتات التي توجد قربها (رسمها أو وصفها)

– تعلّم جيّدا كيف تقلع النّبتة. يُمكنك إذا عرفت طبيعتها، معرفة كيفيّة استقرار جذورها ليسهل القلع، وكما يقول كُتّاب الزّراعة لمايكل جستراون “أسهل شيء قطف الفطور” ببساطة لأنّها لا تملك جذورا (وإن كانت في الحقيقة ذات جذور) كالتي عند النّباتات الأخرى. وفي كتاب مايكل جستراون الآنف الذّكر تجد وصفا مفصّلا لكيفيّة قلع أصعب النّباتات، وحتى قلع نبتة مجهولة وكيفيّات حفظها.

كيفيّة حفظ بسيطة: وضعها في قارورة مُعقّمة بالكحول أو مادّة مطهّرة ووضعها في مكان جافّ وبارد. (توجد لدى جمعيّات الهواة كلّ الأجهزة والموادّ والمعدّات لهذا الغرض) إذا كنت منقطعا في ناحية بعيدة يُمكنك تدوين الملاحظات وتجفيف الزّهرة على ورق عادي كراسة الرّسم وتدوين الملاحظات:

عليك اختيار كرّاسة ذات صفحات ناصعة البياض لا تحمل أيّ عنوان خارجي ولا تشير إلى محتواها وغير مخطّطة من الدّاخل.

ملاحظة أخيرة: في الظّروف العصيبة، يمكن الكتابة ورسم شكل الزّهرة في أيّ كرّاسة كانت كاحتياط. ولكن على الهاوي وخاصّة المحترف أن يتّخذ ما أسميناه “حقيبة الاختصاص” (تُعطى كهديّة في مجلّة “عيّنات من الماضي”) انظر تفاصيل ما يجب أن يكون فيها في الصّفحة 17 من هذا الكتاب وفي الدّراسة المُعمّقة المنشورة في العدد الألف لـ”عيّنات من الماضي” المجلّة اللندنيّة المتخصّصة…”.

* * *

كان كلّ هذا عرضا مملّا وفجّا لأصول، أو النزر القليل من أصول مهنتي، والتي كانت منذ زمن قريب هواية لي، والتي دفعتني لأن أقول جادّا غير مازح “رُبّ مهنة هواية” و”رُبّ هواية مهنة”.

المثير في قصّتي أجندة عثرتُ عليها بطريق الصّدفة في إحدى الخزائن بالمكتبة الملكيّة أثارت اهتمامي بتجليدها الأنيق الذي يقول أن تمّ على يد سمعان الألوسيّ اللبنانيّ الأصل في العاصمة لندن وتمّ تجليدها النّهائي بمؤسّسة سمعان نفسه التّابعة للمطبعة الملكيّة.

أمّا الورق فلم يُشر إليه، غير أنّه حسب التّواريخ ورق غال آنذاك، والأجندة لا تحمل شيئا غير اسم طُبع بالمطبعة “يوهانس اماكسويل – جنديّ مُشاة” والأمر حتّى هُنا لا يتعدّى حدود المألوف فكثير من الجنود في حقبة الحروب يحملون مثل هذه الأجندة التي تهدى لهم من المطبعة الملكيّة.

ولكنّ المثير في الأمر، هو أنّي لمّا قدّمتها للسيّد السيْر جيروم هاتينغ مدرّس علوم الآثار بلندن ليتفحّصها حدث أمر عجيب، فقد وجد فيها السيّد كتابات كثيرة بخطّ انجليزيّ رائع وجيّد يعرّف بالجنديّ ويشكرني أنا باحث الآثار جون على مجهوداتي في إعادة الاعتبار لأشياء قديمة كهذه. ولكن أخبرني جيروم أنّها في الصّباح كانت فارغة تماما وهذا بالطبع ما ذكّرني بقصّة بوليسيّة رائعة ألّفتها لمجلّة “عيّنات من الماضي” السيّدة هايفي ميتريثنغن. وهي قصّة كهذه تماما استعمل المُحتال ثقافته الكبيرة لخداع عجوز غنيّة وقال لها أنّ هذا الكتاب الفارغ مسحور يُجيب عن أيّ سؤال تسأله ولمّا سألته عن أخبار ولدها ووضعته تحت وسادتها، كان قد قدّم لها مُخدّرا قبل النّوم واستبدل الكتاب الفارغ بآخر مملوء بأخبار ولدها من مُخيّلة المجرم الخصبة. وكانت فرحة العجوز عارمة ولم تشكّ في شيء، حتّى جاء صديقها البخيل البنكيّ بول وحرّضها على وضع الكتاب في خزنته المُحكمة الإغلاق لرؤية ماذا يحدث… وكان بول ذكيّا وفحص الكتاب الفارغ عند خبير ألّا تكون فيه كتابة بالحبر السّريّ ولا غيره. ووضعه في الخزنة وأقفل عليه، اضطرّ المُجرم لخيارين: خلع الخزنة أو استبدالها كلّية، وكان الخياران كليهما مُستحيلان وأمهلهما المجرم شهران كاملان وقال أنّ الكتاب بطيء في الأماكن المغلقة. وفكّر المجرم أن يستبدل الكتاب حين يُخرجه جيروم ولا يرى فيه شيئا، ولكنّ جيروم كان مُتحفّظا جدّا. كان هناك حلّ ثالث هو قتل جيروم ولكنّه آثر الانتظار.

وفي المهلة المحدّدة كان الكتاب قد مُلئ عن الآخر كتابة أسرار جيروم والسيّدة العجوز الغنيّة، ولكن بعد مشاكل ومصائب عديدة اكتشف أنّ جيروم هو الذي فعل ذلك ببراعة… إلخ

ولكنّ قضيّتي، وإن كانت تُشبهها إلّا أنّها مختلفة عنها، فقضيّتي حقيقيّة تماما، وسؤال الأجندة يكون بوضع ورقة بالسّؤال في أوّل صفحة فيها بين الغلاف والورقة، وتركها في أيّ مكان.

وكانت تجيب حتّى عن أسئلة مُستقبليّة، وإن كانت في قصّة السيّدة ميتريثنغن شبيه هذا. إذ كان جيروم متعاقدا مع صحفيّ لينشر له أخبارا كاذبة ضمّنها في الكتاب، لتتطابق الجريدة المُستقبليّة مع الكتاب…

غير أنّ إجاباتها كانت دقيقة للغاية، ويوقّع على كلّ إجابة شخص تاريخيّ، ويشير بعدها الجنديّ ماكسويل بأنّه التقاه في الكون الثّامن أو السّابع.

لا يستطيع أكثر الأدباء مُخيّلة كتابة ذلك الكمّ الهائل من المعلومات الدّقيقة والموثّقة والأمر ليس متعلّقا بالخيال فحسب، بل والإجابات الصّحيحة.

مثلا سألت: “أين تضع السيّدة هايفي مُسودّات روايتها؟” فأجابني ماكسويل: أنّ عليّ أن أتثبت: رواية أم قصّة، وأجابني، مسودّات الرّوايات تعطيها السيّدة هايفي لأستاذ اللغة بالجامعة الملكيّة لأنّها لا تجيد الإملاء كثيرا قبل أن ترسلها إلى المطبعة.

ارتعتُ لهذا الخبر المدهش، وسألته سؤالا غريبا: “كيف يتمكّن من الكتابة على هذه الأجندة؟ فأجاب أنّ هذه الأجندة مسحورة فعلا، وأنّ الإجابات تأتي لوحدها! من عالم الواقع”.

وبعد ذلك سألته “هل يمكن صنع واحدة مثلها؟” فأجاب أن ذلك مستحيل وأنّ صانعها صنع نصف مليون نسخة وبثها في العالم، ثمّ قضى نحبه، ولم يعد أحد يعرف سرّ صناعتها، جرت محاولات كثيرة قبل أن يتمكّن عالم آثار يدعى سيمون من صنع واحدة لكنّها تكتب بلغة غريبة يلزم ترجمتها إلى اثني عشر لغة سحريّة قبل ترجمتها لأيّ لغة عادية، وكانت هذه العمليّة مرهقة لأيّ مالك لها، ويستغرق ذلك وقتا طويلا، وعيبها الأكبر أنّه لا يمكن صنع سوى نسخة واحدة منها.

طفقتُ بعد ذلك أسأله عن كلّ شيء، عن غوامض أسرار حياة العلماء والمفكّرين، وماذا كانوا يعملون، وسألته عن المستقبل، كانت هذه الأجندة كلّ شيء في نفس الوقت: روايات مسليّة، موسوعات، كانت رائعة فيمكنني من خلالها قراءة أعظم الرّوايات العالميّة، وكانت الإجابة تأتي بمجرّد غلق وفتح الأجندة، كانت الأجندة كبيرة وكثيرة الصّفحات ولمّا تقع في سؤال أو رواية أو كتاب كبير تكتب لك “تابع” لتغلق وتفتح وتكمل قراءتك والهمّ الوحيد كان أنّ الأجندة تأتي بالأصل، وإن كانت هناك ترجمة، فإنّها تترجمها، وإن لم يترجمها المفكّرون بعد فعليك أنت أن تقوم بذلك.

هكذا وبهذه الأجندة أصبحت حياتي نمطا آخر غير الذي عرفته، وكان عيب الأجندة هو الصّور فلا تأتيك بالصّور إنّما تصف لك كتابيّا كلّ شيء، وكان أسلوب الجنديّ رائعا كأسلوب والتر سكوت المُحبّب للنفس غير أنه ممزوج بالمرح والسخرية.

أسّست بعد عدّة شهور من عثوري على الأجندة مجلّتين، مجلّة “المنجّم الحقيقيّ” لأنشر فيها أخبار المستقبل. ومجلّة “الأديب الانجليزيّ” لأنشر فيها حسب مقدّمة العدد الأوّل: كلّ النّصوص المفقودة بقلمي كإبداع متمّم لمن فقدنا آثارهم. وقد أُعجب النّاس بمجلّة “المُنجّم الحقيقيّ” حين استُضفت على المحطّة التّلفزيونيّة وتحدّيتُ بإلقاء خبر مستقبليّ عن رئيس الوزراء تمّ بالفعل واعتبرتُ أكبر ساحر في بريطانيا آنذاك. وبعد تطوّر شركتي “شركة جون غولد شميدت للاستثمارات العامّة” والتي ترأس اثني عشر مجلّة تنجيم ومجلّتين أدبيّتين ومطبعة عامّة ومكتب سكريتاريا من أعظم مكاتب أوروبا، كان الرّبح وفيرا، فمجلّة “المُقامر” التي تُباع قبل بدء السّباقات والتي تُعلن نتائجها علناً ومؤكّدة تُباع بـ 700 دولار النُسخة ومجلّة “انقاذ الشّرطة” التي تُباع سرّا لشرطة اسكوتلنديارد وبعد نجاح أكثر من مئة مهمّة أصبح قائد اسكوتلنديارد يشتريها دائما، والنّسخة الواحدة بـ50000 دولار تكفّلت وزارة الدّفاع –بعد مفاوضات عديدة- بدفعها.

وهكذا كان عليّ أن أنظّم عمل الأجندة، ولم أطلع سرّي إلّا على جيروم هاتينغ الذي يعرف مُسبقا وكان كلّ من يعرفني يحسبني منجّما ماهرا وكفى.

كان القضاة إذا أرادوا معرفة سوابق مجرم، بعتُ لهم نسخة مجلّة “القاضي” الخاصّة بـ100000 دولار.

وبعد عدّة سنوات أصبحتُ غنيّا جدّا، وطوّرتُ شركتي إلى عملاق شركات عالميّة تهتمّ بالنّشر الصّحفي والأدبي وينضمّ تحت لوائها 2000 موظّف و200 فرع في أرجاء أوروبا.

وهكذا تنامت ثروتي وأصبحت كالبحر جرّاء هذه المجلّات، وكانت السكرتاريا التي أقوم أنا من خلالها بأعمال التّنجيم مباشرة للزّبائن تكسبني نحو 200000 دولار يوميّا. وخمّنتُ بعد مدّة بفتح قناة خاصّة بي، غير أنّ أحدهم أشار إلى أنّ أرباحها ضئيلة نوعا ما.

لم يدم الأمر على هذه الحال، فالأجندة كتبت ذات يوم “سوف تتوقّف عن الكتابة يوم 17 من آذار” وبهذا أعلنتُ مؤقّتا عن توقّف كلّ المجلّات التي تعتمد اعتمادا مُباشرا على الأجندة..وقمت بشراء جزيرة صغيرة ببحر الشمال، شمال ألمانيا وبينت فيها فيللتي وحديقتي الشّاسعة… وقُمتُ بشراء عدّة شركات عاديّة في صناعات مُتعدّدة لكي أضمن المورد الدّائم… واستقررتُ بعد زواجي الثّاني، وانتظرتُ أن تعود الأجندة لعادتها القديمة ولكنّها أبت… وأصبحت أجندة عاديّة.

على كلّ حال لم أفكّر أن أعطيها لطالب كي ينجح بتفوّق في الامتحان، كانت زوجتي أنّا لا تعرف شيئا عن الأجندة حين قالت “آه يا جون… لقد كانت لديّ أجندة لن تصدّق…”

وهكذا بدأت مشاكلي وعرفتُ أنّ الأجندة توقّفت تماما حين عرفت أنّا ولم أتمكّن من سؤالها عن سبب توقّفها بسبب زواجي بأنّا، حبّي الوحيد، لكي تعود الأجندة، لكن أخبرتها بكلّ شيء.

وهكذا… حرقنا الأجندة بنار المدفأة، وقضينا معا ليلة طويلة دافئة، كان ثمرتها ابننا الاقتصاديّ الرّائع فيما بعد: جان-فيليب غولد شميدث.

-النّهاية-


* نقلا عن مدونة يونس بن عمارة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى